إنه وقتٌ مُحيِّرٌ للأمريكيين عندما يتعلَّق الأمر بالشؤون العالمية، حيث توضِّح الإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن من ناحيةٍ، لماذا حان الوقت للانسحاب من أفغانستان، ولكن من ناحيةٍ أخرى لماذا حان الوقت للدفاع عن أوكرانيا. إنه الوقت الذي يريد فيه الأمريكيون أن يكون جيشهم أقل التزاماً بالخارج. والناتو يشعر بالضيق. والأنظمة الأخرى التي تتطلَّع إلى التوسُّع، مثل روسيا والصين، تزداد جرأةً ويتصرَّف كلٌّ منها كأنه حليف للآخر.
وكما هو الحال في معظم حالات الوفاة، أسهمت العديد من العوامل في انتهاء مكانة الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنَّ هناك قوى هيكلية في النظام العالمي عملت بشكل حتمي ضدَّ أي دولة تراكم لديها هذا القدر من القوة، بحسب وصف Foreign Affairs، التي كانت متوفرةً لدى الولايات المتحدة.
غير أنَّ الحالة الأمريكية اشتملت على إساءة الولايات المتحدة لاستخدام هيمنتها، ونفوذها، وخسارة حلفائها، وتشجيع أعدائها عليها، من موقعها غير المسبوق. والآن، يبدو أنَّ الولايات المتحدة فقدت الاهتمام، أو بالأحرى فقدت الإيمان، بالأفكار والغايات التي بعثت الحياة في حضورها الدولي لثلاثة أرباع القرن.
واليوم، يخضع "عصر القوة العظمى الأمريكية" للاختبار بطرقٍ جديدة في جميع أنحاء العالم، كما تقول شبكة CNN الأمريكية، وفيما يلي أبرز ملامح تغير النظام العالمي الذي تقوده أمريكا.
1- أوروبا الشرقية
بعد مرور 30 عاماً بالضبط على سقوط الاتحاد السوفييتي، تناور روسيا للتوغُّل أكثر في أوكرانيا، إحدى جمهورياتها السابقة. أما الناتو، فقد أصبح فريسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد وضعت إدارة بايدن 8.500 جندي في حالة تأهُّبٍ قصوى لنشرهم في أوروبا الشرقية كرادعٍ لروسية وضمانةٍ لدول الناتو.
توجد لدى الولايات المتحدة عشرات الآلاف من القوات في أنحاء دول أوروبا الغربية، لكن وفقاً لما ذكرته صحيفة The Guardian البريطانية، السبت 29 يناير/كانون الثاني 2022، فإن "البنتاغون" يناقش إرسال عدد صغير من التعزيزات إلى أوروبا الشرقية.
كذلك أشارت الصحيفة إلى أن بايدن هدد بفرض عقوبات ستطال شخص الرئيس الروسي بوتين في حال أقدم على غزو روسيا، فيما قال المتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي، إن الـ8500 جندي هم في حالة "تأهب قصوى"، لاحتمال انتشارهم بهدف مساعدة دول الناتو.
2- أوروبا الغربية
يحتاج النفوذ الأمريكي إلى مزيد من الدعم هناك، كما تقول "سي إن إن"، ومن أجل توحيد دول الناتو ضد روسيا، تضطلع الولايات المتحدة بدور وسيط الطاقة، وتسعى للحصول على ضمانات للوقود من الشرق الأوسط وآسيا لتقليل نفوذ روسيا كمُورِّدٍ رئيسي للغاز الطبيعي إلى ألمانيا.
وتجد ألمانيا ودول أوروبية أخرى نفسها في مأزق مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة وسط ضغوط ومطالب من واشنطن لاستخدام خط الغاز "نورد ستريم 2" كورقة ضغط لردع روسيا عن أي توغل يستهدف أوكرانيا، فضلاً عن مخاوف من أن يؤدي الاعتماد على هذا الخط إلى الإضرار بقطاع الطاقة في الاتحاد الأوروبي.
تعتبر الولايات المتحدة خطوط أنابيب الغاز الروسية أداة جيوسياسية لروسيا لتقويض الطاقة والأمن القومي، ما زاد من نفوذ موسكو على أوروبا، حيث ارتفعت أسعار الغاز. وتعرضت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لانتقادات من مشرعين من الحزب الجمهوري، "لأنها لم تفعل ما يكفي لوقف المشروع"، وانتقدت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، الخط، منذ إطلاق خط نورد ستريم1، الذي افتتح في عام 2011.
وتأكدت مخاوف الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، منذ ذلك الحين، إذ أصبحت أوروبا تعتمد على نحو 43% من وارداتها من الغاز الروسي، وفق الأرقام التي قدمها تقرير سابق لمجلة Economist البريطانية.
3- آسيا
تمثل أزمة تايوان، الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي التي طالما ابتغتها الصين، اختباراً كبيراً للإدارة الأمريكية، مع قيام بكين بمهماتٍ جوية متكرِّرة بالقرب من تايوان مؤخراً. وجاء أكبر توغل من هذا القبيل هذا العام بعد يومٍ واحدٍ من قيام الولايات المتحدة، إلى جانب اليابان، بنقل أسطولٍ من السفن إلى بحر الفلبين، كجزءٍ من تدريباتٍ عسكرية.
وفي هذه الأثناء، عزَّزَت كوريا الشمالية، المنعزلة عن العالم، اختباراتها الصاروخية، متحدية الولايات المتحدة بأسلحة جديدة وقدرات نووية وفرط صوتية غير مسبوقة.
4- الشرق الأوسط
تعرَّضَت القواعد التي تؤوي القوات الأمريكية في العراق وسوريا لهجمات هذا العام بشكل كبير، وانضمت الدفاعات الصاروخية الأمريكية "باتريوت" هذا الأسبوع إلى الإمارات لاعتراض الصواريخ التي أطلقها الحوثيون في اليمن المدعومين من لإيران، حيث استهدفت الجماعة قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات والتي تضم قواتٍ أمريكية.
ثم هناك إيران أيضاً، فبعد أن فجرت الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب الاتفاقية الدولية التي تهدف إلى وقف التصعيد النووي للبلاد، قد توشك إيران على تصنيع الأسلحة النووية بعد رفع حدود تخصيب اليورانيوم.
5- الصعود الروسي و"عامل بوتين"
يشارك بوتين بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ في معظم هذه القضايا- من أوكرانيا إلى سوريا إلى آسيا. لا أحد يعرف على وجه اليقين ما الذي يسعى إليه بوتين. لكن فيونا هيل، الباحثة البارزة في معهد بروكينغز والخبيرة السابقة في البيت الأبيض في الشؤون الروسية، تقدِّم حجةً مُقنِعةً في صحيفة New York Times بأنها تعرف بالضبط ما يسعى وراءه، على الأقل فيما يتعلق بأوكرانيا، إذ كتبت: "بوتين يريد طرد الولايات المتحدة من أوروبا، وكأنه يقول: "وداعاً أمريكا، لا تدعِ الباب يرتد في طريق الخروج".
ووافقت جيل دوجيرتي، الخبيرة في الشؤون الروسية والمديرة السابقة لمكتب CNN في موسكو، على هذا الرأي، إذ قالت: "إنهم يريدون إعادة ما حدث في نهاية الحرب الباردة". وتساعد الحملة الخاطفة لوسائل الإعلام الحكومية الروسية في تشكيل مواقف الجمهور على الأرض.
يشعر بوتين بأن القوة الأمريكية تنحسر، بحسب فيونا هيل، وهي تعتقد أن الولايات المتحدة في نفس المأزق الذي كانت عليه روسيا بعد الانهيار السوفييتي، إذ ضعفت بشكلٍ خطير في الداخل وتراجعت أيضاً بشكلٍ خطير في الخارج.
وتقول هيل إن مواجهة أوكرانيا يجب أن تُقابَل بقوةٍ من الولايات المتحدة لأنها ستتردَّد في جميع أنحاء العالم.
6- الغرب ليس مُوحَّداً بالكامل كما كان
رغم كلِّ المخاطر الجيوسياسية، فإن النفوذ الاقتصادي لبوتين هو الذي أبطأ الوحدة الأوروبية ضد أفعاله. كتبت إيفانا كوتاسوفا لشبكة CNN من لندن أن خط أنابيب الغاز الطبيعي نورد ستريم 2 تحت البحر من روسيا، متجاوزاً أوكرانيا إلى ألمانيا أصبح إسفيناً في الأزمة الجيوسياسية.
لم تتعهَّد ألمانيا بتسليح أوكرانيا مثلما فعلت الديمقراطيات الغربية الأخرى، وكان إدراج خط الأنابيب بطيئاً في المحادثات حول العقوبات ضد روسيا.
يقول تقرير لوكالة Associated Press الأمريكية، إن سجلَّ بايدن كرئيسٍ حتى الآن لا يُبشّر بنجاح مؤكد في مهمّة توحيد الحلفاء في أوروبا ضد بوتين، حيث يُحاول الرئيس الأمريكي إنجاح هذا التحالف على الجبهة الدولية، بعد هزيمة أجندته المحلية على صعيد حقوق التصويت وتوقيعه على مشروع قانون للإنفاق المحلي والمناخ بـ2.2 تريليون دولار.
والآن، أصبح بايدن أمام مهمةٍ عالمية وأكثر خطورة: الحفاظ على وحدة الغرب في مواجهة ما وصفه مسؤولو البيت الأبيض بغزوٍ أكبر، مُرجَّحٍ، للأراضي الأوكرانية بأمرٍ من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
7- احتضار "الهيمنة الأمريكية"؟
استغرقت كلُّ هذه المواقف سنواتٍ في طور التكوين، لكن السؤال هو ما الدور الذي ستضطلع به الولايات المتحدة في المستقبل، وهل هذه هي بداية احتضار الهيمنة الأمريكية؟
تشير مواجهة أوكرانيا إلى أن خصوم الولايات المتحدة يشعرون بالضعف ويرون انفراجةً لهم الآن. كتب ستيفن كولينسون، من شبكة CNN الأمريكية: "تأتي التحديات أمام السلطة الأمريكية في وقتٍ ينتشر فيه تصوُّرٌ واسع النطاق في الخارج بأن واشنطن ليست القوة التي كانت عليها في النصف الثاني من القرن العشرين".
وأضاف: "على الرغم من تأكيدات بايدن بأن "أمريكا عادت"، فإن الانسحاب الفوضوي من أفغانستان العام الماضي أثار تساؤلاتٍ حول كفاءة والتزام الولايات المتحدة.. ويعرف خصوم الولايات المتحدة أن الأمريكيين قد استُنفِدوا بسبب 20 عاماً من الحرب في الخارج، وهو عامل قد يدفع البعض إلى حساب أن واشنطن يمكن أن تتنازل عن التزاماتها الإستراتيجية لأسبابٍ سياسية".
في الوقت نفسه، يرى البعض الآخر أن نهاية حقبة الهيمنة الأمريكية الوشيكة، قد تختلف عن نهاية غيرها من الإمبراطوريات كالاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة، إذ ليست الولايات المتحدة مُفلسةً ولا مُفرطةً في التوسُّع الإمبريالي. وهي لا تزال الدولة الأقوى في العالم، وربما ستظل مُحتفظةً بنفوذٍ أكبر من أي دولةٍ أخرى، ولكنَّها لم تعد تُحدِّد شكل النظام العالمي أو تُهيمن عليه كما كانت تفعل ما يقرب من ثلاثة عقود.