لا يزال المشهد السياسي في ليبيا يكتنفه الغموض، وسط مناكفات بين عقيلة صالح رئيس مجلس النواب وعبد الحميد الدبيبة رئيس مجلس الوزراء، وكلاهما كان مرشحاً للرئاسة، والمعركة الآن بشأن حكومة الدبيبة.
فبعد أقل من أسبوع على تصريح عقيلة صالح أن حكومة الوحدة، التي يرأسها الدبيبة، أصبحت "منتهية الولاية ولابد من تغييرها"، جاءه الرد من عشرات النواب الذين أعلنوا دعمهم لاستمرار الحكومة إلى غاية إجراء الانتخابات أو لعامين.
ويشير هذا إلى أن المعركة السياسية المقبلة ستتركز بين رئيس مجلس النواب ورئيس حكومة الوحدة، ولكل منهما أوراقه وأسلحته التي بدأ في إخراجها لِلَيّ ذراع الآخر.
وكان من المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن ذلك لم يحدث، بعد أن تعقد المشهد مع تقديم سيف الإسلام القذافي وخليفة حفتر أوراق ترشحهما للرئاسة رغم كونهما مطلوبين من جانب القضاء داخل وخارج ليبيا بتهم ارتكاب جرائم حرب.
الدبيبة وعقيلة صالح وجهاً لوجه
ويبدو أن المرشح الرئاسي عقيلة صالح وضع نصب عينيه تنحية منافسه في الانتخابات الرئاسية عبد الحميد الدبيبة من رئاسة حكومة الوحدة، بدلاً من التركيز على زخم إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أقرب الآجال، بعد ضياع الموعد المقرر في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وبعد أن طالب صالح باعتبار حكومة الوحدة منتهية ولايتها، عقد الدبيبة اجتماعا مع عدد من النواب في العاصمة طرابلس، وبعدها بساعات أصدروا مبادرة حملت توقيع 62 نائباً، تضمنت دعوة رئيسي السلطتين التشريعية (عقيلة) والتنفيذية (الدبيبة) للتوقيع على خطة عمل المرحلة المقبلة، والتي تتضمن 8 نقاط، بحسب وكالة الأناضول.
أبرز هذه النقاط دعم استمرار حكومة الوحدة، مع اشتراط إجراء تعديلات وزارية والالتزام بتمثيل كافة الدوائر (الإدارية)، ومنح الدبيبة حرية اختيار الوزراء الجدد، وتحمل مسؤولية خياراته.
والتعديل الوزاري الجزئي يُضعف موقف عقيلة صالح، الذي يريد الإطاحة بالدبيبة، من خلال إنهاء ولاية الحكومة، وليس مجرد تعديل يعزز صلاحياته ونفوذه على الوزراء، والذين لعب النواب أنفسهم دوراً في اختيارهم في مارس/آذار 2021.
والمثير للاهتمام، اقتراح النواب أن تستغرق ولاية الحكومة عامين ابتداء من تاريخ توقيع الدبيبة وعقيلة على هذه المبادرة، في حال لم تجر الانتخابات خلال هذه الفترة.
وهذه المرة الأولى التي يتم الحديث فيها عن تمديد ولاية حكومة الوحدة عامين، بينما يرى عقيلة صالح أن ولاية الحكومة انتهت في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد فشل إجراء الانتخابات في موعدها.
فولاية الحكومة تنتهي في يونيو/حزيران المقبل، بحسب الاتفاق السياسي الذي رعته الأمم المتحدة وحددت المرحلة الانتقالية بـ18 شهراً، وهذا ما أكدته المستشارة الخاصة للأمين العام الأممي ستيفاني وليامز، وأقرت به الحكومة نفسها.
واقتراح تمديد ولاية الحكومة لعامين جديدين، فيه إشارة إلى استبعاد إجراء الانتخابات إلى غاية يونيو/حزيران المقبل، مثلما ترجو وليامز ذلك، بل وتضغط على الأطراف الليبية للحفاظ على زخم الانتخابات، قبل اتفاقهم على دخول مرحلة انتقالية جديدة غير محددة المعالم.
هل يحدث توافق مع حفتر؟
النواب الـ62 أقحموا أيضاً خليفة حفتر في مبادرتهم بعد أن طلبوا من الحكومة الاتفاق مع المجلس الرئاسي لإجراء التوافق مع حفتر "لضمان إنجاح عمل المؤسسة العسكرية والأمنية وتهيئة اندماجها وتعزيز سبل توحيدها".
إذ إن حفتر لا يعترف حتى الآن بسلطة المجلس الرئاسي بصفته القائد الأعلى للجيش، ولا بسلطة عبد الحميد الدبيبة، باعتباره وزيراً للدفاع إلى جانب رئاسته للحكومة، وتتصرف ميليشيات حفتر بمعزل عن أوامر المجلس الرئاسي والدبيبة.
كانت المفاوضات السياسية في ليبيا برعاية الأمم المتحدة قد بدأت منذ اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول عام 2020، بعد أن اقتنعت غالبية الأطراف بأن مسار الحرب لن يؤدي إلى تحقيق أي نتيجة لصالح أي من تلك الأطراف، وهكذا صمد وقف إطلاق النار، باستثناء خروقات متناثرة من وقت لآخر من جانب خليفة حفتر، في محاولة منه لتذكير الجميع بقدرته على إفشال الجهود السياسية مرة أخرى.
ولتفويت الفرصة على الجنرال المتقاعد لإفساد الاتفاق السياسي، اتفقت الأطراف على أن يتولى المجلس الرئاسي منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة في ليبيا بينما يتولى الدبيبة منصب وزير الدفاع، لكن حفتر ظل مصمماً على عدم الانصياع لأي منهما رغم اعترافه الشكلي بسلطتهما.
وحتى اليوم لا يزال أعضاء حكومة الوحدة يجدون صعوبات في زيارة المناطق الخاضعة لسلطة حفتر في الشرق والجنوب، ولكن الدبيبة بالمقابل أوقف المرتبات المالية عن عناصر ميليشيات الشرق.
وقال بيان لميليشيات حفتر إن "حكومة الدبيبة أوقفت صرف رواتب القوات المسلحة في شرق البلاد للشهر الرابع على التوالي، بحجة عدم وجود رصيد". وسبق للدبيبة أن أعلن استعداده لقاء حفتر إذا اعترف به وزيراً للدفاع، لكن الأخير يرفض لحد الآن إخضاع ميليشياته لأي سلطة مدنية.
وتحاول مبادرة النواب جسر الهوة بين رئيس الحكومة وحفتر وإيجاد حد أدنى من التوافق بين الرجلين لتفادي التصعيد، الذي قد يصل إلى غلق ميليشيات حفتر موانئ تصدير النفط، لإجبار الحكومة على صرف مرتبات عناصرها.
كما يضغط حفتر عبر رئيس مجلس النواب لإزاحة الدبيبة من رئاسة الحكومة، ناهيك عن محاولات الوزراء ووكلاء الوزراء بالمنطقة الشرقية تعطيل عمل الحكومة بعد انسحابهم منها، قبل عودتهم إلى مناصبهم في طرابلس.
لماذا تعطل إقرار الدستور؟
وفي ظل محاولة رئاسة البرلمان الإطاحة بالدبيبة من رئاسة الحكومة، لجأ الأخير إلى التلويح بملف الدستور، الذي يمثل أحد أكبر إخفاقات مجلس النواب منذ انتخابه في العام 2014.
وقال الدبيبة الأحد: "مشكلتنا اليوم تكمن في عدم وجود قاعدة دستورية أو دستور حقيقي للشعب"، في إشارة إلى تعطيل مجلس النواب عرض مشروع الدستور الجاهز منذ 2017، على الاستفتاء الشعبي.
وأضاف: "اتركوا الشعب الليبي يختار ماذا يريد، وماذا يحتاج"، والكلام موجه هنا إلى الجهة التي تعرقل إجراء الانتخابات والتي تحاول إقصاءه من الترشح للرئاسة بكل السبل.
وهذه الجهة ليست سوى رئاسة مجلس النواب التي أصدرت قانون الانتخابات الرئاسية دون عرضه على تصويت النواب، وتضمن المادة 12 التي فصلت على مقاس الدبيبة، كي تحرمه من الترشح، بحسب عدة متابعين للملف الليبي.
فالدبيبة، من خلال إثارته لمسألة الدستور، يحرج مجلس النواب الذي كانت مهمته الرئيسية إنهاء المرحلة الانتقالية خلال عام واحد فقط من ولايته، عبر الانتهاء من وضع دستور دائم وتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية. لكن هذه المهمة التي كان من المفترض أن تنتهي في 2015، أخفق مجلس النواب في إنجازها طيلة 7 سنوات.
إذ إن دعوة عقيلة صالح لتشكيل لجنة صياغة مسودة دستور، بدل الذي أعدته "لجنة الستين" المنتخبة في 2017، تمثل مشروع نفق سياسي جديد، من شأنه تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لأشهر طويلة. ففي فبراير/شباط 2014، انتخب الليبيون 60 عضواً في هيئة تأسيسية لصياغة الدستور، لقبت بـ"لجنة الستين"، وفي يوليو/تموز 2017، اعتمدت اللجنة بأغلبية الثلثين مشروع الدستور.
وبدل إصدار مجلس النواب لقانون الاستفتاء وإحالته إلى المفوضية العليا للانتخابات، لبدء إجراءات التحضير للاستفتاء على الدستور، سعى لعرقلة الاستفتاء بكل السبل.
وحصول الدبيبة على دعم عشرات النواب، من شأنه إضعاف موقف عقيلة وإبراز أنه لا يعبر عن موقف البرلمان بقدر ما يعبر عن موقفه الشخصي عندما تحدث عن انتهاء شرعية الحكومة.
كما أن بيان النواب الـ62 الداعم لاستمرار الحكومة جاء ردا على بيان سابق لـ15 نائباً دعوا رئاسة البرلمان لإدراج بند اختيار رئيس حكومة جديد لجدول أعمال الجلسات المقبلة.
وبهذه الخطوة يكون الدبيبة نجح في شق موقف النواب تجاه استمرار حكومته، ومحاولة توجيه بوصلتهم نحو الاستفتاء على الدستور والتحضير لانتخابات لا يتم فيها إقصاؤه منها.