كشفت أزمة أوكرانيا الحالية عن نجاح استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شق صف خصومه الغربيين، حيث يبدو أن ألمانيا باتت تغرد خارج السرب وتقف أقرب إلى موسكو منها إلى بروكسيل.
وكان تقديم قائد القوات البحرية في الجيش الألماني استقالته على خلفية تصريحات له أشاد فيها بالرئيس الروسي، إضافة إلى موقف الحكومة الألمانية الرافض إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، المهددة بغزو روسي يبدو وشيكاً، قد أثار علامات الاستفهام بشأن وحدة الموقف الغربي في مواجهة روسيا بشأن أزمة أوكرانيا، الأخطر منذ أزمة الصواريخ الكوبية قبل أكثر من نصف قرن.
موقف ألمانيا يعكس شرخاً واضحاً في التحالف الغربي في وقت تتصاعد فيه حدة الأزمة الأوكرانية بصورة خطيرة، وبدأت الولايات المتحدة وحلف الناتو تعزيز التواجد العسكري في شرق أوروبا، فيما وصفته موسكو بالهستيريا الغربية.
موقف ألمانيا بشأن أزمة أوكرانيا
في الوقت الذي تتصاعد حدة التوتر بين روسيا من جانب والغرب من جانب آخر بشأن أوكرانيا، يبدو موقف ألمانيا مختلفاً بشكل لافت عن موقف باقي دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف الناتو. فقد سارعت بريطانيا بتزويد أوكرانيا بآلاف الصواريخ المضادة للدروع والدبابات وغيرها من الذخائر، وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن ألمانيا، على الجهة الأخرى، ترفض إرسال أسلحة إلى أوكرانيا. وقالت وزيرة الدفاع كريستينا لامبرشت إن برلين تستبعد مدّ أوكرانيا بأسلحة في الوقت الراهن في المواجهة القائمة بينها وبين روسيا.
كما شدد المستشار الألماني أولاف شولتس على سياسة ألمانيا عدم مد مناطق الصراع بأسلحة فتاكة، بحسب رويترز. وقالت لامبرشت لصحيفة فيت أم زونتاج الأسبوعية: "أتفهم الرغبة في دعم أوكرانيا، وهذا بالضبط ما نفعله".
وأضافت: "ستتسلم أوكرانيا مستشفى ميدانياً كاملاً مع التدريب اللازم في فبراير/شباط، كل هذا شاركت ألمانيا في تمويله بقيمة 5.3 مليون يورو (6.01 مليون دولار)"، مشيرة إلى أن ألمانيا تعالج المصابين بإصابات بالغة بين صفوف القوات الأوكرانية في مستشفياتها العسكرية منذ أعوام.
لكنها قالت إن برلين ليست مستعدة لتزويد كييف بأسلحة في الوقت الراهن. وتابعت: "نفعل كل ما بوسعنا لمنع التصعيد. في الوقت الراهن لن يكون تسليم الأسلحة مفيداً لتحقيق ذلك، ثمة اتفاق على هذا في الحكومة الألمانية".
ولا شك أن موقف برلين يمثل نقطة ضعف واضحة في التحالف الغربي المعادي لروسيا في الأزمة الأوكرانية التي تعتبر الأخطر منذ نهاية الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق.
وقد نشرت صحيفة Wall Street Journal الأمريكية مقالاً عنوانه "هل ألمانيا حليف يمكن لأمريكا أن تعتمد عليه؟ كلا"، رصد كيف أن الحكومة الألمانية تتبع سياستها الخاصة التي تقدم فيها مصالحها الاقتصادية على العلاقات الجيوسياسية بين الشرق والغرب.
ويأتي هذا التشكيك في مدى التزام ألمانيا بالموقف الغربي من روسيا في توقيت حرج من الأزمة، إذ وضعت واشنطن 8500 جندي من قواتها في حالة تأهب استعداداً لنشرهم في أوروبا الشرقية إذا لزم الأمر.
كما أعلن حلف الناتو الإثنين 24 يناير/كانون الثاني عن قراره وضع قواته في حالة تأهب وتعزيز وجوده في شرق أوروبا بمزيد من السفن والمقاتلات، وهي الخطوات التي وصفتها روسيا بأنها "هستيريا" غربية رداً على حشدها لقوات على الحدود مع أوكرانيا.
الغاز الروسي.. حصان طرواده لبوتين
ويبدو أن المسؤولين الأمريكيين يعتبرون أن خط أنابيب نورد ستريم2 لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر ألمانيا هو حصان طرواده الذي نجح بوتين في توظيفه لأغراض جيوسياسية، على الرغم من أن ألمانيا رفضت ذلك التوصيف منذ البداية.
ونشرت شبكة CNN الأمريكية تحليلاً عنوانه "كيف شق خط أنابيب بوتين صف الناتو والاتحاد الأوروبي في وقت الأزمة؟"، رصد كيف تحول خط الأنابيب إلى سلاح في أزمة جيوسياسية.
والأزمة الأوكرانية في الأساس أزمة جيوسياسية، إذ يريد بوتين أن يرغم حلف الناتو على وقف تمدده شرقاً، ولأن موسكو لا تثق في قدرة الدول الأوروبية على التحرك دون موافقة واشنطن، فقد قرر الرئيس الروسي أن يطلب ضمانات قانونية مكتوبة من نظيره الأمريكي بايدن تنص على أن الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته أبداً.
وكانت أوكرانيا عضواً مؤسساً مع روسيا في الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت مقراً لثلث الأسلحة النووية السوفييتية وقوة كبيرة في حلف وارسو (الحلف العسكري الشرقي). وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، بعد إجراء استفتاء لمواطنيها للاختيار بين البقاء ضمن الاتحاد الروسي (روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا) أو الاستقلال كأمة أوكرانية، وصوّت 90% من السكان لصالح الاستقلال.
وفي عام 2004، اندلعت ثورة البرتقال في أوكرانيا، وأطاحت بالرئيس يانكوفيتش لصالح يوشتشنكو (الأول أقرب لروسيا والثاني أقرب إلى الغرب). وبدأت مرحلة جديدة من التقارب في العلاقات بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
وكانت أوكرانيا والولايات المتحدة وبريطانيا من المعارضين بشدة لخط أنابيب الغاز نورد ستريم2، الذي تم الإعلان عنه لأول مرة عام 2015، محذرين من أن المشروع سيزيد من تأثير روسيا على أوروبا. وقد اكتمل في سبتمبر/أيلول الماضي خط الأنابيب الذي يمتد بطول 1200 كلم وبلغت تكلفته 11 مليار يورو وينتظر التصريح بضخ الغاز الروسي إلى أوروبا عبر ألمانيا.
لكن على الرغم من أن خط الأنابيب لم يبدأ مرحلة التشغيل فعلياً، إلا أنه قد "دق إسفيناً" بالفعل بين صفوف الحلفاء التقليديين في وقت تشتد فيه الأزمة توتراً بين روسيا والغرب، بحسب تحليل CNN.
وقالت كريستين بيرزينا الباحثة في مركز أبحاث مارشال بالولايات المتحدة، لسي إن إن: "كل ما يتعلق بخط أنابيب نورد ستريم2 يعتبر انتصاراً لروسيا. هدف روسيا هو شق الصف الغربي، وإذا كانوا يسعون لشق صف حلف الناتو، فهذا المشروع أداة مثالية".
هل فضلت ألمانيا مصالحها الخاصة؟
وفي وقت تهدد فيه واشنطن ولندن وبروكسيل باتخاذ عقوبات اقتصادية "كارثية" ضد موسكو في حالة الغزو الفعلي لأوكرانيا، يخشى هؤلاء من استخدام بوتين الغاز الطبيعي كسلاح ضد أوروبا، لذلك تجري الإدارة الأمريكية مناقشات منتظمة ومستمرة مع عدد من الدول في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا بشأن زيادة صادراتها من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا لتعويض الغاز الروسي عند الضرورة.
ولأن ألمانيا هي الزبون الأكبر للغاز الروسي، تتردد برلين في التلويح بورقة خط الأنابيب للضغط على موسكو في الأزمة الأوكرانية، وقد حذرت وزيرة الدفاع الألمانية قبل أسبوعين من خطورة "الزج بخط الأنابيب في الصراع الحالي".
لكن مع تزايد حدة التوتر بشأن أوكرانيا، وفي وقت يستعد فيه الجميع للحرب، بدا أن موقف برلين من خط الأنابيب شهد بعض التراجع. وتحت ضغوط واشنطن، أقرت وزيرة الخارجية الألمانية، آنالينا بيربوك، الأسبوع الماضي بأن خط الأنابيب قد يكون ضمن "حزمة العقوبات" المقترحة على موسكو في حالة الغزو.
لكن هناك عنصر آخر من الصعب تجاهله في المعادلة، إذ بدا واضحاً أن الولايات المتحدة قد خففت كثيراً من معارضتها الصريحة لمشروع نورد ستريم2، وقد رفض مجلس الشيوخ الأمريكي هذا الشهر مشروع قانون تقدم به السيناتور الجمهوري، تيد كروز، لفرض عقوبات على الشركات المشاركة في خط الأنابيب.
وبررت إدارة بايدن رفضها تمرير مشروع القانون على أساس أن ذلك قد يجهض جهود واشنطن لردع موسكو: "بوتين يريد أن يرى خط أنابيب نورد ستريم2. ولو قتل المشروع قبل أي غزو محتمل، سيكون لديه سبب أقل لوقف الغزو"، بحسب ما قاله رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الديمقراطي بوب مينديز.
وعلى الجانب الآخر يرى أندري كوتونوف المدير العام لمجلس الشؤون الروسية الدولية أن موسكو تعتبر خط الأنابيب اختباراً لاستقلال الاتحاد الأوروبي استراتيجياً عن الولايات المتحدة. وقال لسي إن إن: "لو تم قتل نورد ستريم2، وهو أمر لا يزال وارداً، سيكون هذا تأكيداً على فكرة كون أوروبا شريكاً لا يعتمد عليه، وأن روسيا لا يمكنها التعامل مع الاتحاد الأوروبي لأن دوله لا يمكنهم الاتفاق على أي شيء ولا يمكنهم اتخاذ أي قرار. لذلك إذا أردت أن تنجز شيئاً، عليك التحدث إلى واشنطن".
الخلاصة هنا هي أن الرأي السائد داخل واشنطن حالياً هو أن الحكومة الألمانية تفضل مصالحها الاقتصادية الخاصة، غاز رخيص من روسيا وتصدير السيارات إلى الصين، على حساب العلاقات الاستراتيجية مع الحلفاء الغربيين، وهو ما يعد انتصاراً استراتيجياً كبيراً لبوتين، وامتداداً لسياسات ميركل في الوقت نفسه.
وكان كثير من المحللين قد توقعوا أن تتغير علاقة ألمانيا مع الصين وروسيا وتكون أكثر قرباً من السياسة الأمريكية، وعبرت إدارة بايدن عن توقّعاتها بإقامة علاقات وثيقة مع الحكومة الألمانية الجديدة، وقال متحدث باسم الخارجية الأمريكية: "لدينا كلّ التوقّعات بأن العلاقة بين الولايات المتحدة وألمانيا ستستمر لتكون وثيقة وفعالة بشكل كبير". لكن الواضح أن أزمة أوكرانيا قد جاءت بما لا تشتهيه واشنطن.