توتر جديد يطفو على السطح في إفريقيا بعد تراجع قادة الانقلاب العسكري في مالي عن تسليم السلطة للمدنيين، فيما تحاول منظمات إقليمية فرض عقوبات عليها، لم تتحمس الجزائر لهذه العقوبات خوفاً من تأثير هذه العقوبات على أمنها بسبب الانفلات الأمني المتوقع.
من جهة ثانية، يثير هذا التوتر مزيداً من عدم الاستقرار في العلاقة بين الجزائر وفرنسا، في حين يقف كل منهما على الطرف الآخر من الأزمة.
وأثار تخلي قادة الانقلاب في مالي عن وعدهم بتسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة في فبراير/شباط المقبل، غضب زعماء المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس)، الذين فرضوا عقوبات قاسية على باماكو.
لم يكتفِ قادة "الإيكواس" بفرض عقوبات شاملة على مالي، بل توجهوا إلى جوارها العربي (الجزائر وموريتانيا) لإقناعهما بالانضمام إلى هذه العقوبات، التي لاقت دعماً قوياً من فرنسا، والتي تترأس حالياً الاتحاد الأوروبي.
وانتقلت الأزمة بين "الإيكواس" وباماكو إلى مجلس الأمن، الذي انقسم إلى معسكرين متضادين، ما أفشل محاولات إصدار قرار مشترك مؤيد للعقوبات التي أصدرتها المجموعة الإفريقية.
فبينما وقفت الولايات المتحدة إلى جانب المجموعتين الأوروبية والإفريقية في مجلس الأمن، الرافضتين لبقاء قادة الانقلاب في السلطة إلى غاية ديسمبر/كانون الأول 2026، أجهضت روسيا والصين قراراً من المجلس، أعدته فرنسا، داعماً للعقوبات التي فرضتها مجموعة الإيكواس.
ولكن حتى الإيكواس، لم تحقق الإجماع بين أعضائها، حول قرار فرض العقوبات الشاملة على باماكو.
فالانقلابيون في غينيا، بقيادة مامادي دومبويا، رفضوا أن يكونوا جزءاً من هذه العقوبات، والتي قد تطالهم في مرحلة من المراحل، إذا أصروا على البقاء في السلطة لفترة أطول، وهو السيناريو المتوقع.
الانقلاب الثالث
لا يبدو زعيم الانقلابيين في مالي العقيد عاصمي غويتا، على استعداد لتسليم السلطة للمدنيين في المدى القريب، بحسب القرارات التي يتخذها في كل مرحلة.
فالانقلاب الأول الذي نفذه تحالف عسكري بقيادة غويتا، في أغسطس/آب 2020، ضد حكم الرئيس إبراهيم كيتا، تلاه انقلاب ثان في مايو/أيار 2021، ضد الرئيس الانتقالي باه نداو.
وبعد ضغوطات دولية قادتها الإيكواس، تعهد غويتا، بتنظيم انتخابات رئاسية في فبراير/شباط 2022.
غير أن ما يمكن اعتباره انقلاباً ثالثاً لغويتا، تمثل في اقتراح حكومته على "إيكواس" فترة انتقالية من 5 سنوات، "لتأسيس الأجواء العادلة والمناسبة لإجراء انتخابات"، على حد قول عبد الله ديوب.
بينما تصر "الإيكواس" على ضرورة تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في فبراير/شباط المقبل، دون تأخير، وتسليم الحكم إلى سلطة مدنية منتخبة.
ولوّحت إيكواس، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بفرض عقوبات على باماكو، إن لم تحدد موعداً للانتخابات في فبراير/شباط المقبل، لكن الأخيرة ردت باقتراح موعد ديسمبر 2026، خلال لقاء وزير الخارجية المالي، برئيس غانا، الرئيس الدوري لإيكواس "نانا أكوفو أدو"، بالعاصمة أكرا.
عقوبات قاسية بدون غينيا
كان واضحاً بالنسبة لإيكواس، بعد عرض ممثلين عن الحكومة المالية خطة الانقلابيين للبقاء 5 سنوات في الحكم، أنهم لا يرغبون في تسليم السلطة قريباً، ومهد ذلك لقمة استثنائية لزعماء إيكواس في أكرا، في 9 يناير/كانون الثاني الجاري، واتفقوا حينها على فرض عقوبات شاملة على باماكو.
وتمثلت هذه العقوبات القاسية في إغلاق الحدود البرية والجوية للأعضاء مع مالي، وتعليق المعاملات المالية غير الضرورية، وتجميد أصول الدولة المالية في البنوك التجارية التابعة لـ"إيكواس" واستدعاء سفراء الدول الأعضاء في "إيكواس" من باماكو.
كما أصدر الاتحاد الاقتصادي والنقدي لدول غرب إفريقيا توجيهات لجميع المؤسسات المالية التابعة له، بتعليق عضوية مالي.
ولكن دولة واحدة في الإيكواس رفضت غلق حدودها البرية والجوية والبحرية أمام الدولة الحبيسة.
فزعيم الانقلاب في غينيا مامادي دومبويا، قرر عدم تطبيق العقوبات التي فرضتها الإيكواس على مالي.
ويعكس الموقف الغيني مدى التضامن بين نظامين انقلابيين، فالعقوبات التي فرضت على باماكو ليس من المستبعد أن تفرض أيضاً على كوناكري، إذا رغب دومبويا بنهج نفس مسار غويتا في إطالة الفترة الانتقالية.
صراع نفوذ بين الجزائر وإيكواس
لتضييق الخناق أكثر على الانقلابيين في باماكو، لجأت إيكواس إلى الجيران الشماليين لمالي، ممثلين في الجزائر وموريتانيا، لإقناعهما بغلق حدودهما البرية والجوية والبحرية في وجه حكومة باماكو، ودعم العقوبات المفروضة عليها.
وتمثل الحدود الجزائرية الموريتانية مع مالي نحو نصف حدودها الإجمالية، إذ تحدها من النصف الجنوبي كل من السنغال، وغينيا، وكوت ديفوار، وبوركينا فاسو، والنيجر.
لكن الجزائر لم تتحمس كثيراً لفرض عقوبات بهذه القسوة على باماكو، وإن لم توافق على خطة الانقلابيين إدخال البلاد في مرحلة انتقالية جديدة من خمس سنوات.
فالوضع الأمني والاقتصادي الهش في مالي سينعكس سلباً على الجزائر، وأي تشديد للعقوبات على باماكو من شأنه أن يقوي الجماعات الإرهابية في شمال مالي، ويزيد من الهجرة غير النظامية نحوها، لذلك تنظر الجزائر بحذر إلى أي عقوبات غير مدروسة بدقة على باماكو.
وكان ذلك واضحاً في بيان الرئاسة الجزائرية، التي دعت إلى حوار "هادئ وواقعي" مع إيكواس، بهدف التوصل إلى خطة للخروج من الأزمة في مالي.
فالجزائر التي انفردت بمعالجة الأزمات الأمنية لمالي منذ عقود، ذكّرت الإيكواس ضمنياً بدورها كرئيسة الوساطة الدولية، ورئيسة مجلس متابعة اتفاقية السلام والمصالحة في مالي، والمنبثقة عن مسار الجزائر (حوار الحكومة والمعارضة المالية في 2014ـ 2015)، ما يعكس صراعاً ضمنياً على النفوذ في مالي.
وتشترك الجزائر مع مالي بحدود طويلة تصل إلى 1359 كلم، كما أن سكان شمال مالي امتداد بشري لها، سواء بالنسبة لأمازيغ الطوارق أو عرب الأزواد.
واتخاذ موقف الوسيط، يعني أن الجزائر لا تتبنى عقوبات "إيكواس" على باماكو، خاصة أنها لم تستشر فيها، وعلى الأغلب لن تسارع في دعمها، رغم رفضها لخطة الانقلابيين للبقاء في السلطة 5 سنوات، وتحذيرها لهم "من العواقب السياسية والأمنية والاقتصادية، التي قد تنتج عن انتقال طويل الأمد للسلطة".
وينم الموقف الجزائري عن رغبة في لعب دور الوسيط بين باماكو وإيكواس، للبحث عن حلول واقعية من الطرفين، لا تؤدي إلى تعقيد الأزمة المالية أكثر مما هي عليه الآن، بسبب انتشار الجماعات الإرهابية في 80 بالمئة من أجزاء البلاد، واستمرار الانقلاب والفراغ الدستوري، والوضع الاقتصادي والاجتماعي المنهار.
وزعيم الانقلابيين في مالي لم يغلق باب الحوار مع إيكواس، ودعاها إلى "تغليب مصلحة الشعب المالي"، بينما تشكك إيكواس ومعها العديد من الدول الإفريقية والغربية فيما إذا كان تمديد الفترة الانتقالية لمدة طويلة يخدم مصلحة الشعب.
موريتانيا قد تكون أكبر المستفيدين
لم تعلن موريتانيا بعد موقفاً صريحاً من الحصار الذي تسعى دول إيكواس لفرضه على مالي، رغم استقبال الرئيس محمد ولد الغزواني، الأربعاء، المبعوثة الخاصة للرئيس الدوري لـ"الإكواس"، وزيرة خارجية غانا "شيرلي أيوركور بوتشوي"، بعد 3 أيام من اتصال هاتفي مع الرئيس الغاني.
وبحسب وكالة الأنباء الموريتانية، فإنه من المتوقع أن تستقبل نواكشوط وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب قريباً.
إذ أعلنت الحكومة المالية أنها تجري مناقشات "مع الدول الصديقة، بما في ذلك غينيا كوناكري وموريتانيا، من أجل تسهيل الوصول إلى موانئها لتزويد السوق المالي" بالمواد الغذائية الأساسية.
ومالي دولة حبيسة، وتعتمد في تجارتها الخارجية على موانئ دول الإيكواس، وخاصة السنغال وكوت ديفوار، لكن بعد فرض الأخيرة حصاراً عليها، فإنها ستلجأ إلى الموانئ الموريتانية، إلى جانب موانئ غينيا، التي رفضت غلق حدودها البرية والبحرية والجوية.
وستستفيد موريتانيا من موقعها المطل على المحيط الأطلسي كنقطة ربط بين دول المغرب العربي ودول غرب إفريقيا، وتبحث الآن تعميق تعاونها الاقتصادي إلى جانب الأمني مع دول الساحل (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد).
ويشير الإعلامي المالي دياورا يوسف، في تدوينة له، إلى أن بلاده تصدر 400 ألف طن من المانجو، وأكثر من مليون طن من القطن.. وتستورد مليون طن متري من المشتقات النفطية.. عبر الموانئ الإيفوارية والسنغالية.
ويقول يوسف إن "لدى موريتانيا القدرة على إعادة تصدير نفس الكمية، لو قامت بإجراء تسهيلات لمالي في أرصفة النفط بـ(ميناءي) نواكشوط ونواذيبو.. ووضع ميناء ندياغو، تحت تصرف الماليين".
فالماليون ينظرون إلى الموانئ الموريتانية كمنفذ بحري مهم لكسر حصار دول الإيكواس عليها، وخاصة السنغال وكوت ديفوار.
فالحصار الذي تسعى دول الإيكواس لفرضه على مالي، بدعم من فرنسا والاتحاد الأوروبي، قد يدفع الانقلابيين في باماكو إلى الارتماء أكثر في حضن روسيا والصين.
وعدم اشتراك غينيا في العقوبات يمثل ثغرة قد تضعف الضغوطات على باماكو، خاصة إذا اختارت موريتانيا والجزائر الحياد، كما أن السنغال وكوت ديفوار يغامران بفقدان مركزهما كمنفذ رئيسي للتجارة الخارجية لمالي، لصالح موريتانيا وغينيا.
وإذا صمد الانقلابيون في مالي في وجه الحصار وتمكنوا من حشد الرأي العام حولهم، فهذا قد يشجعهم للبقاء في السلطة لعقود وليس لخمس سنوات فقط، كما سيغري الانقلابيين في غينيا بتكرار نفس السيناريو، لذلك يمثل الحوار مع استمرار الضغط أقل الخيارات سوءاً.
فتحالف المجلس العسكري المالي مع روسيا يدفعه لتحدي مجموعة الإيكواس ومن خلفها فرنسا، والاستفادة من الصراع الجزائري الفرنسي ذي الخلفية التاريخية، ورغبة موريتانيا في البقاء عند منتصف المسافة في الأزمات التي تعصف بالمنطقة.