أقل من 4 أشهر تفصل فرنسا عن الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 2022، حيث يخوض المرشحون من الأحزاب الرئيسية بالفعل حملاتهم الانتخابية بقوة. في حين يلقي إيمانويل ماكرون، الذي لم يعلن بعد رسمياً ترشُّحه، خطباً عامة متكررة؛ لعرض إنجازاته وتأكيد الحاجة إلى مواصلة أجندته. ومع ذلك، لايزال الوضع السياسي الفرنسي أكثر تقلُّباً مِمَّا كان عليه من قبل، في هذه المرحلة المبكرة نسبياً من الحملات الانتخابية.
الانتخابات الفرنسية وإرث عام 2017
يقول تقرير لموقع The Conversation الأسترالي، إن هذه حملة غير عادية. فقد كانت الانتخابات الفرنسية لعام 2017 في حد ذاتها خروجاً عن القاعدة، لأنها بشَّرَت بفوز مُرشَّحٍ من أيٍّ من الحزبين الرئيسيين اللذين كانا يتناوبان على السلطة منذ الستينيات. لقد بشَّرَت بالانفصال عن الجمهورية الخامسة، التي كانت مُحدَّدَةً حتى ذلك الحين بالقسمة بين اليمين واليسار.
للمرة الثالثة فقط في عشرة انتخابات، لم تضع الجولة الثانية من انتخابات 2017، مُرشَّحاً من اليمين التقليدي في مواجهة ممثِّل اليسار الاشتراكي.
وفي المقابل، واجه الوافد الجديد إيمانويل ماكرون، الذي ادَّعى أنه "ليس يميناً ولا يساراً"، مارين لوبان اليمينية المتطرِّفة. جاءت الحالتان السابقتان في عام 1969 (عندما شهدت الجولة الثانية مواجهة الوسطي آلان بوهير ضد الديغولي جورج بومبيدو)، وفي عام 2002 (عندما تولَّى الرئيس اليميني المنتهية ولايته جاك شيراك دور الوصيّ على الجمهورية الفرنسية ضد المُرشَّح اليميني المتطرف جان-ماري لوبان).
والأهم من ذلك هو أن الحزبين الرئيسيَّين، اللذين يُنظر إليهما تقليدياً على أنهما مناسبان للحكم -الحزب الاشتراكي والحزب الجمهوري- وجدا نفسيهما خارج نطاق واسع من اللاعبين الجدد (ماكرون) والشخصيات الاحتجاجية (لوبان وجان لوك ميلونشون) الذين أثبتوا أنهم "أكثر جاذبيةً"، بحسب الموقع الأسترالي.
يفسر هذا الانقسام سبب عدم حصول أيٍّ من مُرشَّحي الجولة الثانية على أكثر من 25% من الأصوات في الجولة الأولى، للمرة الأولى منذ عام 2002. وساعد ضعف الأحزاب الرئيسية في تسليم الفوز لأغلبية جديدة تشكَّلَت حول الرئيس الجديد في الانتخابات البرلمانية التي تلت ذلك.
في ذلك الوقت، اعتقد بعض النقاد أن الطيف السياسي الفرنسي سيعيد هيكلة نفسه حول هذه الأغلبية "من اليسار واليمين على حد سواء".
كيف تغيرت القاعدة الانتخابية لماكرون بعد 5 سنوات من الحكم؟
في هذا السياق، تلفت صحيفة The Times البريطانية إلى أن "الأمل الدائم في حياةٍ أفضل هو ما يفسِّر كيف أقنع ماكرون، البالغ من العمر 39 عاماً فقط في ذلك الوقت، وبدون حزبٍ أو خبرة انتخابية، البلاد بالمراهنة عليه في عام 2017، مما جعله أصغر زعيم منذ نابليون بونابرت، الذي كان يبلغ من العمر 35 عاماً عندما تُوِّجَ إمبراطوراً للبلاد".
وتقول الصحيفة: "في بداية ذلك العام الانتخابي، كان ماكرون يترشَّح بالمركز الثالث، في حين بدا أن الإليزيه مطمئنٌ إلى فيون، المُرشَّح المُفضَّل في الاقتراع. وكان رئيس الوزراء المتواضع في عهد ساركوزي قد أعاد تقديم نفسه باعتباره من أتباع تاتشر، وكان يستفيد من الانجراف اليميني في البلاد، حتى اجتاحته فضيحة توظيفه زوجته البريطانية براتبٍ برلماني.
بعد خمس سنوات، من الواضح أن الطيف السياسي الفرنسي لم يهيكل نفسه حول هذه الأغلبية، وقد زاد الانقسام في طيف الخيارات السياسية للناخبين الفرنسيين. خلال فترة ولايته، لم ينجح ماكرون في توسيع قاعدته الانتخابية، التي لاتزال تشكِّل 20-25% من الناخبين. في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو/أيار 2019، حصل التحالف الذي يدعم ماكرون على 22.4% من الأصوات. وفي ديسمبر/كانون الأول 2021، كان منظِّمو استطلاعات الرأي يضعونه بمعدل 24% لانتخابات عام 2022.
وبدلاً من تغيير السياسة، غيّر ماكرون ببساطةٍ قاعدة ناخبيه، وحوَّلها إلى يمين الوسط. من الناحية النظرية، يترك هذا مساحةً معينةً حرَّةً على اليسار، لكن لا يبدو أن أيَّ مُرشَّحٍ قادرٌ على شغلها اليوم.
ماكرون مُثقل بنسبة رفض كبيرة باعتباره رئيساً فاشلاً
هذه المرة، يبدو أن ماكرون (44 عاماً)، الذي يخوض الآن حملته الانتخابية مرةً أخرى، مُثقلٌ برفضٍ بنسبة 70% من الناخبين باعتباره فاشلاً. ولا يواجه أي تهديد من اليسار الذي حكم لمدة 14 عاماً من 1981 في عهد ميتران، لكنه انهار بعد كارثة هولاند. والخطر الآن يكمن في اليمين.
فشل اليسار الفرنسي في التغلب على الخلافات التي تفصل بين فصائله. وحتى اليسار المناهض للمؤسَّسة، والذي اتَّحَدَ حول ميلونشون في عامي 2012 و2017، يطرح الآن اثنين من المُرشَّحين؛ حيث يترشَّح ميلونشون عن الحزب اليساري المتطرِّف "فرنسا الأبيَّة"، ويمثِّل فابيان روسيل الحزب الشيوعي.
ورغم أن اليمين الراسخ قد نجح في تقديم مرشح واحد، وهو فاليري بيكريس، فإن اليمين المتطرف لديه مرشحان، لأول مرة منذ عام 2002: مارين لوبان، وإريك زمور.
خيبة أمل كبيرة لدى الناخبين الفرنسيين
يُعَدُّ انقسام الأحزاب أحد أعراض مشكلةٍ أعمق تضرب الديمقراطية الفرنسية منذ الثمانينيات: أزمة التمثيل السياسي. صار الفرنسيون مغتربين عن السياسة بالشكل الذي اتَّخَذَته منذ القرن التاسع عشر، على أساس الأحزاب الجماهيرية والاقتراع العام. هناك عدد أقل من النشطاء وعدد أقل من الأشخاص الذين يصوِّتون بالفعل.
ويرجع ذلك إلى عدة عوامل: خيبة أمل الناخبين في ضوء إخفاقات الحكومات المتناوبة منذ عام 1981، والفضائح التي شوَّهَت صورة السياسيين الذين يشتبه في أنهم يخلفون الوعود في أحسن الأحوال وفاسدون في أسوأ الأحوال، وصعود مجتمع فردي يفضِّل التعهُّدات الشخصية غير الرسمية على التجمُّعات السياسية.
ولم يؤدِّ الظهور المفاجئ لأزمة صحية غير مسبوقة إلى إنهاء الأزمة السياسية الفرنسية، رغم أنها ربما تكون أزمةً قد عزَّزَت شرعية السلطة التنفيذية. في خريف 2021، استعارت الحركات المعارضة للإجراءات الصحية الفرنسية جوانب من استراتيجية تعبئة محتجي السترات الصفراء.
في غضون ذلك، تأثَّرَت الانتخابات التي جرت خلال هذه الفترة، بشكلٍ سلبي، بمستوى غير مسبوق من الامتناع عن التصويت: 55% بالانتخابات المحلية في مارس/آذار ويونيو/حزيران 2020، و66% بالانتخابات الإقليمية والمحلية في يونيو/حزيران 2021.
ستجرى الانتخابات الرئاسية وسط الأزمة الصحية نفسها، مِمِّا يجعل من الصعب دعوة الناشطين إلى العمل بشكلٍ مباشر ودفع الناخبين للذهاب إلى صناديق الاقتراع. وستكون التوتُّرات المتصاعدة في المجتمع الفرنسي سمةً أساسيةً للانتخابات الرئاسية هذا العام. خلال الأشهر الأولى من الحملة، كانت هذه الأزمة واضحةً في وفرة المُرشَّحين الذين يعتزمون رفض "النظام" (مثل أرنود مونتبورغ على اليسار وإريك زمور في أقصى اليمين)، كما حدث في الظهور الواسع للموضوعات المتعلقة بالهوية الوطنية في المناقشات العامة.
قد تقدِّم استطلاعات الرأي معاينةً دقيقةً لنتائج انتخابات أبريل/نيسان. يتمتَّع ماكرون بدعمٍ قوي من ربع الناخبين، متقدِّماً بعدة نقاط على أقرب ثلاثة منافسين من بين عشرات المُرشَّحين المُحتَمَلين، وضمنهم اليساري الراديكالي جان لوك ميلونشون، ويانيك جادوت من حزب الخضر، والاشتراكية آن هيدالغو.
ومع ذلك، إذا فاز مرة أخرى، فسيكون قد كَسَرَ التقليد القديم المتمثِّل في تحوُّل الناخبين المُتقلِّبين ضد رئيسهم المنتخب. وما لايزال مفقوداً هو تجديد الأفكار والممارسات، وهو ما سيحدِّد في النهاية ما إذا كان معظم الفرنسيين قد عادوا إلى السياسة، كما تقول صحيفة The Times.