جاءت جلسة البرلمان العراقي الأولى حافلة بالأكشن وتعتبر مؤشراً على الدراما المتوقعة فيما يتعلق بمفاوضات اختيار رئيس الوزراء، فهل بات التيار الصدري قريباً من تشكيل حكومة "أغلبية وطنية" كما يريد؟
كانت الجلسة الأولى للبرلمان العراقي، التي انعقدت الأحد 9 يناير/كانون الثاني، قد شهدت أحداثاً ساخنة، لكنها انتهت باختيار رئيس البرلمان ونائبيه، فيما يعتبر انتصاراً للتيار الصدري وخسارة للإطار التنسيقي، الذي يضم الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران.
ويرى كثير من المراقبين أن ما شهدته جلسة البرلمان العراقي تعتبر تكراراً لسيناريو الانتخابات نفسها وما تبعها من رفض للنتائج وتهديدات بالتصعيد. إذ كان "الإطار التنسيقي"، الذي يضم قوى سياسية وفصائل من "الحشد الشعبي"، أبرزها "تحالف الفتح"، قد أعلن عدم قبوله بنتائج الانتخابات والطعن عليها.
وشهد العراق أحداثاً مقلقة للغاية منذ إجراء الانتخابات المبكرة في 10 أكتوبر/تشرين الأول وحتى 27 ديسمبر/كانون الأول، بسبب تهديدات الميليشيات المسلحة وتعرض رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لمحاولة اغتيال، لكن في نهاية المطاف وبعد ثلاث جلسات عقدتها المحكمة الاتحادية العليا في العراق، أعلى سلطة قضائية لفض النزاعات الدستورية، ردت المحكمة جميع الطعون التي تقدم بها "الإطار التنسيقي" وصدقت رسمياً على نتائج الانتخابات.
ماذا حدث في الجلسة الأولى للبرلمان؟
بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات، انعقدت الجلسة الأولى للبرلمان العراقي وكانت قاعة البرلمان مسرحاً لأحداث ساخنة تعكس سخونة الأجواء السياسية في البلاد بشكل عام. فمن الناحية الإجرائية يترأس الجلسة الأولى أكبر أعضاء البرلمان سناً، وتشهد الجلسة انتخاب رئيس ونائبي البرلمان في دورته الجديدة.
أكبر الأعضاء سناً هو النائب محمود المشهداني، وبالتالي بدأت الجلسة برئاسته، لكن سرعان ما تحولت القاعة إلى حلبة مصارعة وشجار بالأيدي وصخب شديد، أدى إلى تعطيل الجلسة ونقل المشهداني إلى المستشفى وسط تضارب الأنباء حول ما حدث.
بعض النواب قالوا إن المشهداني تعرض للضرب، بينما قالت مصادر إنه تعرض لأزمة صحية طارئة بسبب الإجهاد. النواب الذين قالوا إن المشهداني تعرض للضرب ينتمون إلى تكتل "الإطار التنسيقي" ويتهمون نواب تكتل "سائرون" بالاعتداء على المشهداني.
أما نواب "سائرون" فيقولون إن المشهداني تعرض لأزمة صحية مفاجئة وإن سبب الشجار هو سعي نواب "الإطار التنسيقي" لأن تتم تسميتهم "الأغلبية البرلمانية" قبل انتخاب رئيس المجلس؛ وهو ما يخالف القواعد القانونية المنظمة لعمل مجلس النواب.
على أية حال، استؤنفت الجلسة وجرى انتخاب محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان لفترة ثانية، متغلباً على المشهداني، الذي كان رئيساً لأول مجلس نواب تم تعيينه عام 2006. وفاز الحلبوسي بعدد 200 صوت، وفقاً لبيان من البرلمان المؤلف من 329 مقعداً. وقال مكتب البرلمان في بيان إن المشهداني ظل في المستشفى تحت الملاحظة بسبب الإرهاق لكنه خرج بعد ساعتين.
وبذلك يكون أمام البرلمان 30 يوماً من تاريخ الجلسة الأولى لانتخاب الرئيس الجديد للبلاد الذي سيطلب بعد ذلك من أكبر كتلة في البرلمان تشكيل الحكومة. وانتُخب حاكم الزاملي، الذي ترشح عن التيار الصدري، نائباً أول للحلبوسي، في حين جرى انتخاب شاخوان عبد الله من الحزب الديمقراطي الكردستاني نائباً ثانياً.
وفي ظل نظام الحكم في العراق منذ اعتماد دستور ما بعد الرئيس الأسبق صدام حسين في عام 2005، يكون رئيس الوزراء من الشيعة ورئيس مجلس النواب سنيّاً، في حين يشغل كردي منصب رئيس البلاد، وهو شرفي إلى حد كبير.
ما سبب الخلاف حول "الكتلة الأكبر"؟
فازت كتلة "سائرون" التابعة لمقتدى الصدر بالمركز الأول في الانتخابات التشريعية بـ73 مقعداً في البرلمان البالغ إجمالي مقاعده 329 مقعداً، وتلتها كتلة "تقدم" برئاسة الحلبوسي رئيس البرلمان المنتهية ولايته بـ38 مقعداً.
وفي المركز الثالث جاءت كتلة "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق بـ37 مقعداً، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود برزاني وحصد 32 مقعداً. وفاز تحالف "الفتح والبناء" برئاسة القيادي في "الحشد الشعبي" هادي العامري بـ17 مقعداً فقط، بينما سجل تحالف "قوى الدولة الوطنية" برئاسة عمار الحكيم رئيس تيار "الحكمة" المتحالف مع تحالف "النصر" برئاسة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، "التراجع الأكبر" بين القوائم والتحالفات الشيعية، بحصولهما على 4 مقاعد فقط. بينما حصدت أحزاب ناشئة وشخصيات مستقلة نحو 40 مقعداً.
لكن لا تعني تلك النتائج أن "سائرون" هم الأغلبية البرلمانية بشكل تلقائي، فتسمية الأغلبية البرلمانية عملية إجرائية تتم تحت قبة البرلمان نفسه، وهذا هو سبب احتدام الجدل بين النواب في تلك الجلسة العاصفة. ففي بداية الجلسة، تلقى المشهداني طلباً من كل من تحالف الفتح وائتلاف دولة القانون الذي يقوده المالكي بأن يتم إعلانه أكبر تكتل في البرلمان.
غير أن الأعضاء من كتلة مقتدى الصدر عارضوا ذلك بشدة ودافعوا عن موقعهم كأكبر كتلة. وقال النائب الكردي جمال كوجر لرويترز: "النقاش الحاد بين الكتل الشيعية حول من يصبح الكتلة الأكبر هو الذي تسبب بعرقلة الجلسة وبالتالي رفعها".
وهذا الخلاف حامي الوطيس حول صاحب لقب "الكتلة الأكبر" في البرلمان العراقي سببه أن تلك الكتلة هي من يكون من حقها اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة. ويريد الصدر تشكيل حكومة "أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية"، أي لا تميل نحو إيران ولا نحو الولايات المتحدة. وعلى الجانب الآخر، تريد الأحزاب الشيعية الأخرى، المدعومة من إيران، تشكيل حكومة تكون أقرب لطهران بطبيعة الحال.
ماذا كان رد فعل "الإطار التنسيقي"؟
على أية حال، انتهت الجلسة الأولى دون تسمية الكتلة الأكبر في البرلمان، وبات الحلبوسي رئيساً، وهو أقرب للتيار الصدري منه للإطار التنسيقي، كما ظهر من أحداث الجلسة الساخنة، إذ أرادت أحزاب الإطار التنسيقي أن تتم تسميتها الكتلة الأكبر قبل انتخاب الحلبوسي. ولأن بعض النواب يمكن أن يغيروا انتماءاتهم، فستقرر رئاسة البرلمان في نهاية المطاف التكتل الأكبر.
لكن تحالف "الإطار التنسيقي" أعلن رفضه لانتخاب رئيس البرلمان ونائبيه؛ بداعي أن العملية أُجريت "دون أي سند قانوني"، في ظل غياب رئيس البرلمان المؤقت الأكبر سناً.
وقال "الإطار التنسيقي"، عبر بيان: "أثار استنكارنا ما حصل اليوم من اعتداء على رئيس السن (المشهداني) لمجلس النواب وإثارة الفوضى في جلسة المجلس، مما دفع رئيس السن إلى طلب تعليق الجلسة. لكن الهجوم عليه أفقده القدرة على الصمود ونقل إثر إصابته إلى المستشفى، وللأسف الشديد استمرت بعض الكتل بإجراءات الجلسة دون أي سند قانوني".
وأردف البيان، بحسب وكالة الأناضول الإخبارية: "نحمّل الجهات السياسية، التي تقف خلف هذا التصعيد، المسؤولية الكاملة عن كل ما سيحدث من تداعيات على هذا التفرد واستخدام العنف والفوضى لفرض الإرادات، وسنتصدى لهذا التفرد اللامسؤول في القرار السياسي".
"نؤكد عدم اعترافنا بمخرجات جلسة انتخاب رئيس المجلس ونائبيه كونها تمت بعدم وجود رئيس السن الذي لا يزال ملتزماً بتأدية مهامهه".
أما مقتدى الصدر، فقد قال عبر تويتر إن "اختيار رئيس البرلمان ونائبيه أولى بشائر حكومة الأغلبية الوطنية"، مضيفاً: "من هنا أبارك للشعب العراقي هذه الخطوة الأولى واللبنة الأولى لبناء عراق حر مستقل بلا تبعية ولا طائفية ولا عرقية ولا فساد".
الصدر قال أيضاً: "لتنبثق منه حكومة وطنية نزيهة خدمية تحافظ على سيادة البلد وقراره وتراعي شعبه وتحفظ له كرامته وتسعى لإصلاح جاد وحقيقي".
ماذا يعني ذلك لتشكيل الحكومة العراقية إذاً؟
يكاد يكون بيان الإطار التنسيقي بعيد جلسة البرلمان الأولى نسخة مكررة من بيان رفض نتائج الانتخابات، كما أعلن الإطار أنهم سيقدمون طعوناً أمام المحكمة الاتحادية، وقال النائب همام التميمي: "ما جرى اليوم داخل جلسة مجلس النواب هو غير قانوني وستكون له تبعات خطيرة على المستوى الوطني".
لكن الأمور مختلفة هذه المرة فيما يتعلق بالتوقيتات تحديداً. فالآن بدأت مهلة انتخاب رئيس الجمهورية، وهذا ما أعلنه الحلبوسي بفتح باب الترشيحات للمنصب وتستمر 15 يوماً، يليها تكليف الكتلة الأكبر في البرلمان لتسمية مرشحها لرئاسة الحكومة.
تسمية رئيس البرلمان ونائبيه إذاً هي الإجراء الأول الممهِّد لانتخاب رئيس الجمهورية، ثم تشكيل الحكومة المقبلة، وبالتالي فإن المحكمة العليا على الأرجح ستبت في الطعون المنتظر تقديمها من الإطار التنسيقي سريعاً. ويرى كثير من المحللين أنه حتى في حالة قبول الطعن وإعادة الجلسة الأولى لن تتغير النتيجة، تماماً كما حدث مع نتائج الانتخابات.
لكن هذا لا يعني أن الصدر، الساعي لتشكيل حكومة أغلبية بخلاف الدورات السابقة التي شهدت تشكيل حكومات توافقية بين جميع الفائزين، لن يواجه صعوبات كبرى على طريق تحقيق غايته، هذا إن تمكن من تحقيقها من الأساس.
ورصد تحليل لموقع VOANews الأمريكي فرص الصدر في تشكيل أغلبية تسمح بتشكيل الحكومة، إذ ليس واضحاً ما قد تسفر عنه المفاوضات الجارية في ظل تغير التحالفات من جهة، وفي ظل تخوف الأحزاب السياسية الخاصة بالحشد الشعبي من إصرار الصدر على تحقيق ما عجزت عنه الحكومات السابقة حتى الآن وهو تجريد الميليشيات من السلاح وحصره بيد الدولة.
ويرى محللون أن مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية هذه المرة لن تكون على الأرجح قائمة على أسس أيديولوجية، ولكنها ستعتمد على "المصالح السياسية الضيقة"، وسيكون التركيز الأكبر على الشخصية التي ستتولى رئاسة الحكومة، في توقيت صعب يجد العراق نفسه فيه في مفترق طرق بشأن المستقبل. وفي حالة نجاح الصدر في تشكيل تحالف يسمح له بتشكيل الحكومة، فإن ذلك يعني بداية النهاية للنفوذ الإيراني في البلاد.
لكن لا أحد يمكنه الجزم بما قد تسفر عنه الأسابيع القليلة المقبلة بشأن تشكيل الحكومة العراقية الجديدة وهوية رئيس الوزراء، حتى وإن بدا أن استمرار مصطفى الكاظمي الأقرب بحسب كثير من المحللين.