جاء إعلان منظمة معاهدة الأمن الجماعي عن قرارها بالتدخل العسكري للتصدي للاحتجاجات في كازاخستان، ليسلط الضوء على هذه المنظمة التي تستخدمها روسيا للحفاظ على نفوذها في بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، ويشير إلى القلق الروسي من التطورات هناك، ويثير تساؤلات حول الفائز والخاسر مما يحدث في كازاخستان.
وجاء إعلان منظمة معاهدة الأمن الجماعي بإرسالها قواتها لكازاخستان بعد أن طلب الرئيس الكازاخستاني قاسم توكايف مساعدة المنظمة والتي تعد تحالفاً عسكرياً تقوده روسيا ويضم بجانبها كلاً من روسيا البيضاء وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، لمواجهة احتجاجات بدأت بسبب رفع أسعار الوقود ثم توسعت إلى أعمال شغب.
وكان مسؤولون في كازاخستان قد ذكروا أن أكثر من ألف شخص أصيبوا حتى الآن في الاحتجاجات، وإن نحو 400 نقلوا إلى المستشفيات و62 في العناية المركزة. ولم يتم الكشف عن عدد القتلى من المتظاهرين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Daily Mail البريطانية، وذكرت تقارير إعلامية يوم الخميس أن 13 ضابطاً أمنياً قتلوا وأصيب 353.
وأفادت تقارير بأن عشرات الجثث مصفوفة في المشرحة بعد أن قامت القوات الكازاخستانية بإطلاق النار على المتظاهرين في أعمال الشغب.
وقالت قوات الأمن في كازاخستان إنها قتلت العشرات ممن وصفتهم بمثيري الشغب المناهضين للحكومة في عملية لاستعادة النظام في مدينة ألما آتا عاصمة البلاد السابقة، بعد أن حاول المتظاهرون السيطرة على مراكز الشرطة في المدينة، في احتجاجات التي اتسع نطاقها سريعاً لتشمل معارضة للرئيس السابق نور سلطان نزارباييف الذي لا يزال يحتفظ بسلطات واسعة في الجمهورية السوفييتية السابقة رغم استقالته عام 2019.
ووصل مدى الاحتجاجات إلى سيطرة المحتجين على مطار ألما آتا كبرى مدن البلاد، وكذلك مقر نزارباييف في المدينة.
رئيس البلاد يفرض حالة الطوارئ
وفرض الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف- الذي أقال نزارباييف من منصبه كرئيس لمجلس الأمن القومي – حالة طوارئ على مستوى البلاد تشمل حظر تجوال طوال الليل وحظر التجمعات الجماهيرية، وتعهد برد صارم على الاحتجاجات.
وزعم أن عصابات "إرهابية" تلقت تدريباً في الخارج استولت على مبان ومرافق بنية تحتية وأسلحة، ووضعت يدها على خمس طائرات، بينها طائرات أجنبية، في مطار ألما آتا.
والقوات الروسية بدأت الانتشار في كازاخستان
وبدأت الوحدات المتقدمة من الوحدة الروسية بالفعل في تنفيذ مهامها، حسبما نقلت وكالة تاس "Tass" الروسية عن سكرتارية منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
وبحسب منظمة معاهدة الأمن الجماعي، فإن وحدة حفظ السلام تضم وحدات من القوات المسلحة لروسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وطاجيكستان وقيرغيزستان.
وقالت الأمانة العامة لـ"منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، إن المهمة الرئيسية لقوات حفظ السلام هي حماية المنشآت الحكومية والعسكرية المهمة ومساعدة قوات حفظ القانون والنظام في البلاد في تحقيق الاستقرار، وأن وجود القوات سيكون لفترة مؤقتة، حسب قولها.
كان رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان الرئيس الحالي الدوري للمنظمة قد قال عبر حسابه على فيسبوك إن عدداً من قوات حفظ السلام، لم يحدده، سيذهب إلى كازاخستان لمدة محدودة لإعادة استقرار الوضع بعد إحراق مبان حكومية والسيطرة على مطار ألما آتا الدولي.
ما هي منظمة معاهد الأمن الجماعي؟
ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) هي تحالف عسكري يضم روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان.
والدول الأعضاء هي ست دول من بين 15 جمهورية كانت تشكل الاتحاد السوفييتي السابق، بينما رفضت تسع دول الانضمام للمنظمة التي تشكلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
ويمكن النظر للدول الأعضاء في المنظمة بأنها الجمهوريات التي ما زالت تدور بشكل أو بآخر في الفلك الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بينما بقية الدول التي رفضت الانضمام ابتعدت عن موسكو وأصبحت أقرب للغرب، بل أحياناً باتت في حالة عداء مع روسيا، مثل جمهوريات البلطيق وأوكرانيا وجورجيا، بينما أذربيجان تتمتع بعلاقة جيدة نسبياً مع موسكو رغم عدم انضمامها للمنظمة، وتحالفها مع تركيا وعلاقتها الوثيقة مع الغرب.
وتعود جذور هذه المنظمة إلى مايو/أيار 1992، عندما وقعت ست دول منتمية إلى كومنولث الدول المستقلة الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي على معاهدة الأمن الجماعي (يشار إليها أيضاً باسم ميثاق طشقند أو معاهدة طشقند) ووقعت ثلاث دول أخرى- أذربيجان وبيلاروسيا وجورجيا- في العام التالي على المعاهدة التي دخلت المعاهدة حيز التنفيذ في عام 1994.
وبعد خمس سنوات، وافقت ست من الدول التسع- جميعها باستثناء أذربيجان وجورجيا وأوزبكستان- على تجديد المعاهدة من أجل خمس سنوات أخرى، وفي عام 2002 وافقت الدول الست على إنشاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي كتحالف عسكري.
والمادة 4 من معاهدة الأمن الجماعي التي تأسست على أساسها المنظمة، تنص على أن أي هجوم مسلح يهدد أمن واستقرار وسلامة أراضي وسيادة أحد أعضائه سيعتبر عملاً عدوانياً ضد جميع الدول الأعضاء.
وعندما اندلعت حرب القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا عام 2021، دعا بعض السياسيين الأرمن رئيس الوزراء نيكول باشينيان إلى مناشدة منظمة معاهدة الأمن الجماعي التدخل، ولكن المنظمة رفضت لأنها تنظر إلى حرب القوقاز بأنها خارج صلاحيتها لأنها تدور في إقليم ناغورنو كاراباخ، المعترف بها رسمياً كأراض لأذربيجان وأنه محتل من قبل أرمينيا.
كان التحدي الثاني أمام منظمة معاهدة الأمن الجماعي في العام الماضي هو النزاع الحدودي المسلح في أبريل/نيسان بين اثنين من أعضائها: قيرغيزستان وطاجيكستان، ولم تتدخل المنظمة باستثناء توجيه المناشدات للدولتين.
الخاسرون والرابحون مما يحدث في كازاخستان
لماذا تخشى روسيا أدنى تغيير؟
رغم عدم وجود نشاط عسكري فعلي نفذته منظمة معاهدة الأمن الجماعي منذ نشأتها، فإن مسارعة روسيا لدفع المنظمة لإرسال قوات لكازخستان أو بالأحرى استخدام موسكو للمنظمة كغطاء لإرسال قوات روسية للبلاد المضطربة يشير إلى جزع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشديد مما يحدث في كازاخستان.
فالأزمة في كازاخستان، تمثل خطراً على مصالح الأمن القومي الروسية من ناحية، ولمصالح بوتين ونظامه داخل روسيا أمام المعارضة الروسية في الوقت ذاته.
فروسيا تعتبر دول المنظمة مجالاً لنفوذها السياسي بعدما خرجت بقية جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق عن سيطرتها بل وتحولت بعضها لدول معادية لموسكو حتى أن جمهوريات البلطيق الثلاث أصبحت أعضاء في حلف الناتو.
وللحفاظ على النفوذ الروسي في آسيا الوسطى تحديداً فإن كازاخستان لها أهمية خاصة فهي ثاني أكبر جمهوريات الاتحاد السوفييتي مساحة بعد روسيا نفسها وهي دولة غنية بالموارد الطبيعية بشكل استثنائي؛ حيث تمتلك موارد ضخمة تشمل مساحة كبيرة من الأراضي الزراعية وحقول نفط وغاز ضخمة، إضافة إلى أن كازاخستان هي الممر بين روسيا وبقية جمهوريات آسيا الوسطى، وخروجها من بين براثن النفوذ الروسي معناه تدهور هذا النفوذ في آسيا الوسطى برمتها، كما أن الجمهورية السوفييتية السابقة بها أكبر أقلية من الروس والناطقين بالروسية خارج روسيا بعد أوكرانيا، حيث إنها كانت ساحة لعمليات استيطان روسي وأوكراني نظمته حكومات موسكو المتعاقبة في العهدين القيصري والشيوعي على حساب السكان الأصليين للبلاد.
وإضافة لذلك فسقوط نظام الحكم في كازاخستان، أو تحوله لبعض الديمقراطية قد ينعكس على روسيا وبقية جمهوريات منظمة الأمن والتعاون الجماعي.
إذ يخشى الكرملين أن تكون الاحتجاجات في كازاخستان أحدث إشارة إلى أن المواطنين الذين أمضوا عقوداً من العيش في ظل الأنظمة الاستبدادية التي ورثت الاتحاد السوفييتي السابق وصلوا إلى نقطة نهاية صبرهم، حسب وصف صحيفة Daily Mail البريطانية.
ما هي مصالح الصين في كازاخستان؟
كازاخستان لديها حدود مع الصين وروسيا معاً، ورغم أن جمهوريات آسيا الوسطى ولا سيما كازاخستان تعتبر معقلاً للنفوذ الروسي، فإن النفوذ الصيني قد تصاعد بشكل كبير في المنطقة لا سيما في المجال الاقتصادي.
ويمكن القول إن النفوذ الصيني في آسيا الوسطى يتصاعد بشكل لا يغضب موسكو، خاصة أن مصلحة بكين الأساسية في المنطقة متطابقة مع روسيا ومع الأنظمة الاستبدادية بدول آسيا الوسطى، وهو عدم تصاعد شعور إسلامي أو "قومي تركستاني" (تركستان مصطلح يطلق على آسيا الوسطى بما في ذلك في منطقة الإيغور ويعني وطن الأتراك.
لأن هذه التوجهات القومية التركستانية أو الإسلامية من شأنها أن تؤثر على إقليم الإيغور المجاور والذي يشترك مع جمهوريات آسيا الوسطى ومنها كازاخستان في الإنتماء للإسلام والأصول العرقية التركية، والمعاناة من الحكم الشيوعي.
وشاركت الصين وروسيا مع دول آسيا الوسطى الإسلامية في تأسيس منظمة أمنية وسياسية واقتصادية هي منظمة شنغهاي.
وتأسست هذه المنظمة عام 2001 في شانغهاي، على يد قادة ست دول آسيوية؛ هي الصين، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وروسيا، وطاجيكستان، وأوزبكستان. وقع ميثاق منظمة شانغهاي للتعاون في يونيو 2002، واتسعت بعد ذلك لتضم الهند وباكستان ثم إيران في عام 2021.
وبالتالي، فإن الصين واحدة من أكثر دول العالم المعنية باستمرار النظام الحالي، في كازاخستان، بشكله الحالي، فأي تغيير في النظام أو تطور في تركيبته نحو مزيد من الانفتاح، قد يؤدي إلى صعود الشعور الإسلامي أو التركستاني الذي يربط بين شعوب المنطقة والإيغور، خاصة أن إقليم سينكيانغ الصيني الذي يوجد به الإيغور يضم أقلية كازاخية مسلمة ذات وزن وهي تتعرض للاضطهاد الصيني مع الإيغور.
هل أمريكا مستفيدة مما يحدث؟
بطبيعة الحال فإن أي ضرر يلحق بالمصالح الروسية، قد تعتبره واشنطن فوزاً، رغم أن علاقات كازاخستان بالغرب جيدة، حيث إن البلاد تركز منذ استقلالها على الجوانب الاقتصادية وتقديم نفسها باعتبارها مركزاً لتلقي الاستثمارات الأجنبية خاصة في مجال الطاقة والزراعة.
كما أن الغرب رغم ازدرائه للأنظمة الاستبدادية للجمهوريات السوفييتية السابقة بآسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة لولائها لموسكو وسياستها القمعية، ولكن يظل يفضلها على الفوضى والاضطرابات واحتمالات صعود حركات إسلامية متطرفة أو معتدلة في المنطقة المكبوتة، وبدا ذلك واضحاً في تعاون واشنطن مع جمهوريات آسيا الوسطى خلال الحرب في أفغانستان.
ولكن في ظل تزايد الاستقطاب الأمريكي مع روسيا والصين، فلقد تفضل واشنطن بعض الاضطراب للدولتين عن المصالح الاقتصادية مع كازاخستان، أو مخاوف الفوضى في المنطقة، خاصة أن أمريكا قد انسحبت من أفغانستان، وبالتالي لن تؤثر عليها الفوضى المحتملة تأثيراً مباشراً.
كما أن أي إضعاف للاستبداد في آسيا الوسطى قد ينتقل تأثيره إلى روسيا تحديداً، وبصورة أقل الصين.
تركيا.. علاقة قوية رغم التباين الأيدولوجي
من جانبها قالت تركيا، أمس الأربعاء، إنها "تتابع عن كثب الاحتجاجات التي انطلقت الأحد، وأدت إلى استقالة الحكومة الكازاخية"، لافتة إلى أنها "تولي أهمية كبرى من أجل استقرار كازاخستان الصديقة".
وفي بيان لها، عبرت وزارة الخارجية التركية عن "أملها في ضمان أمن ورفاه الشعب الكازاخي الشقيق"، مؤكدة "ثقتها بحكمة الشعب الكازاخي"، راجية "انتهاء الاحتجاجات في أقرب وقت".
والعلاقة بين تركيا والمنطقة مركبة للغاية، من الناحيتين السياسية والاقتصادية. فلدى أنقرة علاقة وثيقة مع معظم دول آسيا الوسطى المسلمة التي تشترك مع أنقرة في الإرث القومي التركي والدين.
وكازاخستان، تحديداً، لديها مع تركيا علاقات وثيقة في المجالات الاقتصادية والسياسية، ومحاولات رمزية لإحياء الإرث التركي المشترك.
ولكن في المقابل، يمثل النظام التركي الذي يجمع بين النزعة الإسلامية المعتدلة والقومية التركية العابرة للحدود مع الديمقراطية نقيضاً لما تمثله أنظمة الحكم الاستبدادية في آسيا الوسطى التي تواصل سياسات الاتحاد السوفييتي في استخدام الاستبداد لإحياء نزعات إثنية ضيقة تعادي الهوية الإسلامية الجامعة للمنطقة ولفكرة القومية التركستانية التي تجمع معظم شعوب آسيا الوسطى.
فسكان منطقة آسيا الوسطى مسلمون من العرق التركي، وهذه المنطقة لم تعرف الحدود الفاصلة بين دولها قبل الاتحاد السوفييتي، الذي ركز على الفصل بين كل جمهورية وأخرى في المنطقة لمحاربة النزعة الإسلامية والقومية التركية والتركستانية التي كانت تهدف إلى توحيد هذه الشعوب في مواجهة الاحتلال الروسي والحكم الشيوعي، وهذه النزعة التركية الجامعة تمثل أحد جذور الفكرة القومية التي ظهرت في تركيا في نهاية العهد العثماني، فيما يعتبر حزب العدالة التنمية الحاكم في تركيا نفسه قائداً للنزعة الإسلامية التركية الجامعة، والتي تؤكد على التقارب بين الشعوب التركية في العالم وأهمية الإسلام في هوية هذه الشعوب.
ولكن تركيا تفهَّمت حساسية أنظمة آسيا الوسطى من هذه الأمور خلال العقود الماضية، كما تفهَّمت مدى توغل النفوذ الروسي في المنطقة وضخامة التحولات الثقافية التي خلفها القمع السوفيتي على مدار عقود والذي أبعد شعوب المنطقة عن إرثها التاريخي، وكذلك الصرامة الأمنية التي اتسمت بها الأنظمة التي تحكم دول المنطقة التي ورثت الاتحاد السوفيتي.
ولذا سعت أنقرة إلى التركيز على العلاقات الاقتصادية والسياسية، وإحياء الإرث التركي والإسلامي المشترك بطريقة لا تؤدي إلى اختلافات سياسية، مع مراعاة نفوذ موسكو الراسخ في هذه المنطقة وبالنظر كذلك إلى أن أنقرة لا تربطها حدود مباشرة مع آسيا الوسطى.
في الأغلب، فإن تركيا سوف تواصل الحفاظ على علاقتها مع النظام في كازاخستان في حال استمراره مع نصحه بمزيد من الانفتاح، وفي الوقت ذاته فإن أي تطور في اتجاه الديمقراطية في كازاخستان، فإن أنقرة ستظل من أكبر الرابحين منه.