مع استمرار الأزمة التي خلقها الصرب في جمهورية البوسنة والهرسك والتي تهدد بعودة الحرب للبلاد، بدأ موقف تركيا تجاه أزمة البوسنة يشهد تصعيداً وباتت تبعث برسائل ذات مغزى سياسي وعسكري بدعمها لمسلمي البوسنة مع استمرار تأكيدها على حرصها على العلاقات مع كل مكونات البوسنة والحفاظ على العلاقات الوثيقة التي تشكلت مع صربيا في السنوات الأخيرة.
وبدأت الأزمة عندما فرض المبعوث الدولي السابق في البوسنة "البريطاني الجنسية، فالنتين إنزكو قبل نهاية ولايته، حظراً على إنكار الإبادة الجماعية التي وقعت خلال حرب البوسنة، ما أغضب قادة الكيان ذي الأغلبية الصربية في البوسنة، المعروف باسم "جمهورية صربسكا"، وأعلنوا مقاطعة لمؤسسات الدولة البوسنية.
ووصل الأمر إلى أن ميلوراد دوديك، زعيم الصرب في البوسنة والهرسك، هدد مؤخراً بالانفصال عن البوسنة إذا لم يتم العودة إلى "أصل اتفاقية دايتون" التي أنهت الحرب في البلد الذي يعاني أزمة سياسية منذ فترة، عمّقتها تصريحات دوديك الأخيرة.
وبداية الشهر الجاري بدأ نواب صرب البوسنة الانسحاب من المؤسسات المركزية في البوسنة والهرسك، رغم تحذيرات الغرب ضد هذه الخطوة، مرر برلمان صرب البوسنة تصويتاً يلزم الحكومة المحلية بالانسحاب من 3 مؤسسات مشتركة أساسية هي الجيش والنظام القضائي والضرائب في الأشهر الستة القادمة.
وأبدى مسلمو البوسنة خشيتهم من عودة الحرب على غرار ما جرى بين عامي 1992 و1995 من حرب مدمرة بين البوسنيين والصرب والكروات وتخللتها مذابح خلفت أكثر من 100 ألف قتيل، منهم نحو 80 ألفاً من البوسنيين (البوشناق)، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
وفي هذا السياق، حذر سياسيون بوسنيون من تحركات سياسية "خطيرة" وأجواء تحشيد وتسليح لميليشيات، ما زاد الخشية من تحول الأزمة السياسية إلى نزاع مسلح جديد، خاصة أن المنطقة الصربية في البوسنة مازال يعيش بها أعداد من المسلمين.
أردوغان يؤكد على علاقة تركيا مع الجميع، ولكنه يحذر من المساس بمسلمي البوسنة
من جانبه، أكد الرئيس رجب طيب أردوغان أن تركيا تعد الحائل الأكبر أمام وقوع أحداث مؤسفة في البوسنة والهرسك مجدداً، كتلك التي شهدتها البلاد قبل اتفاقية دايتون المبرمة عام 1995.
وقال أردوغان -خلال لقائه ممثلي منظمات مدنية للبوشناق في تركيا، الأحد الماضي- إن تركيا لطالما قدمت الدعم من أجل استقرار البوسنة والهرسك عبر الحفاظ على البنية الثقافية والإثنية المتعددة لهذا البلد، ودون تمييز بين مكوناته.
وتابع: "لا نريد أبداً أن تتحول البوسنة والهرسك إلى ساحة نفوذ وتنافس للأطراف التي لديها حسابات بشأن هذه المنطقة".
وأردف: "انطلاقاً من ذلك فإننا كثفنا جهودنا الدبلوماسية عقب التوتر الأخير الذي جعل من وحدة البوسنة محل نقاش، رغم أن جهود تركيا من أجل الحفاظ على السلام والاستقرار في البلقان تزعج بعض الأوساط التي تتغذى على القلاقل والفوضى".
ومضى قائلاً: "مهما يفعل الآخرون سنواصل احتضان الصرب والكروات والأرناؤوط والمقدونيين إلى جانب أشقائنا البوشناق".
ولفت الرئيس أردوغان إلى أنه ناقش مع الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش في 18 أيلول/سبتمبر في إسطنبول التطورات في المنطقة، وقد يوجه دعوة لنظيره الصربي لزيارة جديدة لتركيا لبحث التطورات في هذا الإطار.
كما أشار إلى أنه التقى رئيس مجلس الشعوب البوسني (الغرفة الثانية للبرلمان) بكر عزت بيغوفيتش، الأربعاء المنصرم، في إسطنبول، وبحث معه سبل احتواء التوتر القائم في البلاد.
وأوضح أردوغان أنه يخطط خلال الأيام المقبلة دعوة مسؤولين من البوسنة والهرسك، للقاء في أنقرة، بمن فيهم ميلوراد دوديك (العضو الصربي في المجلس الرئاسي الثلاثي الذي أدلى بتصريحات فاقمت التوتر في البلاد) إلى جانب شفيق جعفروفيتش ممثل البوشناق وزليكو كومسيك ممثل الكروات في المجلس.
وأوضح أنه ربما يقوم بزيارة عمل إلى صربيا أو يوجه دعوة لنظيره الصربي لزيارة تركيا لبحث التطورات في هذا الإطار.
العثمانية الجديدة تعني الانفتاح على الجميع في البلقان وليس التخلي عن البوسنة
كانت العلاقات التركية الصربية دوماً متوترة، منذ معركة كوسوفو عام 1389 التي قضت فيها الدولة العثمانية على الإمبراطورية الصربية، وفتحت هذه المعركة الباب للعثمانيين لسيطرة على البلقان دامت لقرون، وأصبح صربيا والبوسنة جزءاً من إمبراطوريتهم، بل أصبح الصرب مكوناً مهماً في كثير من المعارك من الجيش العثماني، ثم أصبح الصرب واحداً من أوائل شعوب البلقان تمرداً على الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر، وكانت دولة صربيا الوليدة واحد من أهم أشد أعداء تركيا مراساً حرب تركيا في حرب البلقان الأولى عام 1912 التي انتزعت من الدولة العثمانية آخر ممتلكاتها الأوروبية، ومنذ الحين اتسمت العلاقة بين الجانبين بالتوتر مع دعم تركي لمسلمي يوغسلافيا سواء في البوسنة أو ألبان كوسوفو.
ولكن منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم، حاولت أنقرة الابتعاد عن كونها مجرد نصير لمسلمي البلقان، وبدلاً من ذلك تعمل كوسيط قوة بين المجموعات العرقية المختلفة في المنطقة، أصبح هذا واضحاً خلال زيارة أردوغان للبوسنة، وزيارة زعيم صرب البوسنة دوديك إلى تركيا، حسبما ورد في تقرير لموقع موقع Balkan Insight.
كما زار الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش تركيا في سبتمبر/أيلول 2021، وعبر عن اهتمام بلاده بشراء أسلحة ومعدات وأسلحة من تركيا، وخاصة طائرات "بيرقدار تي بي 2" التركية المسيّرة، كما صرح في خطابه في حفل التوقيع الرسمي لعدة اتفاقيات بما في ذلك الإطار العسكري في عام 2019.
وكان لافتاً أنه رغم الأزمة قدمت الحكومة التركية للبرلمان اتفاقية تعاون عسكري مع صربيا من أجل التصديق عليها رغم انتقادات المعارضة التركية.
كما تطور التعاون التركي الصربي في مجال الاقتصاد، وفي ذروة الأزمة الحالية، بدأت شركة صناعة قطع غيار السيارات التركية إيرينلي بناء مصنع بقيمة 16.6 مليون يورو (18.8 مليون دولار) في ليسكوفاك بشرق صربيا، حسبما ذكرت حكومة مدينة ليسكوفاك منتصف هذا الشهر.
لماذا تأخرت تركيا في التصعيد ضد الصرب؟
كان لافتاً في موقف تركيا من الأزمة في البوسنة أنها واصلت توثيق العلاقة مع صربيا، حتى بعد اندلاع الأزمة، ولم تنحُ للتصعيد، رغم أنها تنظر لنفسها على أنها مسؤولة عن مسلمي البوسنة، كجزء من مسؤولياتها عن مسلمي المناطق الأوروبية التي كان للدولة العثمانية نفوذ أو وجود بها.
ويرجع ذلك لأسباب عدة، أولها أن التصعيد في موقف تركيا تجاه أزمة البوسنة في مرحلة مبكرة، كان يمكن أن يؤثر على الموقف الأوروبي، فبالنظر إلى العلاقة التي تتسم بالمماحكة والعناد تجاه تركيا من قبل بعض قادة أوروبا الغربية وبالأخص فرنسا وبطبيعة الحال اليونان، فإن التريث في التصعيد في موقف تركيا من الأزمة في البوسنة أتاح بلورة موقف أوروبي منتقد لصرب البوسنة، الذين ظهروا بمظهر الخارج عن الشرعية الأوروبية وبصورة أقل الدولية خاصة أن القرار الذين تمردوا عليه كان قراراً من المبعوث الدولي البريطاني الجنسية للبوسنة.
كما أن موقف صرب البوسنة جعل الأوروبيين يربطون بين الأزمة وبين قلقهم من النفوذ الروسي في المنطقة مع تعزز علاقة صربيا بموسكو وكذلك مفاخرة زعيم صرب البوسنة بعلاقاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتهديده باللجوء لمساعدة الصين وروسيا إذا فرضت عقوبات أوروبية على صرب البوسنة.
جعل ذلك الاتحاد الأوروبي ينظر للأزمة من منظور تهديد لأمنه الداخلي باعتباره البوسنة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي أو بالأحرى مرشحة محتملة حسب الوصف الأوروبي، وبالتالي النفوذ الروسي فيها تهديد للاتحاد الأوروبي برمته.
كما أن التريث التركي في التصعيد أتاح الفرصة لأنقرة للضغط على الصرب بالنظر إلى أن صربيا وصرب البوسنة على السواء حريصون على صداقة تركيا المستجدة.
ولكن مع استمرار الأزمة، وتزايد قلق مسلمي البوسنة من عودة شبح الحرب التي كانوا أكبر ضحاياها في التسعينيات، لم تعد أنقرة تكتفي بالتلويح بجزرة العلاقة الحسنة مع الصرب، بل بدأت تلوح بعصا الدعم السياسي والعسكري، لمسلمي البوسنة، وهي عصا إذا أضيفت للضغط الأوروبي على الصرب من شأنها أن تمثل فارقاً خاصة في ظل محدودية قدرة روسيا على دعم الصرب نظراً للبعد الجغرافي وانشغال موسكو بالأزمة الأوكرانية.
رسائل قوية تبرز موقف تركيا تجاه أزمة البوسنة
وفي هذا الإطار بدأت تتوالى رسائل من تركيا لدعم مسلمي البوسنة، وهي رسائل طرفها الثاني الصرب، وبدأت هذه الرسائل بعدم زيارة أردوغان لصربيا خلال جولته البلقانية التي شملت البوسنة والجبل الأسود رغم زيارة رئيس صربيا لتركيا ودعوته لنظيره التركي لزيارة بلاده، ولكن أردوغان لوح مؤخراً بإمكانية قيامه بزيارة لصربيا في مؤشر على أن هذه الزيارة المقترحة سوف تكون مقابل حل الأزمة من قبل الصرب.
وفي أحدث رسائل الدعم التركية، زار وزير الدفاع التركي خلوصي أكار العاصمة سراييفو، والتقى أعضاء المجلس الرئاسي الثلاثي للبوسنة والهرسك وهم رئيس المجلس زليكو كومسيك (ممثل الكروات) وعضوي المجلس شفيق جعفروفيتش (ممثل البوشناق) وميلوراد دوديك (ممثل الصرب).
وأكد وزير الدفاع التركي أن بلاده تولي أهمية كبيرة لاستقرار البوسنة والهرسك ووحدة أراضيها، مشيراً إلى "بذل تركيا الجهود لمواصلة كافة أنواع التعاون بما في ذلك التعاون العسكري والأمني"، وبينما لفت إلى أن تركيا "قدمت كل أنواع الدعم للبوسنة والهرسك، وأنها عازمة على دعم السلام والازدهار الذي يستحقه الشعب البوسني"، وأعلن استعداد بلاده "لتحمّل المسؤولية في كافة الأمور بما في ذلك الوساطة لمواجهة الوضع الراهن في حال طلب منها".
كما التقى أكار نظيره البوسني سيفيت بودزيتش، وشدد في مؤتمر صحافي على أن "الخطاب الانفصالي في البوسنة والهرسك لا يصب في مصلحة أي طرف"، مشيراً إلى أن "تركيا تتابع تطورات الأوضاع في سراييفو عن كثب"، وأكد أن "تركيا تربطها بالبوسنة الهرسك علاقات وطيدة، وهي حريصة على سلامتها من كل مكروه"، والتقى أكار أيضاً رئيسة البلاد فيوسا عثماني، ورئيس الوزراء ألبين كورتي.
ورغم حرص أكار ومن قبله كبار المسؤولين الأتراك على تصدير خطاب "وحدوي" ولقاء المسؤولين البوسنيين والصرب على حد سواء والتأكيد على "وحدة البوسنة والهرسك"، إلا أن محللين أتراك وبوسنيين اعتبروا زيارة وزير الدفاع رسالة دعم تركية لمسلمي البوسنة أمام احتمال حصول مواجهة عسكرية.
وفي تصريحات نقلتها وكالة الأناضول، قال العضو البوشناقي في المجلس الرئاسي للبوسنة والهرسك شفيق جعفروفيتش، إن "تركيا والبوسنة تربطهما علاقات صداقة قوية، وزيارة أكار إلى سراييفو تشير إلى مدى اهتمام أنقرة بالتطورات التي تحصل هنا"، مضيفاً: "تركيا تدعم بقوة سيادة البوسنة والهرسك وسلامتها الإقليمية ومؤسساتها، كما تقدم دعماً كبيراً لمساعي البوسنة والهرسك في الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي".
وفي وقت سابق من هذا الشهر، عبرت الخارجية التركية عن قلقها من قرارات الجمعية الوطنية لجمهورية صرب البوسنة، مؤكدة أن "أنقرة عازمة على دعم سيادة ووحدة أراضي البوسنة والهرسك"، وبينما حذرت من أن "هذا الوضع يشكل أيضاً تحدياً للسلام والاستقرار في البلقان وأوروبا بأسرها"، قالت: "ندعو من سيتحملون مسؤولية الإضرار بالسلام والازدهار إلى الالتزام بالإطار الدستوري والقانوني واللجوء إلى الحوار بدلاً من الإجراءات الأحادية الجانب".
دبلوماسية الطائرات المسيرة تصعد من جديد
وكان لافتاً قيام رئيس أركان البوسنة والهرسك الفريق سيناد ماسوفيتش، مؤخراً بزيارة إلى مصنع "بيرقدار" لتطوير وإنتاج الطائرات المسيرة المحلية في تركيا، حيث تجول في المصنع برفقة المدير التقني لشركة "بايكار" الرائدة في مجال الطائرات المسيرة، سلجوق بيرقدار، في مسعى على ما يبدو للحصول على الطائرة التركية الهجومية التي ذاع صيتها في الكثير من المواجهات العسكرية في العامين الأخيرين، حسبما ورد في تقرير لموقع صحيفة القدس.
وهي الطائرات نفسها الذي عبر الرئيس الصربي عن رغبة بلاده في شرائها.
وهنا تبدو أن ما يمكن تسميته "دبلوماسية الطائرات المسيرة أو دبلوماسية البيرقدار تصعد من جديد في السياسة التركية وتصبح أداة من أدوات الموقف من التركي تجاه أزمة البوسنة.
هل تكرر تركيا أسلوبها في القوقاز وليبيا وسوريا؟
على غرار ما حدث في أزمات القوقاز وليبيا وإدلب بسوريا وبصورة أقل أوكرانيا، تعتمد تركيا على سياسة تجمع بين الأدوات الناعمة والخشنة.
ففي كل هذه الساحات، حرصت تركيا على توطيد العلاقات السياسية والدبلوماسية مع منافسيها والتي أوصلتها لإقامة علاقة وثيقة مع روسيا غريمتها التاريخية ومنافستها الرئيسية في العديد من الساحات، علاقة وصلت لروابط شخصية نادرة بين بوتين وأردوغان، ولكنها علاقة لم تخلُ من استخدام متبادل لأدوات القوة الخشنة وفي مقدمتها الطائرات المسيرة مع روسيا مثلما حدث في أزمة إدلب في مارس/آذار 2020 حينما قتل 33 من الجنود الأتراك في غارة جوية غامضة على مركز عسكري تركي في إدلب معروف إحداثياته للروس ونسب تنفيذ الغارة للنظام السوري الذي كان يشن واسعاً على إدلب هدد بتدمير المعارضة وإثارة موجة نزوح واسعة لتركيا.
فردت أنقرة بهجوم عسكري واسع النطاق على قوات الأسد في إدلب رغم أنها محمية من قبل روسيا وذلك بواسطة الطائرات المسيرة والمدفعية التركية إضافة إلى إدخال آلاف الجنود، ما أدى إلى مقتل مئات من جنود النظام وتدمير عشرات المدرعات، الأمر الذي دفع بوتين في النهاية لإجبار النظام السوري على وقف هجومه بعدما كاد جيش الأسد يتحطم في إدلب وأبرم اتفاق بين موسكو وأنقرة أدى لعودة وقف إطلاق النار وظل صامداً للآن رغم محاولات الإمارات آنذاك لرشوة الأسد لدفعه لخرق وقف إطلاق النار.
كانت تصرفات تركيا في إدلب أكثر من مجرد تبادل لإطلاق النار مع أعداء عبر الحدود. بدا الأمر أشبه بعمل حرب كاملة، استخدمت فيها أنقرة أصولاً متعددة في جيشها، وألحقت أضراراً جسيمة بجيش النظام السوري، حسب وصف موقع Insider الأمريكي.
وفي ليبيا حدث أمر مماثل، حينما أرسلت تركيا خبراءها العسكريين وطائراتها المسيرة ومدرعات لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً والتي تمكنت عبر هذه المساعدة من فك حصار طرابلس بعدما هزمت قوات حفتر، والمرتزقة الروس المتحالفين معها ودمرت أنظمة بانتسير الروسية للدفاع الجوي التي كانت بحوزتهم، وانتهى الأمر بإطلاق عملية تسوية سياسية سبقها تفاهم تركي روسي على وقف القتال.
وفي القوقاز، تكرر السيناريو بشكل أكثر وضوحاً، حينما هزمت أذربيجان المدعومة بالطائرات المسيرة التركية والإسرائيلية أرمينيا المدعومة من روسيا وحررت باكو معظم أراضيها المحتلة، وانتهت الحرب باتفاق وقف إطلاق نار بوساطة روسية ومشاركة تركية، بل وصل الأمر إلى إعلان أرمينيا وتركيا استعدادهما لفتح صفحة جديدة وتخفيف الخلافات بينهما في نموذج ناجح لدبلوماسية الطائرات المسيرة.
في البلقان، يبدو الترتيب معاكساً، حيث بدأت تركيا بتعزيز العلاقات مع خصومها المفترضين الصرب، ولكنها في الوقت ذاته بدأت تلوح بإمكانية الدعم العسكري لمسلمي البوسنة لو ساءت الأمور، وهو تلويح أو تهديد يعلم الصرب من خلال تجارب الأتراك في القوقاز وليبيا وإدلب بإمكانية تنفيذه، خاصة أن الخصم أي الصرب في الأزمة البوسنية أضعف من الخصوم من الأزمات المشار إليها.
فروسيا ليست متورطة بنفس القدر في البلقان وليس لها وجود عسكري في المنطقة التي يعتبر الاتحاد الأوروبي والناتو أنها خاصرته الضعيفة التي لا يجب أن تخترق روسياً.
أنقرة تحمي مصالح الاتحاد الأوروبي رغم المناكفات بينهما
كما أن موقف تركيا تجاه أزمة البوسنة قريب من الموقف الأوروبي بل يمكن القول إنه يخدم المصالح الأوروبية.
بكلمات أخرى فإن موقف تركيا تجاه أزمة البوسنة يشرح ما لم يقتنع به الأوروبيون في الأزمات الثلاث المشار إليها، بأن أنقرة بدبلوماسيتها التي تجمع بين الأدوات الناعمة والخشنة وتنافسها المنضبط مع روسيا تخدم المصالح الأوروبية والغربية.
ففي ليبيا وسوريا فعلت تركيا ما عجز عنه الغرب من التصدي للنفوذ الروسي، بالقوة، بل كان الموقف الأوروبي متناقضاً، فكانت فرنسا تدعم حفتر في ليبيا رغم علاقته الوثيقة مع روسيا التي وفرت لها موطأ قدم عسكري يشمل قاعدة في الجفرة ومرتزقة منتشرين في أنحاء ليبيا رغم ما في ذلك من مخاطر على أمن الاتحاد الأوروبي والناتو.
واليوم في البوسنة، فإن أنقرة بتلويحها بالعصا بعد الجزرة، فإنها تقدم رسالة للصرب ولاسيما صرب البوسنة أن الحرب الأهلية مرفوضة وأن مسلمي البوسنة تحديداً خط أحمر لأن الطائرات التركية المسيّرة التي استخدمتها قوات حكومة الوفاق الليبية وأذربيجان لقلب مجريات المعارك يمكن أن تقدم لمسلمي البوسنة.
وتحول موقف تركيا تجاه أزمة البوسنة نحو التصعيد عبر التلويح بالطائرات المسيرة، لا يعني بالضرورة أنها سوف تدخل في حرب مباشرة مع صربيا أو صرب البوسنة مثلما فعلت في إدلب بسوريا، ولكن رسالة أنقرة أنه إذا انزلقت الأزمة إلى حرب بين المسلمين والصرب في البوسنة فإن المسلمين لن يجدوا أنفسهم وحدهم مثلما حدث في التسعينيات حين تباطأ حلف الناتو في التدخل وترك الصرب وبصورة أقل الكروات يذبحون المسلمين ولكن هذه المرة قد تزود أنقرة مسلمي البوسنة بالطائرات المسيرة والمدرعات وحتى الخبراء مثلما حدث في ليبيا والقوقاز.
ويبدو أن الصرب حريصون على عدم التصعيد مع تركيا كما يبدو من تصريحات الرئيس الصربي وزعيم صرب البوسنة الذي أظهر استعداداً لمقابلة أردوغان في سراييفو على الرغم من مقاطعته لمؤسسات الدولة في البوسنة.
كما كان لافتاً أن ميلان تيجلتيجا، المستشار السياسي لزعيم صرب البوسنة، غرّد قائلاً: "إذا كان علي عزت بيغوفيتش "زعيم استقلال مسلمي البوسنة" قد قال إنه ترك لأردوغان المسؤولية عن البوشناق في البوسنة والهرسك، فإن إشراك أردوغان في محادثات بشأن البوسنة أمر منطقي".
وهو مؤشر على حرص صرب البوسنة على خطب ود تركيا رغم تصعيدهم للأزمة في البوسنة.
وبينما تُظهر الجماعات المتناحرة في البوسنة حماساً مع فكرة أن يكون أردوغان وسيطاً، فإن أنقرة مضطرة للحرص عند اختيار توقيت ونبرة تحركاتها في البلقان.
ولكن كما يقول موقع Balkan Insight فإنه بغض النظر عن الحروب التاريخية بين الصرب والأتراك، لدى الصرب تاريخ طويل من الاتفاقات المعقولة مع الأتراك، هذه المعقولية هي ما تفتقده النخبة السياسية البوسنية حالياً.
كما أن تركيا أثبتت في الأزمات الأخيرة في البلقان وليبيا والقوقاز قدرة على المزج بدقة بين استخدام الأدوات الخشنة والتوصل لتسويات منطقية مع خصومها، وهو أمر يفتقده الاتحاد الأوروبي الذي ينحو لرفع سقف شعاراته دون قدرة على تنفيذها.