جاءت مصادقة المحكمة العليا ببغداد على نتائج الانتخابات العراقية التشريعية، ورفضها طلب إلغائها المقدم من القوى الموالية لإيران، ليمثل محطة مهمة في تاريخ العراق، ويثير تساؤلات حول هل تتقبل هذه القوى قرار المحكمة أم تلجأ لأساليب العنف لإفساد العملية السياسية؟
وردت المحكمة الاتحادية في العراق، (أعلى محكمة في البلاد)، الإثنين 27 ديسمبر/كانون الأول 2021، دعوى الطعن في نتائج الانتخابات العراقية البرلمانية، التي جرت في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقررت رد دعوى الطعن بنتائج الانتخابات، ورفض إصدار أمر ولائي بإيقاف المصادقة على نتائج الانتخابات.
كما رفضت المحكمة الدعوى الخاصة بالطعن بشأن الانتخابات البرلمانية، لأن هذا ليس من اختصاصها، ودعت البرلمان العراقي المقبل إلى تعديل قانون الانتخابات باعتماد نظام العد والفرز يدوياً حصراً. كما ذكرت المحكمة أن قرارات الهيئة القضائية في المفوضيّة العليا المستقلة للانتخابات في العراق باتّة ولا تقبل النقض.
ماذا قالت المحكمة عن الانتخابات العراقية؟
ونظرت المحكمة الاتحادية خلال ثلاث جلسات شكوى تقدمت بها قوى تحالف الفتح، بزعامة هادي العامري، للطعن بنتائج الانتخابات البرلمانية، بعد أن أظهرت النتائج خسارة هذا التحالف بالانتخابات.
كما ذكرت المحكمة أن قرارات الهيئة القضائية في المفوضيّة العليا المستقلة للانتخابات في العراق باتّة ولا تقبل النقض.
وأعلن القاضي جاسم محمد عبود، رئيس المحكمة، أن "الحكم بات مُلزماً للسلطات كافة".
واعتبر القاضي قبيل تلاوته الحكم أن "اعتراض بعض الكتل السياسية وقسم من المرشحين على نتائج الانتخابات لعام 2021، بغض النظر عن أساليبه وأسبابه، ينال من قيمة الانتخابات ويضعف ثقة الناس بها".
وأكد أن "ذلك سيؤثر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، باعتبارهما نتاجاً لتلك الانتخابات".
حكم صدر وسط تهديدات باقتحام المنطقة الخضراء
وتعطلت الحياة في بغداد صباح الإثنين، بسبب زحف أنصار القوى الخاسرة نحو مجلس القضاء الأعلى وموقع المحكمة الاتحادية.
وجاء حكم المحكمة بعد تهديدات وُجهت لمفوضية الانتخابات، حيث طالبتها الكتل التي خسرت الانتخابات بإعادة الفرز اليدوي، وشهدت شوارع بغداد زحامات مرورية خانقة جراء إغلاق وتقييد الحركة في عدد من الجسور والشوارع، على خلفية إجراءات أمنية مشددة سبقت إعلان المحكمة.
وبهذا الإعلان تكون المحكمة الاتحادية قد ثبتت النتائج النهائية للانتخابات، بعد إعادة فرز الأصوات من قبل الهيئة القضائية، نافية وجود أي تزوير. وتعد قرارات المحكمة الاتحادية العليا قطعية وغير قابلة للطعن، وتدخل في صلب مهامها المصادقة على نتائج الانتخابات لتصبح قطعية.
وبهذه النتيجة يعد تحالف الفتح أبرز الخاسرين في الانتخابات بحصوله على 17 مقعداً، بعد أن حل ثانياً برصيد 48 مقعداً في انتخابات عام 2018، التي حلت فيها الكتلة الصدرية في المرتبة الأولى بحصولها على 54 مقعداً. وبينما ارتفع رصيد الكتلة الصدرية خلال انتخابات 2021 إلى 75 مقعداً لتصبح الأولى على مستوى العراق، كما أن حزب تقدم بزعامة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي "سني"، حلّ ثانياً برصيد 37 مقعداً، بينما حلّ الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني ثالثاً برصيد 31 مقعداً.
ويشكل هذا الحكم قراراً تاريخياً من المحكمة، بالنظر إلى المأزق الذي وضعت فيه المحكمة، في ظل أوضاع استثنائية استمرت أكثر من شهرين، قوامها طعون وشكوك ومظاهرات واعتصامات وتهديدات باقتحام المنطقة الخضراء؛ حيث مقرات مفوضية الانتخابات ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية.
كما كان لافتاً أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي يتكون أعضاؤها من القضاة لم تخضع لكل الضغوط التي مورست عليها، برغم المحاولات المستمرة لاقتحام المنطقة الخضراء، حيث أعلنت النتائج النهائية للانتخابات، ورفعت ما رافقها من طعون، ومقدارها 1400 طعن، إلى الهيئة القضائية التي انتدبها مجلس القضاء الأعلى. وفيما بتّت الهيئة القضائية بعدد من الطعون التي أدت إلى حصول تغيير جزئي في النتائج، فإنها ردّت باقي الطعون، الأمر الذي جعل المفوضية ترسل النتائج النهائية إلى المحكمة الاتحادية العليا لغرض المصادقة عليها.
موقف القوى الموالية لإيران
وبالتزامن مع قرار المحكمة الاتحادية، شهدت منطقة الحارثية والقريبة من المنطقة الخضراء، صباح الإثنين، مظاهرات لأنصار الكتل الخاسرة في الانتخابات.
وفرضت القوات الأمنية العراقية إجراءات مشددة في محيط المنطقة الخضراء ببغداد، التي تضم مقر الحكومة والبرلمان والبعثات الدبلوماسية، من ضمنها السفارة الأمريكية.
ودعا الزعيم الشيعي العراقي، مقتدى الصدر، للإسراع بتشكيل حكومة أغلبية وطنية، فيما رحب بمصادقة المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات، وفقاً لما نقلته وكالة الأنباء الألمانية.
وتفتح المصادقة على النتائج المجال الآن أمام البرلمان الجديد لعقد جلسته الأولى خلال الأسبوعين المقبلين، ثمّ انتخاب رئيس له ورئيس للجمهورية، قبل أن يتمّ اختيار رئيس للحكومة في عملية تعتمد على المفاوضات السياسية بين القوى المختلفة.
وبعيد المصادقة، قال رئيس تحالف الفتح، هادي العامري، في بيان صادر عن مكتبه بقبول قرار المحكمة رغم "إيماننا العميق واعتقادنا الراسخ بأن العملية شابها الكثير من التزوير والتلاعب".
وورد في البيان: "من باب حرصنا الشديد على الالتزام بالدستور والقانون، وخوفنا على استقرار العراق أمنياً وسياسياً، وإيماناً منا بالعملية السياسية ومسارها الديمقراطي من خلال التبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات، نلتزم بقرار المحكمة الاتحادية".
ومازال احتمال قيام جماعات الإطار التنسيقي، التي تُمثل القوى الموالية لإيران في العراق، بردة فعل غير مرغوب فيها، قائماً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الشرق الأوسط السعودية، خاصة أن خيام المعتصمين وأهازيجهم المنددة بقرار المحكمة الاتحادية ما زالت تتعالى عند أبواب المنطقة الخضراء.
ومع ذلك، يميل كثير من المراقبين إلى ذهاب جماعات الإطار إلى "التسليم بالأمر الواقع"، والتخطيط لمرحلة المفاوضات العسيرة لتشكيل الحكومة.
واعتبر رئيس ائتلاف "دولة القانون" وعضو "الإطار التنسيقي" نوري المالكي، أن قرار المصادقة كان "متوقعاً"، وهو تصريح يصبّ هو الآخر في مسار التهدئة والقبول بنتائج الانتخابات النهائية. وقال المالكي في تغريدة، إن قرار المحكمة "كان متوقعاً ولأسباب تتعلق بوضع البلد". وتابع "لا يمكن إلغاء الانتخابات وإعادتها، مع أن الخلل الواضح وبالوثائق والأدلة موجود".
وقال أيضاً "لكن كنا نأمل من المحكمة الاتحادية أن تنصف المتضررين من الكتل والقوائم، وما يتعلق بمشكلة الكوتة النسائية".
كما كشف تصريح أدلى به القيادي في حركة "عصائب أهل الحق"، ليث العذاري، عن التوجه ذاته الذي تسير فيه قوى الإطار، وهو القبول أخيراً بالنتائج. وقال العذاري لـ"الشرق الأوسط"، "نحترم قرارات المحكمة الاتحادية، وسنستمر بمجموعة من الخيارات القانونية والقضائية والشعبية المتاحة أمامنا". وأضاف: "سنواصل تقديم الطعون بنتائج الانتخابات أمام القضاء، وسنستمر بالتظاهر والاعتصام أيضاً، لكن ذلك لا يمنع من مسار سياسي نقوم به مع بقية الكتل السياسية".
وقالت عصائب أهل الحق إن "المحكمة الاتحادية تعرضت لضغوط داخلية وخارجية".
محاولة الحصول على مكاسب بطريقة أخرى
وفي مؤشر على أن الأمور تسير في طريقها الطبيعي، دعت "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات" بالعراق، أمس الثلاثاء، رئيس البلاد برهم صالح إلى تحديد موعد أول جلسة للبرلمان المنتخب حديثاً، وذلك في خطاب أرسلته المفوضية إلى رئاسة الجمهورية، بعد تصديق المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات .
وأثار التقبل المبدئي لقرار المحكمة من قِبل ما يعرف بالإطار التنسيقي تساؤلات حول الطرق البديلة التي يسعى لها هذا الإطار لتحقيق مكاسب سياسية، في ظل خسارته الانتخابات.
ويستطيع الحشد الشعبي الذي دخل البرلمان للمرة الأولى في 2018 مدفوعاً بانتصاراته ضد تنظيم داعش، الاعتماد على لعبة التحالفات أيضاً، إذ حاز أحد شركائه، رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي يتزعم تحالف "دولة القانون"، 33 مقعداً.
كما أن القوى الموالية لإيران مثلها مثل الصدر تراهن على محاولة اجتذاب كتلة المستقلين الكبيرة في الانتخابات.
مبادرة غامضة تهدف إلى إبعاد الرئيس ورئيس الحكومة
ويعني حكم المحكمة بدء ماراثون تشكيل الحكومة المقبلة في ظل تصادم إرادتين، إرادة زعيم الكتلة الصدرية مقتدى الصدر، الذي يريدها حكومة أغلبية وطنية، ودعا إلى الإسراع بتشكيلها، وإرادة قوى الإطار التنسيقي، الباحثة عن حكومة توافقية تعوض خسارتها الانتخابية.
ويرى خبراء أن توزيع مقاعد البرلمان سيؤدي إلى غياب غالبية واضحة، الأمر الذي سيُرغم الكتل على التفاوض لعقد تحالفات.
وفي هذا الإطار، ظهرت قُبيل حكم المحكمة مبادرة غامضة، طُرحت من قِبل الإطار التنسيقي، تدعو لتحقيق التوازن في البرلمان، وضمان اختيار رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان، وفقاً لاتفاق القوى السياسية والأعراف الدستورية.
ومن الواضح أن المبادرة تهدف إلى خلق فيتو على العملية السياسية في العراق بعد الانتخابات، يتضمن ضرورة التنسيق بين القوى الرئيسية في القرارات وتوزيع المناصب، بدلاً من الاعتماد على قرارات الأغلبية البرلمانية، وبطبيعة الحال لو رفضت هذه المبادرة فيمكن أن يلجأ الحشد للتلويح بالتظاهر أو حتى السلاح.
ويرفض الإطار التنسيقي التجديد للرئيس العراقي الحالي برهم صالح، ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، ويعدّهم جزءاً من المحور الذي دفع في اتجاه الانتخابات المبكرة، وتمرير قانون الانتخابات الجديد الذي أدى إلى خسارتهم، ومن هنا كان تأكيدهم على دعم خالد العبيدي، رغم خسارته الأولية، وفوزه لاحقاً بصعوبة شديدة بمقعد عن الدائرة السادسة في الأعظمية، وهناك طرح جاد لترشيحه لرئاسة البرلمان، إضافة إلى منح هوشيار زيباري رئاسة الجمهورية بصفقة مشتركة ما بين المالكي والكتلة الكردستانية، الممثلة بمسعود البارزاني والحزب الديمقراطي، لأن القوى الموالية لإيران تكنّ كراهية خاصة للرئيس الكردي برهم صالح، لدوره في الدفاع عن مطالب المحتجين ومساندة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في تقليل نفوذ الحشد.
كما أن الحزب الديمقراطي الكردستاني يريد في إطار تعزيز مكاسبه نيل منصب رئاسة الجمهورية، الذي كان دوماً من نصيب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، ولكن هناك حديث عن صفقة بين الحزب الديمقراطي وبين الرئيس الجديد للاتحاد الديمقراطي الكردستاني بافل طالباني، تتضمن تخلي الأخير عن منصب الرئاسة لصالح الديمقراطي الذي يقوده آل برزاني، بعد أن دعموه في صراعه على رئاسة الحزب.
ويقول الأكاديمي والباحث أحمد عبد العال لموقع "إندبندنت عربية"، إن "أطراف الإطار التنسيقي بأكملها تقبلت قرار المحكمة الاتحادية، وهذا دليل على أنها وعدت بحصة كبيرة من المناصب التنفيذية، ما يجعل المبادرة التي طرحتها قيد التنفيذ، خاصة أن تلميحهم إلى تقبل حكم المحكمة يتناقض مع التصريحات المتشنجة التي سبقت إعلان القرار، كل ذلك يوضح أن ثمة تسوية جرت في الكواليس".
ورجّح عبد العال أن يحاول الإطار التنسيقي والصدر تقوية موقفهما عبر التحالف مع النواب المستقلين، والأغلب أنهم سيدعمون مرشح التيار، ومن المحتمل عجز جميع الأطراف عن الوصول إلى تسوية مشتركة، ويبقى الكاظمى بموقعه، وهي رغبة دولية من أطراف عدة.