يشهد لبنان انتخابات برلمانية خلال النصف الأول من عام 2022، وهي الانتخابات الأولى منذ ثورة أكتوبر/تشرين الأول 2019، فما فرص إعادة تشكيل الخريطة السياسية؟ وهل يواجه حزب الله ما واجهه الحشد الشعبي في العراق؟
وقبل الدخول إلى السيناريوهات المحتملة لما قد تسفر عنه الانتخابات البرلمانية في لبنان والمقررة في 27 مارس/آذار 2022، دعونا نسترجع معاً نقطة اشتعال الأزمة التي قادت إلى تلك الانتخابات والظروف المتشابهة إلى حد كبير مع الأوضاع السياسية في العراق، الذي شهد أيضاً انتخابات برلمانية مبكرة لا تزال نتائجها تثير أزمة كبرى.
عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية في لبنان يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، ضد فساد الطبقة الحاكمة، كان أبرز عناوين تلك الاحتجاجات ومطلبها الرئيسي هو رحيل جميع رموز الحكم بلا استثناء "كلن.. يعني كلن"، وإلغاء نظام المحاصصة الطائفية في تشكيل الحكومة ونظام الحكم.
وكان لافتاً أن تندلع احتجاجات مماثلة في العراق في نفس التوقيت تقريباً، رافعةً الشعارات نفسها، حتى أصبح هتاف "من التحرير لبيروت.. ثورة واحدة ما بتموت" (من ساحة التحرير في بغداد إلى بيروت.. ثورة واحدة لن تموت)، معبّراً عن تطابق الوضع في البلدين العربيين من حيث نظام الحكم القائم على المحاصصة الطائفية.
ففي لبنان، ومنذ اتفاق الطائف عام 1989 والذي تم الاتفاق خلاله على إنهاء الحرب الأهلية التي عانت منها البلاد منذ 1975، تم تقسيم المناصب الرئيسية في الدولة على أساس طائفي؛ فرئيس الجمهورية ماروني مسيحي ورئيس البرلمان مسلم شيعي ورئيس الحكومة مسلم سُني، وتتم الإشارة إليهم بالرئاسات الثلاث، وكان توقيع الاتفاق تم في المملكة العربية السعودية- الداعم للطائفة السنية- وبحضور إيران الداعم لحزب الله الذي أصبح القوة الشيعية الرئيسية، رغم أن حركة أمل الشيعية برئاسة نبيه بري كانت أيضاً تحظى بوجود قوي.
أما في العراق، فقد تم إقرار نظام لحكم البلاد من خلاله، بعد الغزو الأمريكي والإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، قائم أيضاً على المحاصصة الطائفية، فرئاسة الجمهورية للأكراد ورئاسة الحكومة للشيعة ورئاسة البرلمان للسنة، فيما يوصف باللبننة، رغم أن الدستور العراقي لا يتضمن أي نصوص بشأن توزيع السلطة بين ممثلي القوميات والمذاهب والطوائف والأديان.
ولأن الفساد هو الابن الشرعي لنظام المحاصصة الطائفية، فقد وجد العراقيون أنفسهم يعيشون في ظل بنية تحتية توشك على الانهيار ومستوى بطالة لم يعد ممكناً استمراره، على الرغم من أن بلادهم من أغنى بلدان المنطقة، سواء من حيث النفط أو الموارد الزراعية وغيرهما من مصادر الدخل.
وتزداد الصورة قسوة في لبنان، حيث شهد العامان الماضيان انهيار العملة بصورة غير مسبوقة ووصلت البلاد إلى حافة الإفلاس وأصبح أكثر من 74% من الشعب اللبناني يعانون من الفقر، بحسب التقارير الأممية، وبات الحصول على الغذاء والدواء والوقود تحديات لا يقدر عليها أغلب اللبنانيين.
ماذا حدث في انتخابات العراق؟
أقيمت الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق الأحد 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وجاءت نتائجها بمثابة الانتكاسة الكبيرة للأحزاب السياسية للحشد الشعبي، المدعوم من إيران، إذ تصدرت كتلة "سائرون" التابعة لتيار مقتدى الصدر وحصدت 73 مقعداً (نتائج أولية)، بزيادة مقدارها 19 مقعداً عما حققته الكتلة في انتخابات 2018.
بينما حصل تحالف "الفتح"، وهو الكتلة السياسية التي تمثل الحشد الشعبي الموالي لإيران، على 14 مقعداً فقط، بعدما كان قد حصد 47 مقعداً في الدورة الانتخابية السابقة عام 2018 وضعته في المركز الثاني.
وأعلنت فصائل الحشد الشعبي في العراق رفض نتائج الانتخابات، ولا تزال مصممة على موقفها بإلغاء النتائج، إذ تتهم مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء بأنه تدخل سياسياً للإطاحة بالحشد الشعبي، بالتواطؤ مع الأمريكيين. وتعرض الكاظمي، الذي دخل في معركة تكسير عظام ضد الحشد الشعبي منذ أن تولى منصبه العام الماضي، لمحاولة اغتيال بطائرة مسيرة مفخخة نجا منها بأعجوبة، بحسب وصفه.
ولا تزال الأمور في العراق، بعد أكثر من ثلاثة أشهر من إجراء الانتخابات، تتسم بالضبابية، وها هو العام يوشك على الرحيل دون ظهور ملامح لتشكيل الحكومة الجديدة، أو قبول الحشد الشعبي بنتائج الانتخابات.
أما في لبنان، فالأمور لا تزال على حالها تقريباً من الناحية السياسية منذ استقالة حكومة سعد الحريري في أعقاب اندلاع احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، على الرغم من تولي حكومة نجيب ميقاتي المسؤولية مؤخراً، فأزمة تصريحات جورج قرداحي وزير الإعلام المستقيل بشأن الحرب في اليمن، والتي أدت إلى أزمة غير مسبوقة في علاقات لبنان مع السعودية وباقي دول الخليج، لا تزال تصيب الحكومة بالشلل الفعلي.
وفي كل الأحوال، ورغم الأزمة المعيشية الخانقة التي يواجهها أغلب اللبنانيين، تتعلق الآمال بالانتخابات البرلمانية المقررة مارس/آذار 2022، على أمل أن يقول الناخبون كلمتهم، فهل يواجه حزب الله، المدعوم من إيران أيضاً، وحلفائه في لبنان مصير الحشد الشعبي في العراق خلال تلك الانتخابات؟
تثبيت موعد الانتخابات اللبنانية
بخلاف المرات السابقة، يأتي الاستحقاق الانتخابي في لبنان هذه المرة وسط ظروف استثنائية، تتمثل بأسوأ أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد، وظهور قوى معارضة جديدة على الساحة السياسية.
وقد يعيد هذا الواقع خلط أوراق التحالفات الانتخابية التقليدية وينعكس على نتائجها، في ظل نقمة شعبية كبيرة على الأحزاب المتمثلة في السلطة، إذ تحمّل قوى المعارضة الطبقة السياسية مسؤولية التدهور المستمر.
وبخلاف الانتخابات الماضية، فإن الاحتجاجات التي تسمى بانتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، أفرزت قوى معارضة جديدة تعتزم خوض الانتخابات المقبلة، بينما تحاول أحزاب السلطة الحفاظ على مقاعدها في البرلمان.
ووفق خبراء، فإن قوى المعارضة قد تشكل خرقاً غير مسبوق في نتائج الانتخابات، الأمر الذي يدفع بعض أحزاب السلطة للعودة إلى تحالفاتها التقليدية في سبيل استمرار سيطرتها على مقاعد البرلمان.
وكان البرلمان اللبناني، برئاسة نبيه بري، رئيس حركة أمل الشيعية، قد أقر تعديلات على قانون الانتخابات التشريعية وحدد موعد إقامتها في مارس/آذار المقبل، وقبل أيام رفض المجلس الدستوري في البلاد طعوناً تقدمت بها كتلة "لبنان القوي" برئاسة جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر، لتعديل عدد المقاعد المخصصة لتصويت المغتربين وتأجيل موعد الانتخابات.
أرادت كتلة باسيل، أحد حلفاء حزب الله، تخصيص 6 مقاعد برلمانية فقط للمغتربين من اللبنانيين، لكن تم رفض التعديل، ليظل من حق المغتربين التصويت على جميع المقاعد البرلمانية البالغ عددها 128 مقعداً، كل حسب دائرته.
كما أرادت الكتلة أيضاً تأخير موعد الانتخابات البرلمانية إلى موعد آخر، لكن المجلس الدستوري رفض الطعن وثبت الموعد خلال مارس/آذار 2022، على أن يعلن وزير الداخلية اليوم المحدد للتصويت، بحسب تقرير لقناة فرانس24.
انتخابات مختلفة حتى في نتائجها المحتملة
مع أن المشهد ما زال ضبابياً لناحية شكل التحالفات النهائية، فإنه من المؤكد أن نتائج الانتخابات المقبلة ستحمل تغييراً عن انتخابات 2018، وفق الخبير في مجال الإحصاءات ربيع الهبر.
وفي حديث إلى "الأناضول"، يرجّح الهبر، وهو مدير مؤسسة "إحصاءات لبنان" (خاص)، أن تحصد المعارضة المتمثلة بقوى "17 تشرين" ومعها حزبا "الكتائب" و"الشيوعي" ما بين 5 و20 مقعداً نيابياً من أصل 128.
صعود قُوى المعارضة، إلى جانب شخصيات سياسية مستقلة لا تنتمي إلى أحزاب تقليدية، سيكون على حساب بعض الأحزاب الممثلة في السلطة حالياً، لا سيما حزب "التيار الوطني الحر" الذي يترأسه النائب جبران باسيل، بحسب الهبر.
ولا يضم البرلمان الحالي أي ممثل عن قوى المعارضة باستثناء النائب أسامة سعد من تنظيم "الشعبي الناصري"، بعد استقالة 8 نواب بينهم 3 من حزب "الكتائب" وآخرين مستقلين، في أغسطس/آب 2020 على خلفية انفجار مرفأ بيروت.
وزاد انفجار المرفأ من حالة الغضب والاحتجاجات السائدة في البلاد، عقب مصرع 219 شخصاً وإصابة نحو 7 آلاف آخرين في الانفجار الذي خلف أضرارا بمساحات واسعة من العاصمة بيروت.
لكن الهبر يلفت إلى أن الانتخابات المقبلة قد تعيد إحياء الانقسام السياسي التقليدي في البلاد الذي كان سائداً منذ عام 2005 بين قوى "8 آذار" (القريبة من دمشق وطهران) وقوى "14 آذار" (القريبة من الرياض وواشنطن).
وأبرز تلك التحالفات قد تكون بين أحزاب "تيار المستقبل" و"التقدمي الاشتراكي" و"القوات اللبنانية"، الذين كانوا يشكلون سابقاً فريق "14 آذار"، باستثناء حزب "الكتائب" الذي انضم إلى قوى المعارضة.
وبعكس الانتخابات الماضية عام 2018، يرجح الهبر أن يتحالف "تيار المستقبل" مع "الجماعة الإسلامية" في الانتخابات النيابية المقبلة في بعض المناطق.
ما فرص حفاظ تحالف حزب الله على مقاعده؟
وعلى الجانب الآخر، أي "8 آذار"، سيكون هناك تحالف بين "حزب الله" و"حركة أمل" و"التيار الوطني الحر" و"حزب السوري القومي الاجتماعي"، وفق الهبر.
وعن تأثير أصوات المغتربين في نتائج الانتخابات، يقلل الهبر من أهميتها في إحداث فارق كبير، مرجحاً أن يقترع بين 60 و70 ألفاً من أصل نحو 245 ألفاً سجلوا أسماءهم مسبقاً للمشاركة في انتخابات البرلمان.
ويوضح أن انخفاض نسبة الاقتراع من جانب المغتربين يرجع إلى أن التصويت لن يكون افتراضياً عبر موقع إلكتروني، كما كان الحال في مرحلة التسجيل، إنما ينبغي على الراغبين في التصويت التوجه إلى السفارات والقنصليات.
من جانبه، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيروت العربية (خاصة) علي مراد أن طبيعة التحالفات في الانتخابات المقبلة ستكون وفقاً للمصلحة الانتخابية وليس تبعاً للمعايير السياسية، كالتحالف بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله".
أما بالنسبة إلى تيار "المردة" (يتزعمه سليمان فرنجية) الذي هو من ضمن تحالف واسع لقوى "8 آذار"، فلن يكون متحالفاً مع "التيار الوطني الحر"، وفق مراد، في حديثه إلى "الأناضول".
من ناحية أخرى، فإن العلاقة بين أحزاب "التقدمي الاشتراكي" و"تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية" ما زالت غير محسومة، ومن غير الواضح ما إذا كانت تلك الأحزاب ستتحالف مع بعضها أم لا، بحسب مراد.
أما قوى "17 تشرين" (الناتجة عن احتجاجات لبنان 2019)، فإنها تواجه تحديات عدة، أبرزها تقديم مشروع واضح وبديل، إضافة إلى مدى قدرتها على توحيد لوائح مرشحيها في وجه لوائح أحزاب السلطة، كما أن التوقعات بانخفاض نسبة التصويت لا تصب لمصالحها، وفق مراد.
وفي عام 2018، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعيّة 49.70%، ويتوقع خبراء أن تنخفض النسبة في انتخابات 2022 نظراً إلى الصعوبات الاقتصادية والمعيشية، لا سيما ارتفاع كلفة النقل.
ويلفت مراد إلى أن التحدي الأساسي هو إقناع جمهور "17 تشرين"، غير المنتمي إلى الأحزاب، بالمشاركة في التصويت نظراً إلى النقمة التي يختزنها معظم المواطنين على الواقع الاقتصادي والمعيشي، ما ينعكس تصويتاً لمصلحة المعارضة.
وعن احتمال تحالف قوى "17 تشرين" مع بعض الأحزاب التقليدية (حزب "الكتائب" والحزب الشيوعي)، يشير مراد إلى أن ذلك قد يكون له انعكاس سلبي على نسبة التصويت لمصلحتها، وهذا تحدٍّ آخر تواجهه المعارضة.
ويرى مراد أن أحزاب السلطة تريد من هذا الاستحقاق الانتخابي استعادة شرعيتها الداخلية والخارجية. في المقابل، فإن قوى المعارضة تسعى إلى محاسبة تلك الأحزاب على أدائها في الحكم ووصول البلاد إلى حال الانهيار.
ومنذ أكثر من سنتين، يعاني لبنان أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، صنفها البنك الدولي واحدة من بين أسوأ 3 أزمات اقتصادية في العالم، أدت إلى انهيار مالي، وارتفاع في معدلات الفقر والبطالة والجرائم، فهل تُنهي الانتخابات تلك الأزمة أم تزيدها سوءاً؟