يتزايد اعتماد الحكومة الصينية على ثقلها الاقتصادي لإعادة تشكيل النظام العالمي وتقوية نفوذها على شركاته. وفي غضون ذلك، فإن الحكومات الديمقراطية تركت الشركات وحيدة في معركة الدفاع عن نفسها، كما يقول موقع Axios الأمريكي. يأتي ذلك بعد أن تلقت الشركات العالمية والمنظمات غير الربحية درساً شاقاً عليها هذا العام مفاده أن اتخاذ موقف مناصر للقيم الديمقراطية قد يجعلها تدفع الثمن باهظاً بخسائر ضخمة في السوق الصينية.
لماذا تستمر الشركات الأمريكية العملاقة في الرضوخ للصين؟
كثيراً ما ينتقد الخبراء الشركات الأمريكية التي تقدم تنازلات لبكين ويصفون ذلك بأنه "رضوخ" منها أو "بيع لمبادئها"، لكن الأسباب الكامنة وراء موجة التنازلات الأخيرة أكبر من أن تكون مجرد قرارات فردية للشركات التي اتخذتها.
تعمد الحكومة الصينية في نمط متكرر إلى تنظيم مقاطعات وطنية تقودها الدولة وإغلاق المواقع الإلكترونية وغيرها من الإجراءات الانتقامية للضغط على الشركات الدولية والمنظمات وإجبارها على تجنب أي تصريحات أو إجراءات تتجاوز الخطوط الحمراء للحزب الشيوعي.
وتشمل هذه الخطوط الحمراء عادةً دعمَ الديمقراطية في هونغ كونغ، أو الاعتراف بانتهاكات حقوق الإنسان في التيبت وإقليم شينجيانغ، أو تأييد الحكم الذاتي لتايوان، أو حتى الحديث عن أن المنشأ الأصلي لجائحة كورونا كان في الصين.
وبحسب تقرير لمجلة Time، وقعت شركات عديدة هذا العام تحت وطأة الضغوط الصادرة عن بكين. فعلى سبيل المثال، تراجعت شركتا الأزياء Zara وHugo Boss عن تصريحات سابقة بمقاطعة القطن المنتج في إقليم شينجيانغ على خلفية الاتهامات للصين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في الإقليم.
واضطر موقع "لينكد إن" LinkedIn في نسخته الصينية إلى حجب الحسابات الخاصة بصحفيين أجانب عديدين من على منصته الإلكترونية.
ورفض فندق ماريوت في براغ استضافة مؤتمر كان من المفترض أن يُعقد في نوفمبر/تشرين الثاني لناشطين وقادة من الإيغور في الشتات الصيني، بدعوى "الحياد السياسي".
"ممنوع انتقاد السياسات الصينية"
وتهرَّب أفراد بارزون لهم مصالح في الصين مراراً وتكراراً من الأسئلة حول معسكرات الاعتقال الجماعي في شينجيانغ. عندما سُئل راي داليو، مؤسس شركة Bridgewater Associates، في مقابلة مع شبكة CNBC، عن تأثير قضايا حقوق الإنسان في الصين على قراره بالاستثمار هناك، أجاب بأنه "ليس خبيراً في هذه الأمور"، ووصف الصين بأنها أقرب إلى "والد صارم" في نهجها لإدارة سكانها.
أما ريتشارد باوند، المسؤول في اللجنة الأولمبية الدولية، فعندما سُئل في مقابلة مع المحطة الإذاعية الألمانية Deutschlandfunk عما إذا كان على علم بانتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانغ، قال: "أنا بصراحة لا أعرف. أنا شخصياً لا أعرف".
شركات أمريكية تسلم تقنياتها وبياناتها للحكومة الصينية
مع ذلك، فإن نتائج الاستراتيجية الصينية أخذت تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد الرقابة، فقد شددت الحكومة الصينية قيودها القانونية، وأجبرت الشركات على تسليم تقنياتها وبياناتها من أجل مواصلة العمل هناك، وهو ما يهدد أمن المستخدمين وسلامة الأسواق.
على أثر ذلك، أعلنت بعض الشركات مثل "لينكد إن" و"ياهو" هذا العام أنها ستغادر السوق الصينية بسبب البيئة التنظيمية الصعبة. ومع ذلك، فقد استسلمت شركات أخرى، وسمحت بالتنازل عن قواعد خاصة بعملهم على نحو لم يكن يُتصوَّر أن يُقدموا عليه في أي سوق أخرى.
في نوفمبر/تشرين الثاني، قال تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة آبل، إن الشركة تقع عليها "مسؤولية" العمل في أي مكان يُتاح لها، وحتى في الصين، وذلك على الرغم من انتهاكات حقوق الإنسان الجارية هناك. وتفرض شركة آبل رقابة على تطبيقات متجرها في الصين. كما ذكرت صحيفة The New York Times الأمريكية في يونيو/حزيران أن شركة آبل تخزن مفاتيح التشفير الخاصة بها في الشركة الصينية المملوكة للدولة، والتي تدير مركز بيانات آبل في الصين.
بالإضافة إلى ذلك، أفادت وكالة Reuters هذا الشهر بأن شركة أمازون شاركت قواعد البيانات السحابية الخاصة بها مع الشركات الصينية المحلية للامتثال للوائح الصينية والبقاء في سوقها.
واشنطن تترك الشركات أمام مصيرها في مواجهة الضغوط الصينية
على الجانب الآخر، فإن الولايات المتحدة، على الرغم من سياساتها الصارمة بشأن الصين في السنوات العديدة الماضية، لم تضع حكومتها بعد آليات جديدة لدعم الشركات الأمريكية التي تواجه ضغوطاً من الحكومة الصينية، والتي قد تشمل مساعدات طارئة لدعمها عند مواجهة خسائر في إيراداتها في الصين.
في أكتوبر/تشرين الأول، قدمت مجموعة من النواب الأمريكيين المنتمين إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي مشروعَ قانون من شأنه، في حال إقراره، أن ينشئ فريق عمل مشتركاً بين الوكالات الأمريكية لتقديم توصيات لمواجهة الضغوط الاقتصادية الصينية على الشركات.
ويدرس الاتحاد الأوروبي مجموعة جديدة من الآليات التجارية لمقاومة سياسات الإكراه الصينية والمصممة لتقليص قوة الانتقام الاقتصادي لبكين على الشركات.
وخلاصة الأمر أنه في أي مواجهة بين حكومة قوية وشركة واحدة، عادة ما تنتصر الحكومة، ما لم تتدخل حكومة خارجية لدعم الشركة. ومن ثم، فإن الرأسمالية العالمية بتقاعسها عن دعم الشركات في مواجهة الإكراه الصيني تشجِّع الصين على مزيد من الرقابة والقمع.
أكثر من 200 شركة صناعية أمريكية تعمل في الصين
في إطار الحرب الاقتصادية بين الصين وأمريكا التي بلغت ذروتها في عام 2020، كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد دعا الشركات الأمريكية لنقل أعمالها من السوق الصينية إلى السوق الأمريكية، لكن ما حدث أن أغلبية الشركات تلك رفضت الاستجابة لدعوة ترامب. وبحسب مسح أجرته غرفة التجارة الأمريكية في شنغهاي في سبتمبر/أيلول 2020، فإن حوالي 4% فقط من بين أكثر من 200 شركة صناعية أمريكية تعمل في الصين وشملها المسح نقلت مراكز إنتاجها من الصين إلى الولايات المتحدة.
كما أشار المسح إلى أن 75٪ من الشركات الأمريكية لا تعتزم نقل مراكز إنتاجها من الصين، في حين قال 14٪ منها إنها ستنقل جزءاً من نشاطها إلى دول أخرى، وقال 7٪ إنها تعتزم نقل مصانعها سواء إلى الولايات المتحدة أو إلى دول أخرى خارج الصين.
وبشكل عام، تعد دول جنوب شرق آسيا هي الوجهة المفضلة للشركات الأمريكية التي تقرر الخروج من السوق الصينية، وليس الولايات المتحدة، بسبب العمالة الرخيصة وتكاليف المشروعات والضرائب. وكانت إدارة ترامب قد قررت العام الماضي أنها ستفرض رسوماً على الشركات التي تهجر أمريكا وتوفر الوظائف في الصين والدول الأخرى.
مع ذلك، وبرغم كل الضغوطات والمعوقات، من غير المستبعد انسحاب الشركات الأمريكية العملاقة من الصين، التي تعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر دولة من حيث عدد السكان.