ازدادت الأزمة السودانية احتقاناً في ظل تظاهرات ضخمة وصلت إلى قرب القصر الرئاسي، رافضة لاتفاق رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان والحديث عن احتمال استقالة حمدوك، وتزايد احتمالات حدوث مواجهة حادة بين المحتجين وقوات الجيش.
فلقد شهد السودان الأحد 19 ديسمبر/كانون الأول 2021، احتجاجات واسعة؛ حيث تمكن المتظاهرون، للمرة الأولى، من اختراق الحواجز الأمنية الكبيرة حول القصر الرئاسي، وتلك المؤدية إليه، رغم إطلاق الشرطة والقوات الأمنية الرصاص وقنابل الغاز بكثافة على أجساد المحتجين مباشرة، ما أدى إلى إصابات عديدة.
استقالة حمدوك قد تكون وشيكة
وفي الوقت ذاته، نقلت وكالة "رويترز" للأنباء، عن مصدرين مقربين من رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، قولهما، إنه أبلغ عدداً من الشخصيات السياسية السودانية، اعتزامه تقديم استقالته.
وذكر المصدران أن السياسيين والشخصيات العامة الذين أبلغهم بنيته حاولوا دعوته لعدوله عن قراره، لكنه أصر على مغادرة منصبه.
بينما ذكرت مصادر مطلعة لموقع "RT" الروسي فجر الأربعاء أن لقاء جمع رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ورئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان، لبحث استقالة حمدوك.
وأكدت المصادر أن قوى سياسية تعمل على إقناع حمدوك بالعدول عن قرار استقالته.
وأشارت المصادر إلى أنه بعد الحديث عن احتمال استقالة حمدوك ظهرت دعوات لاجتماع يضم القوى المؤيدة لـ"اتفاق حمدوك – البرهان" للتفاهم على أرضية مشتركة بين الطرفين.
كان حمدوك قد صرح في بيان مطلع الأسبوع بأن السودان يقترب من حافة "الهاوية"، وأرجع ذلك إلى العناد السياسي وغياب التوافق على اتفاق سياسي جديد.
وكان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، قد أعلن في 25 من أكتوبر/تشرين الأوّل، إقالة حكومة حمدوك وحلّ مجلس السيادة، وهما سلطتَا الحكم في المرحلة الانتقاليّة التي كان يُفترض أن تفضي إلى تسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة ديموقراطياً في عام 2023.
وبالرغم من إعادة حمدوك إلى منصبه من دون حكومته في 21 من نوفمبر/تشرين الثاني بموجب اتّفاق سياسي معه، إلا أن هذا الاتفاق لم ينَل رضا العديد من السودانيين الذين باتوا يطالبون بحكم مدني خالص.
وقال حمدوك، رداً على الانتقادات ضد اتفاقه الجديد مع البرهان، إنه قرر العودة لرئاسة الحكومة التي كان قد عُزل منها، للحفاظ على المكاسب الاقتصادية التي تحققت خلال العامين الماضيين، كان من بين الأسباب التي دفعته للعودة إلى منصبه بموجب اتفاق مع الجيش بعد نحو شهر من عزله عقب سيطرة الجيش على مقاليد البلاد.
البلاد على شفا عنف أكبر واتهامات باغتصاب للمتظاهرات
ولقي 47 شخصاً حتفهم مؤخراً خلال الاحتجاجات على الحكم العسكري.
حاول آلاف المحتجين السودانيين مساء الأحد الاعتصام في محيط القصر الرئاسي في وسط الخرطوم للمطالبة بحكم مدني ديموقراطي؛ تزامناً مع الذكرى الثالثة لـ"ثورة ديسمبر" التي أطاحت بالرئيس السابق عمر البشير، لكن قوات الأمن تصدت لهم بالغاز المسيل للدموع.
وتفيد تقارير واردة من السودان بوقوع حالات اغتصاب خلال المظاهرات التي شهدتها البلاد الأحد الماضي، دون أن يصدر أي تعليق حكومي بعد.
وقالت الأمم المتحدة، أمس الثلاثاء، إنها تلقت تقارير عن اغتصاب فردي أو جماعي تعرضت له 13 امرأة وفتاة.
وقالت المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ليز ثروسيل، في إفادة صحفية إن المكتب تلقى 13 ادعاء اغتصاب واغتصاب جماعي، بالإضافة إلى تقارير عن تحرش قوات الأمن جنسياً بنساء خلال محاولتهن الفرار.
ولم تذكر تفاصيل الاغتصاب المدعى أو الاغتصاب الجماعي.
وأضافت: "نحث على إجراء تحقيق سريع ومستقل وشامل في ادعاءات الاغتصاب والتحرش الجنسي، وكذلك ادعاءات وفاة وإصابة المتظاهرين نتيجة الاستخدام غير الضروري أو غير المتناسب للقوة، ولا سيما استخدام الذخيرة الحية".
كما نقلت وكالة فرانس برس عن مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة في وزارة التنمية الاجتماعيّة في السودان، سليمى الخليفة إسحق، قولها: "وثّقنا حالتَي اغتصاب لمتظاهرتَين شاركتا في مظاهرة 19 ديسمبر/كانون الأول".
واندلعت هذه المظاهرات الضخمة استجابة لدعوة لجان المقاومة إلى تنظيم موكب مليوني يستهدف القصر الرئاسي- يعرف محلياً بالقصر الجمهوري- يطالب بإسقاط الانقلاب العسكري، وتكوين حكومة مدنية، بالتزامن مع الذكرى الثالثة لثورة 19 ديسمبر/كانون الأول 2018 التي صادفت يوم أمس. وللمرة الأولى وضعت القصر الرئاسي هدفاً لتجمعها.
واستمرت حالات الكر والفر بين المحتجين والقوات الأمنية في محيط القصر حتى ساعة متأخرة من مساء أمس الثلاثاء، بينما دعت "لجان المقاومة" التي تقود الحراك الشعبي، المتظاهرين، للاعتصام أمام القصر حتى تسليم السلطة للمدنيين.
وأصيب عدد من المحتجين بالرصاص شاركوا في أكبر تظاهرة تشهدها الثورة السودانية، واخترق مئات الآلاف من الثوار السلميين السياجات الأمنية المُحكمة التي وضعتها السلطات العسكرية أمام الطرق المؤدية للقصر الرئاسي، وفتح المحتجون عنوة الجسور المؤدية لوسط الخرطوم، والتي أغلقتها السلطات منذ وقت مبكر من صباح أمس.
ولم يمنع الاستخدام الكثيف للغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والرصاص، وصول الحشود القادمة من أنحاء البلاد إلى القصر الرئاسي وسط الخرطوم، بينما استخدم البعض القوارب لعبور النهر، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الشرق الأوسط السعودية.
وللحيلولة دون وصول المحتجين للقصر الرئاسي، أغلقت سلطات الأمن الجسور الرئيسة التي تربط مدن العاصمة الثلاث عبر نهر النيل وفرعيه الأبيض والأزرق؛ لكن كثافة المحتجين وكبر أعدادهم، أجبرا قوات الشرطة والجيش التي كانت تحرس تلك الجسور على التراجع، ما أتاح للثوار القادمين من الخرطوم بحري وأم درمان وشرق النيل، العبور عنوة إلى القصر الرئاسي.
ما مصير البرهان وحميدتي، وحقيقة موقف الجيش؟
وشارك في التظاهرات محتجون قدموا راجلين من عدد من ولايات السودان المختلفة، ودخلوا مواجهات شرسة مع قوات الشرطة والجيش التي كانت تسد الطريق إلى القصر، بأفراد منها وبالأسلاك الشائكة والمتاريس الإسمنتية، بيد أن المتظاهرين استطاعوا إجبارهم على التراجع وإزالة المتاريس، ووصلوا إلى الساحة الرئيسية للقصر الرئاسي، لأول مرة منذ بدء الحراك المناوئ للانقلاب.
وقال وزير الثقافة والإعلام السابق، فيصل محمد صالح، لـ"الشرق الأوسط"، إن المواكب وضعت نهاية لمرحلة من مراحل التاريخ السوداني، وفتح صفحة لمرحلة جديدة، معتبراً أن الانقلاب سقط، وانتصرت إرادة الشعب السوداني، وتابع: "الشارع يحتاج قيادة سياسية تخرج من صفوفه، وترتب صورة المشهد الجديد".
وأوضح صالح أن مرحلة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان الشهير بـ"حميدتي"، وبقية ممثلي المكون العسكري "قد انتهت، وأن المدنيين بحاجة لقيادة جديدة للقوات المسلحة، يتحاورون معها حول الدور المطلوب منها خلال المرحلة القادمة".
واضطرت القوات العسكرية التي كانت تسد الجسور للتنحي جانباً أمام المتظاهرين، في وقت لوحظ فيه تلاحم بين بعض قوات الجيش والمحتجين الذين رددوا هتاف: "شعب واحد… جيش واحد"، حسب تقرير الشرق الأوسط.
وطالب حزب "الأمة القومي"، قادة الجيش، بتسليم السلطة المدنية للشعب وإعادة المسار الانتقالي الديمقراطي في البلاد.
سيناريوهات الأزمة السودانية
ومن الواضح أن التظاهرات في السودان أصبحت عفوية، وأنها لم تعُد لها قيادة مما يجعل من الصعب إقناع المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم، بعد أن فقدوا تماماً في قيادة الجيش، وأصبح من غير المقبول بالنسبة لهم الثقة بما يسمى بالشراكة بين المدنيين والعسكريين بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الذي أطاح بحمدوك، كما أن الأخير فقد قدراً كبيراً من حيثيته الشعبية.
وبات من الواضح أنه لا خيار أمام البرهان وحميدتي بعد تزايد احتمال استقالة حمدوك وإصرار المتظاهرين على إنها الحكم العسكري، إلا اللجوء للعنف للتصدي للتظاهرات أو الاستقالة، ولكن الخيار الأخير قد يكون مخفياً بالنسبة لهم بالنظر إلى احتمال تعرضهم للمحاكمة حال تخليهم عن الحكم مثلما حدث للبشير، خاصة أن قائمة الجرائم التي يمكن أن يتهموا بها تتزايد، ولم تعد تقتصر على مذبحة القيادة العامة عام 2019.
في المقابل، فإن خيار العنف لسحق المظاهرات قد يأتي بنتيجة عكسية، فبالإضافة إلى أنه قد يؤدي إلى استنكار دولي، قد يضاعفه استقالة حمدوك المحتملة، فإنه لا يمكن ضمان استمرار ولاء الضباط خاصة صغارهم في حال استمرار سفك الدماء، وهو ما بدأت مؤشراته تظهر مما حدث خلال مظاهرات القصر الجمهوري، حيث كان واضحاَ أن هناك امتعاضاً من بعض العسكريين من توريطهم في مواجهة مع المدنيين.
وبالتالي قد يرفضون مواصلة طاعة الأوامر بالتصدى للمظاهرات، أو قد يأتي ضابط ليعزل البرهان مثلما فعله قادة الجيش السوداني مع البشير.
وتبدو المشكلة أكبر مع حميدتي الذي يقود قوات الدعم السريع التي تدين له بالولاء الشخصي، وهي قوات تعود جذورها لميليشيات الجنجاويد، التي ارتكبت فظائع من قبل في إقليم دارفور.
وتتسم علاقة حميدتي بهذه القوات بأنها ليست علاقة عسكرية احترافية، بل هو ولاء وشخصي وقبلي وقبل كل شيء مادي مرتبط بقدرات حميدتي المالية المتأتية من دوره في استخراج وتهريب الذهب السوداني.
وعبر صمته الواضح في الأزمة الحالية، من الواضح أن حميدتي قد يسعى للنأي بنفسه عن البرهان مثلما فعل البشير الذي كان يثق فيه ثقة عمياء، لدرجة أنه كان يلقبه بـ"حمايتي"، ولكنه انقلب عليه بعد الثورة السودانية 2019، ثم انقلب على وزير الدفاع السوداني الذي عزل البشير في ذلك الوقت عبد الرحمن بن عوف، ليتحالف مع البرهان.
فهل يكرر حميدتي نفس المسار، ويقفز من سفينة البرهان قبل أن تغرق، ولكن اللافت أنه هذه المرة يبدو حميدتي محط تركيز من قبل المحتجين رغم صمته، ولا ينسون دوره في تفجير أزمات شرق البلاد، التي أدت لإغلاق الموانئ، من أجل إضعاف الحكومة المدنية.
ويظل أفضل حل لأزمة السودان، إجراء انتخابات مبكرة بإشراف دولي، وترتيبات واضحة لخروج العسكريين من السلطة، ولكن المفارقة أن الطرف الذي رفض التعجيل بالانتخابات هو القوى المدنية أو بالأحرى اليسارية التي أرادت تأخير الانتخابات بعد سقوط البشير لأكثر من ثلاثة أعوام؛ لأنها تخشى من فوز الإسلاميين بها، وكانت تريد استمرار الفترة الانتقالية لضمان التخلص منهم عبر التحالف مع العسكريين الذي بدا في النهاية أنهم يحاولون استغلالهم للاستمرار في الحكم.
وستكون محاولة القوى المدنية تأسيس حكم انتقالي، مدني غير منتخب بديلاً للعسكريين ليست فقط أمراً صعباً تحقيقه، ولكن إن تحقق، فسيفتح الباب على أزمات أخرى؛ لأن السودان ليس فقط القوى المدنية والمهنية التي تقودها الأحزاب السياسية والتيارات اليسارية، فالسودان بلد كبير به إسلاميون وقوى مناطقية وقبلية وعرقية ومؤسسة عسكرية كبيرة، وكل هؤلاء لديهم أطماعهم وأهدافهم، ولن يقبلوا بسيطرة نخبة معزولة على الحكم عن طريق الشارع، خاصة أن لكل من هذه القوى شارعها، ولذلك لا بديل عن حكم جديد تأتي شرعيته من الصندوق الانتخابي، وليس الانتظار إلى أن يصبح الصندوق معداً لأن يأتي بقوى سياسية بعينها للسلطة، وهو انتظار قد يدوم طويلاً.