يبدو أن صراعاً خفياً بين روسيا وأمريكا حول مدى أحقية سيف الإسلام القذافي في الترشح لرئاسيات ليبيا، كان له دور في انسداد الأفق أمام الانتخابات، التي لا يعرف أحد حتى الآن ماذا بعد تأجيلها؟
إذ كان من المقرر، طبقاً للمسار السياسي الناتج عن مخرجات ملتقى الحوار الليبي برعاية الأمم المتحدة، أن تنعقد الانتخابات الرئاسية يوم 24 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وتليها مباشرةً الانتخابات البرلمانية، لكن القوانين التي أصدرها مجلس النواب لتنظيم العملية الانتخابية أثارت جدلاً قانونياً وسياسياً كبيراً، خصوصاً ما يتعلق بشروط الترشح للرئاسة.
والآن، بعد أن أصبح التأجيل أمراً واقعاً، لا يزال القرار الرسمي لم يعلن بعد، مما يزيد من ضبابية الموقف، فلا أحد يعرف هل سيكون التأجيل إلى أجل غير مسمى أم لفترة قصيرة محددة؟ والسبب، بحسب كثير من الليبيين، هو التدخلات الخارجية التي أفسدت كل شيء في البلاد.
اشتباكات سبها بين ميليشيات حفتر وأنصار القذافي
وعكست الاشتباكات الأخيرة بين ميليشيات خليفة حفتر وقوة عسكرية محلية في مدينة سبها، مركز إقليم فزان بالجنوب الليبي، اختلال توازن القوى في الجنوب مع ظهور سيف الإسلام القذافي، وترشحه للانتخابات الرئاسية، بدعم روسي ورفض أمريكي، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
وقد عبَّر معلقون وكُتاب ومحللون في صحف عربية عن مخاوفهم حيال إمكانية تأجيل الانتخابات الليبية المزمع عقدها في 24 ديسمبر/كانون الأول، وسط تجدد الاشتباكات في جنوب البلاد، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وخضعت سبها لسيطرة ميليشيات حفتر بالكامل عام 2019، بالتحالف مع قبائل عربية، وعلى رأسها قبيلة أولاد سليمان، وأيضاً مع ضباط موالين لنظام القذافي السابق، وعلى رأسهم محمد بن نايل، قائد اللواء 12، من قبيلة المقارحة المتمركزة في براك الشاطئ (جنوب).
لكن دخول القذافي سبها، في وضح النهار، وبحماية أمنية، وتقديمه ترشحه للانتخابات الرئاسية، ثم خروجه مرافقاً برتل من السيارات من المدينة دون أن يعترضه أحد، كشف للعيان، أن ميليشيات حفتر لا تسيطر فعلياً على المدينة.
هذه الحقيقة دفعت حفتر إلى إرسال تعزيزات عسكرية من قاعدة الجفرة الجوية (وسط) إلى سبها؛ لإحكام السيطرة عليها، ومحاولة القبض على سيف الإسلام أو قتله، واعتقال ضباط الأمن والعسكريين الداعمين له في المدينة.
لكن أول فشل لميليشيات حفتر، وبالأخص كتيبة طارق بن زياد، هو عدم تمكُّنها من اعتقال مدير أمن سبها محمد بشر، الذي ظهر في صورة مبتسماً خلف القذافي، عند تقديم أوراق ترشحه بمكتب مفوضية الانتخابات في المدينة، ما أوحى بأنه من داعميه. ورغم إشاعة مقتل القذافي الابن على يد ميليشيات حفتر، فإنه سرعان ما تم تكذيبها.
الإخفاق الثاني لميليشيات حفتر، هو اضطرارها إلى فك الحصار عن محكمة سبها، تحت ضغط احتجاجات لأنصار القذافي بالمدينة، وانتقادات محلية ودولية، وهو ما فتح المجال لعودة سيف الإسلام للسباق الرئاسي بعدما استبعدته مفوضية الانتخابات.
الإخفاق الثالث لميليشيات حفتر في سبها، هو دخولها في مواجهات مسلحة مع كتيبة 116، بقيادة مسعود جدي (من قبائل أولاد سليمان)، والتي تسيطر رفقة كتائب أخرى على أجزاء واسعة من المدينة. والمفارقة أن الكتيبة 116 كانت تابعة لميليشيات حفتر، ولكنها انشقت عنها وأعلنت ولاءها للمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة في طرابلس.
وتحدي الكتيبة 116 لميليشيات حفتر، ممثلة في قوة عمليات الجنوب بقيادة مبروك السحبان، وميليشيا طارق بن زياد، ليس نابعاً من دعم المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة لها، بقدر ما هو راجع لدعم حاضنتها الشعبية ممثلة في قبيلة أولاد سليمان، وأيضاً للقبائل الموالية لنظام القذافي وعلى رأسها القذاذفة.
فقبائل سبها وعلى رأسها أولاد سليمان والقذاذفة والتبو والطوارق، بدأوا يضيقون ذرعاً بميليشيات حفتر، خاصة مع تدهور أوضاعهم المعيشية منذ سيطرتها على فزان في 2019. واندلعت المواجهات بين الكتيبة 116 وميليشيات حفتر، في 13 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وخلفت 4 قتلى على الأقل من الطرفين، بحسب المنظمة الحقوقية "رصد الجرائم الليبية".
وجاءت المواجهات المسلحة، على خلفية اتهام مديرية أمن سبها ميليشيات حفتر بالاستيلاء على 11 سيارة ذات دفع رباعي بقوة السلاح، عندما كانت في طريقها إلى المنطقة الجنوبية، بعدما أرسلتها الحكومة إلى المديرية لتأمين الانتخابات.
بينما زعمت ميليشيات حفتر أن الكتيبة 116 التابعة للحكومة، وبدعم من مديرية أمن سبها، حاولت اقتحام مقر الاستخبارات العسكرية، والمواقع والتمركزات الأخرى التي تسيطر عليها كتيبة "طارق بن زياد".
وبعد إرسال ميليشيات حفتر تعزيزات إضافية إلى سبها، وعدم قدرة الكتيبة 116 على مواجهتها منفردة، تم التوصل إلى تسوية تتضمن تغيير قائد الكتيبة 116 مسعود جدي، وتكليف علي الديب، الموالي لحفتر بدلاً منه. بينما هدد مبروك السحبان، في فيديو متداول، سكان الجنوب باستهداف أي جسم عسكري لا يتبع لميليشيات حفتر بالمنطقة.
وهذا الفيديو ينفي ما أشيع مؤخراً حول انشقاق السحبان عن حفتر وانضمامه إلى القذافي الابن، رغم أنه من قبائل المقارحة في براك الشاطئ، المتعاطفة مع النظام السابق.
الصراع الروسي-الأمريكي
لم تخفِ الولايات المتحدة الأمريكية اعتراضها على ترشُّح القذافي منذ أول يوم قدَّم فيه أوراق ترشُّحه للانتخابات الرئاسية، وهو ما يخفي توجساً من إمكانية فوزه بالرئاسة بعدما تمكنت واشنطن وحلفاؤها من الإطاحة بحكم والده قبل عشر سنين.
إذ عقب تقديم القذافي الابن أوراق ترشحه، صرح نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط جوي هود: "أعتقد أن العالم كله لديه مشكلة مع ذلك، فهو يعد أحد مجرمي الحرب، ويخضع لعقوبات الأمم المتحدة، ولعقوبات أمريكية".
بينما دافعت روسيا عن حق سيف الإسلام في الترشح للرئاسة، وانتقدت إسقاط مفوضية الانتخابات اسمه من القائمة الأولية للمترشحين، قبل أن يعيده القضاء.
ومؤخراً، انتقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في تصريح تلفزيوني، اعتراض الولايات المتحدة على ترشح سيف الإسلام لرئاسة ليبيا، وحث "الأمريكيين والأوروبيين على أن يدعوا الليبيين يقررون بأنفسهم".
وهذا الخلاف الأمريكي الروسي على ترشُّح سيف الإسلام القذافي للرئاسيات، سبب آخر لتأجيل الانتخابات. إذ صرح خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) لقناة "ليبيا الأحرار"، بأن "واشنطن ترفض مشاركة القذافي في السباق الرئاسي، وموسكو تُصر على دخوله". واعتبر أن "التدخل الخارجي في الانتخابات الليبية وصل إلى حد غير مقبول".
إذ إن تأجيل الانتخابات عن موعد 24 ديسمبر/كانون الأول، قد يؤخر انفجار القتال في الجنوب بين ميليشيات حفتر وأنصار القذافي المدعومين من روسيا، لكنه لا يقدم حلولاً للمستقبل.
الانتخابات إلى المجهول
استيلاء ميليشيات حفتر على سيارات الشرطة التي أرسلتها حكومة الوحدة إلى أمن سبها، يؤكد أن وزارة الداخلية غير قادرة فعلياً على تأمين الانتخابات ومراكز الاقتراع، ولا ضمان نزاهتها في المناطق الخاضعة لحفتر.
وهو عامل آخر يضاف إلى الصعوبات التي تواجهها مفوضية الانتخابات في إعلان القائمة النهائية للمرشحين، وتنظيم الانتخابات في 24 ديسمبر/كانون الأول، والذي أصبح في حكم المستحيل.
فالصراع بين القذافي الابن وحفتر في تصاعد، أمام قلق الأخير من تقلُّص حظوظه في الفوز بالانتخابات إن شارك سيف الإسلام فيها، بل قد يؤدي ذلك إلى شق صفوف ميليشياته، التي تضم العديد من الضباط وكثيراً من جنود النظام السابق.
إذ ليس من المستبعد أن يسعى سيف الإسلام القذافي إلى الضغط قبلياً وعسكرياً لإخراج ميليشيات حفتر في الجنوب، خاصةً أنه مازال يحظى بدعم قبائل القذاذفة والمقارحة وشطر من الطوارق والتبو وأولاد سليمان، وهي القبائل الرئيسية في فزان.
لكن ميزان القوة العسكرية ما زال في صالح حفتر، إلا إذا تدخَّل مرتزقة شركة فاغنر الروسية بثقلهم في الصراع، لدعم سيف الإسلام، وهو ما قد يجعل منه قوة ثالثة في مواجهة الشرق والغرب.
والهدف من الانتخابات هو المساعدة في إنهاء الفوضى التي استمرت على مدار العقد الأخير في ليبيا، وذلك بتنصيب قيادة سياسية تتمتع بشرعية وطنية بعد خلافات بين الفصائل على مدى سنوات.
غير أن العملية تعطلت منذ أن بدأت نزاعات مريرة حول الأسس القانونية للانتخابات والقواعد الأساسية التي تحكمها، وضمن ذلك أهلية مرشحي الصدارة الذين تنقسم الآراء بشأنهم بشدة، ولم تتم تسوية هذه الخلافات.
ولا يعتقد أحد من الليبيين الذين حاورتهم رويترز اليوم الخميس، أن الانتخابات ستتم في موعدها، وإن كان كثيرون يتوقعون أن يكون التأجيل قصيراً.
وقال أحمد علي (43 عاماً)، في بنغازي، لـ"رويترز": "ستتأجل لمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر". ويتبادل مرشحون متنافسون وفصائل سياسية متنافسة الاتهامات، إذ يتهم كل منهم الآخر بتعطيل العملية الانتخابية أو استغلالها لمصلحته الخاصة.
وأصرت القوى الدولية المطالِبة بالانتخابات وكذلك الأمم المتحدة على موقفها بضرورة إجراء الانتخابات، لكنها توقفت هذا الأسبوع عن الإشارة إلى الموعد المقرر في 24 ديسمبر/كانون الأول، في بياناتها العلنية.
وخلال الأسابيع الأخيرة تسلمت أعداد كبيرة من الليبيين بطاقاتها الانتخابية وسجَّل الآلاف أنفسهم كمرشحين برلمانيين، فيما يشير إلى تأييد شعبي واسع للانتخابات.
وقال تيم إيتون، من مؤسسة تشاتام هاوس البحثية في لندن، إن الأجهزة السياسية في ليبيا غير مستعدة للتسليم علناً بأن الانتخابات لن تحدث؛ خشية تحميلها مسؤولية فشلها. وأضاف: "من الواضح جداً أنه لا يمكن حل الخلافات القانونية في ظل الظروف الحالية… ما من أحد يعتقد أنها ستتم في موعدها. لكن لا أحد ينطق بذلك".
وأوضح لـ"رويترز"، أن هذا الوضع يطرح خياراً بين تأجيل قصير للتوصل إلى حلول للخلافات، أو تأجيل أطول لإعادة تشكيل خارطة الطريق السياسية، وهو ما قد ينطوي على استبدال الحكومة الانتقالية.
ويقول علي سعد (66 عاماً)، الموظف في شركة نفطية، وهو يبكي مستقبل ليبيا: "حتى وإن تم تأجيل الانتخابات، أتمنى أن يكون هناك اتفاق وقاعدة للعمل عليها، وإلا فستصبح الأمور متوترة والعواقب وخيمة".