في الذكرى الثالثة لانطلاق ثورة 19 ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت بعمر البشير، تظاهر الآلاف في السودان رفضاً لاتفاق حمدوك والبرهان، فهل أصبح رئيس الوزراء الذي كان رمزاً للثورة مهدداً بمصير الرئيس المعزول؟
كان السودانيون قد استيقظوا، الإثنين الماضي 25 أكتوبر/تشرين الأول، على حملة اعتقالات، شملت رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعدداً من وزرائه ومستشاريه وقادة قوى "إعلان الحرية والتغيير"، المكون المدني في السلطة الانتقالية في البلاد، ثم ألقى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بياناً في اليوم نفسه، أعلن خلاله جملة قرارات أنهت عملياً الشراكة بين العسكر والمدنيين في البلاد.
إذ قرر البرهان إقالة حكومة حمدوك ومديري الولايات في السودان، كما حل مجلس السيادة، وألغى قرار حل المجلس العسكري، وجمّد عدداً من مواد الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، بمثابة دستور للفترة الانتقالية في البلاد، وانفرد البرهان وزملاؤه في المجلس العسكري بالسلطة في البلاد.
ومنذ ذلك الوقت خرجت مظاهرات حاشدة في أنحاء البلاد، رفضاً لما وصفوه بالانقلاب العسكري، ونددت أغلب الدول الغربية بما حدث وقطعت الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى المساعدات عن السودان، وتحول حمدوك إلى أيقونة الانتقال إلى الحكم المدني في البلاد، ورفع المتظاهرون صوره بينما أعلنت أغلب دول العالم أنها لن تتعامل إلا معه.
ووسط تقارير مكثفة عن وساطات تتم بين البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو من جهة وحمدوك، الموجود قيد الإقامة الجبرية، من جهة أخرى، شهد الأحد 21 نوفمبر/تشرين الثاني رفع الإقامة الجبرية عن حمدوك بعد توقيعه على اتفاق سياسي جديد مع البرهان، عاد بموجبه إلى منصبه رئيساً للوزراء وأعاد البرهان مجلس السيادة الذي كان قد أعلن حله من قبل.
ونص الاتفاق السياسي الذي وقعه حمدوك والبرهان على 14 بنداً، أولها التأكيد على الوثيقة الدستورية لسنة 2019 والمعدلة في 2020، وأنها المرجعية الأساسية القائمة لاستكمال الفترة الانتقالية، وثانيها ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية بالتوافق بما يضمن مشاركة سياسية واسعة عدا حزب "المؤتمر الوطني" المحلول (حزب الرئيس المعزول عمر البشير). وهكذا بين ليلة وضحاها تحوَّل عبد الله حمدوك من رمز للديمقراطية في السودان إلى "خائن" انضم لمعسكر الانقلابيين من قادة الجيش.
الثورة مستمرة في السودان
وتناول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية بعنوان "المتظاهرون في السودان: لن يسكتونا"، رصداً للأوضاع في السودان والأفق السياسي الذي يبدو مسدوداً في وجه حمدوك، الذي اشتكى أمس السبت من "تمترس" معارضي الاتفاق مع البرهان خلف مواقفهم.
أماني جلال، مواطنة سودانية شاركت في الثورة ضد البشير، فقدت عينها اليمنى بقنبلة غاز مسيل للدموع أطلقتها قوات الأمن أثناء محاولتها تفريق مظاهرة أوائل عام 2019، ما جعلها واحدة من أولى ضحايا ثورة السودان الطويلة والمتعثرة.
وبعد ثلاثة أشهر، أطاحت الحركة الشعبية العسكري عمر البشير، لكن بعد ثلاث سنوات، لا يزال ملايين المحتجين يناضلون لإقامة حكومة ديمقراطية. وقالت أماني للصحيفة البريطانية قبل أسبوعين: "يستحيل أن أتوقف عن النزول إلى الشوارع والاحتجاج".
وأضافت أنها تستعد للخروج في مظاهرة الأحد 19 ديسمبر/كانون الأول، لإحياء الذكرى الثالثة للثورة السودانية. وقالت: "ما خرجت لأطالب به منذ ثلاث سنوات لم يتحقق. لقد طالبنا بالحرية والسلام والعدالة ولكن لا شيء منها تحقق".
ويرى كثير من السودانيين أن ثورتهم ربما تكون قد شهدت أكبر انتكاسة لها هذا الخريف، حين حاول قادة الجيش، الذي لم يطاله التغيير، الاستيلاء على السلطة مرة أخرى في انقلاب أكتوبر/تشرين الأول.
لكن رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك خرج من إقامته الجبرية ليوقّع اتفاقاً مع زعيم الانقلاب، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان. وشعر المتظاهرون بالغضب من هذا الاتفاق واعتبروه خيانة.
وقال مؤمن عباس، الفنان وخريج الهندسة الذي أصيب في ركبته برصاص قناص، لـ"الغارديان": "شعرت بأنهم سرقوا الثورة. لقد أُصبت ودفعنا ثمناً باهظاً". وأضاف: "بعض الأشخاص الذين أعرفهم تعرضوا للاغتصاب وأصبحوا مدمنين على المخدرات والكحول. وبعد هذا كله يجلس قادة قوى الحرية والتغيير مع الجيش ويبرمون اتفاقاً؟".
وظل مؤمن بعيداً عن الاحتجاجات لعام كامل بعد إصابته، ونال منه الاكتئاب والخوف من الإعاقة، لكنه نهض في النهاية وزادت الصدمة من تمسكه بالاحتجاج، الذي أصبح الآن محور حياته.
أجواء الانتفاضة ضد البشير تعود من جديد
وقد أسس شركة لتوفير الحماية لزملائه النشطاء، عن طريق المصنوعات الجلدية التقليدية، فهم يصنعون قفازات سميكة تُمكّن المتظاهرين من التقاط قنابل الغاز المسيل للدموع التي تطلقها قوات الأمن وإلقائها بعيداً، وأقنعة للوجه تحمي المتظاهرين في الخطوط الأمامية من الغاز.
وقال لـ"الغارديان": "توقفت عن العمل بالسياسة لأكثر من عام، لكن الاكتئاب أو الإحباط لا يحلان المشكلة. الثورة تزداد سرعة وقوة يوماً بعد يوم، تماماً مثل كرة الثلج التي تتدحرج على الجبل". وأضاف: "ما زلت بحاجة إلى مراجعة طبية ولكن لا وقت لديّ لأضيعه على الأطباء، أنا مشغول جداً بالثورة الآن. ولا يمكنني أن أضيع لحظة واحدة دون أن أفعل شيئاً من أجل الثورة".
وغيّر الانقلاب الديناميكية السياسية في السودان، وعزز القوة العسكرية. لكنه أظهر أيضاً أن قوات الأمن والطبيعة البطيئة المتعثرة للتقدم نحو الديمقراطية لم يقوّضا الإرادة السياسية للتغيير.
تقول أماني: "لم أفوّت أي احتجاج خلال السنوات الثلاث الماضية". وهي، مثل مؤمن، لم تزدها إصابتها إلا تصميماً على الاستمرار في الاحتجاج. وقد نجحت في تأسيس منظمة غير حكومية، وهي في الثالثة والعشرين من عمرها فقط، لمساعدة المتظاهرين المصابين الآخرين على تلقي العلاج في الداخل والخارج، بعد أن ركّبت عيناً صناعية في روسيا.
وأضافت: "نحاول الآن إرسال 470 متظاهراً مصاباً إلى الخارج لتلقي العلاج. وهذا العدد من الخرطوم فقط، وهو للأسف يرتفع منذ الانقلاب. وقد أصيب معظمهم بالرصاص، ونرغب في إرسالهم إلى الهند وروسيا وأوكرانيا".
وحجم المساعدة الطبية المطلوبة دليل آخر على التزام المحتجين السودانيين بوضع أرواحهم على أكفهم في نضالهم الطويل لانتزاع السيطرة على بلادهم من الجيش. يقول كاميرون هدسون، الباحث البارز في مركز إفريقيا التابع للمجلس الأطلسي، إن "الجيش أصبح أقوى مما كان عليه قبل الانقلاب"، لكن الاحتجاجات أظهرت أن "الطرف الأقوى في البلاد ليس الجيش، وإنما الشعب".
وأضاف لـ"الغارديان": "أعتقد أن موقف الجيش والمجتمع الدولي قد اهتز في بعض النواحي. فلا يمكنهما الاكتفاء بإبرام اتفاق سياسي لتحقيق "الاستقرار"، وينتظران أن يقبل غالبية الشعب بذلك".
واستطرد قائلاً إن قلق الغرب من أن يؤدي غياب الحكم العسكري إلى انهيار السودان ونشوب حرب أهلية مريرة، مثلما حدث في ليبيا وسوريا قبل 10 سنوات، أدى إلى قبول يشوبه قلق لحكومة يهيمن عليها الجيش.
وقد سيطر الجنرالات على السودان لأكثر من خمسة عقود عبر تاريخه الممتد لـ 60 عاماً منذ الحصول على الاستقلال من الاستعمار البريطاني. ومن بين الفعاليات المُعدَّة لإحياء الذكرى الثالثة للثورة التي انطلقت في ديسمبر/كانون الأول عام 2018، عرض فني ينظمه المصور والرسام عصام حفيظ، بعنوان "52"، في إشارة إلى عدد السنوات التي قضاها السودان تحت الحكم العسكري. وقال: "أعني بهذا العرض التأكيد على أن السودان يحكمه الجيش منذ استقلاله. وهذه طريقتي في المقاومة".
وقد استقال ياسر عرمان، المستشار السياسي السابق لحمدوك، من منصبه بعد إعلان الاتفاق الذي أبرم في نوفمبر/تشرين الثاني، والجيش لا يزال يحتجزه في الحبس الانفرادي. يقول عرمان: "لقد تخلى عن الشعب الذي كان أقوى قاعدته، الشعب نفسه الذي أشعل هذه الثورة. وأنا لم أستطع النهوض بمسؤولياتي". وأضاف: "جئت لدعم رئيس الوزراء في توجيه السودان ليصبح دولة تقودها حكومة ديمقراطية، وتقوم على المساواة في الحقوق، ولا أظنه سيتمكن من فعل ذلك الآن، فقد استسلم للجيش".
مصير حمدوك في الميزان
اليوم الأحد 19 ديسمبر/كانون الأول، أطلقت قوات الشرطة السودانية عبوات الغاز المسيل للدموع، لتفريق محتجين تمكنوا من الاقتراب من القصر الرئاسي بالخرطوم. وحاول المتظاهرون الوصول إلى البوابة الجنوبية للقصر الرئاسي، لكن الشرطة أطلقت في مواجهتهم القنابل الصوتية وعبوات الغاز المسيل للدموع، حسب مراسل الأناضول.
ورد المتظاهرون بإلقاء الحجارة على قوات الشرطة، ومحاولة إرجاع عبوات الغاز المسيل للدموع عليها. كما كسر المتظاهرون الحواجز الأمنية وعبروا جسري "النيل الأبيض" الرابط بين الخرطوم ومدينة أم درمان غربي العاصمة، و"المنشية" الرابط بين الخرطوم ومدينة شرق النيل، للوصول إلى وسط الخرطوم.
وفي وقت سابق الأحد، تظاهر الآلاف، في الخرطوم، رفضاً للاتفاق السياسي الموقع بين البرهان وحمدوك، والمطالبة بالحكم المدني الديمقراطي. وردد المتظاهرون الذين يحملون الأعلام الوطنية، شعارات تندد بإجراءات قائد الجيش.
ووفق مراسل الأناضول، رفع المتظاهرون لافتات مكتوب عليها، "لا تفاوض، و"لا شراكة"، و"لا مساومة"، "لا لحكم العسكر"، و"الشعب أقوى والردة مستحيلة"، "والثورة ثورة شعب، والسلطة سلطة شعب"، و"نعم للحكم المدني الديمقراطي".
وأبلغ شهود عيان الأناضول، بخروج المتظاهرين في مدن عطبرة والدامر ودنقلا والبرقيق وكريمة (شمال) ومدني والمناقل (وسط)، والضعين، ونيالا وزالنجي (غرب) وكوستي والأبيض (جنوب)، وبورتسودان وحلفا الجديدة (شرق)، وسنار (جنوب شرق) رفضا للاتفاق السياسي.
واستباقا لمظاهرات اليوم، كان حمدوك قد حذر السبت في بيان من أن الثورة السودانية تواجه انتكاسة كبرى وإن "التمترس" السياسي من جميع الأطراف يهدد وحدة البلاد واستقرارها.
وقال حمدوك: "نواجه اليوم تراجعاً كبيراً في مسيرة ثورتنا، يهدد أمن البلاد ووحدتها واستقرارها، وينذر ببداية الانزلاق نحو هاوية لا تبقي لنا وطناً ولا ثورة"، بحسب رويترز.
واعترف حمدوك بفشل محاولات الوساطة السابقة لكنه دعا إلى "التوافق على ميثاق سياسي". وقال: "مبلغ الأسف هذه المبادرات جميعها قد تعثرت بفعل التمترس وراء المواقف والرؤى المتباينة للقوى المختلفة".
وأضاف حمدوك: "أود في هذه السانحة أن أجدد دعوتي لكافة قوى الثورة وكل المؤمنين بالتحول المدني الديمقراطي بضرورة التوافق على ميثاق سياسي يعالج نواقص الماضي وينجز ما تبقى من أهداف الثورة".
هذه التطورات والرفض الشعبي الذي يبدو عارماً لاتفاق البرهان مع حمدوك يثير تساؤلات ربما لا تتعلق فقط بمصير حمدوك ولكنها تتعلق أيضاً بمستقبل البلاد ذاته، فالجيش يبدو أقوى حتى مما كان عليه خلال حكم البشير، والشارع الرافض أيضاً لا يبدي أي بادرة للتراجع.