رغم الإغراءات.. لماذا ترفض دول جنوب شرق آسيا الميل نحو أمريكا في نزاعها مع الصين؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/12/18 الساعة 15:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/12/18 الساعة 15:25 بتوقيت غرينتش
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين خلال زيارته إلى إندونيسيا في إطار جولته الأولى في جنوب شرق آسيا/ رويترز

كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تحاول اللحاق بالركب في جنوب شرق آسيا، وهي منطقة أهملتها الولايات المتحدة إلى حدٍّ كبيرٍ في العقود الأخيرة. كان الهدف من زيارة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الأخيرة إلى إندونيسيا هي التعويض عن الازدراء المُتصوَّر للبلاد خلال زياراتٍ سابقة للمنطقة قامت بها نائب الرئيس، كامالا هاريس، ووزير الدفاع، لويد أوستن. وبالنظر إلى زيارته اللاحقة إلى ماليزيا، فقد كانت علامةً مُرحَّباً بها على أن الإدارة تدرك أنها لم تفعل ما يكفي لتحسين علاقات الولايات المتحدة مع الدول الكبرى في المنطقة. 

ولسوء الحظ، أكَّد خطاب بلينكن في جاكرتا مدى ضآلة فهم واشنطن لمخاوف الحكومات الإقليمية، وعزَّزَ الانطباع بأن الولايات المتحدة لا تزال تنظر إلى هذه الدول في الغالب على أنها وسيلةٌ لتحقيق هدفٍ أكبر في مناهضة الصين، كما يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي.

أمريكا ترى في دول جنوب شرق آسيا فرصة لتعزيز موقفها في النزاع مع الصين

أوجَزَ بلينكن "رؤية" إدارة بايدن لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكنه قدَّمَ تفاصيل محدودة بشكلٍ ملحوظ عمَّا يعنيه هذا عملياً. وَصَفَ بلينكن العديد من تطلُّعات الولايات المتحدة للمنطقة، لكنه لم يضع الكثير على الأجندة السياسية لتنفيذ هذه التطلُّعات. كما أشار سيباستيان سترانجيو، محرِّر شؤون جنوب شرق آسيا في The Diplomat الأمريكية، كان الخطاب "غامضاً بشكل محبط فيما يتعلق بتفاصيله". 

كان الكثير من خطابه مُحمَّلاً بعباراتٍ مألوفة حول "النظام القائم على القواعد" و"منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرَّة والمفتوحة"، والتي لا تمنح الحكومات الإقليمية الكثير من المعلومات المفيدة حول ما يمكن توقُّعه من الولايات المتحدة. كان الاعتراض الأكثر شيوعاً بين المحلِّلين على "رؤية" إدارة بايدن هو أنها لم تكن رؤيةً استراتيجية على الإطلاق، بل مجرد قائمة أمنيات بالأشياء التي يرغبون في أن يشهدوها. 

يقول موقع Responsible Statecraft، إن نهج الولايات المتحدة تجاه المنطقة لا يزال يركِّز في الغالب على بناء القدرات العسكرية كجزءٍ مما يسمى "المنافسة الاستراتيجية" للإدارة مع الصين. فَحَصَ بلينكن شراكة "أوكوس" الأمنية، مع بريطانيا وأستراليا، لكنه لم يُظهِر أيَّ إدراكٍ بأن العديد من دول جنوب شرق آسيا، بما في ذلك إندونيسيا التي استضافته، لديها تحفُّظاتٌ جادة بشأن المزيد من عسكرة منطقتهم من قِبَلِ قوى خارجية. بعض السياسات نفسها التي تفاخر بها بلينكن هي سببٌ للخوف العميق بين العديد من الدول التي كان يحاول محاكمة سياساتها. وإذا افتُرِضَ أن أيَّ شخصٍ في وزارة الخارجية بتقديم تطميناتٍ بشأن هذه المسألة، فمن الواضح أنه لم يتَّبِع النصيحة. 

"رابطة دول جنوب شرق آسيا"

تحدَّثَ بلينكن كذلك عن مركزية "رابطة دول جنوب شرق آسيا"، وتعهَّد بتعميق العلاقات الأمريكية مع هذه المنظمة، ولكن بعد ذلك لم يكن لديه الكثير ليقوله عن دور المنظمة في الدبلوماسية الإقليمية والأمن. وهذا الأمن الإقليمي مُهدَّدٌ الآن أكثر مِمَّا كان عليه منذ عقود، كما أوضح سارانغ شيدور، من معهد كوينسي البحثي في واشنطن، في وقتٍ سابق من هذا العام. فلقد ساهمت الولايات المتحدة في المشكلة من خلال نهج "العسكرية أولاً" الذي تنتهجه. 

لا يزال الافتقار إلى أجندةٍ اقتصادية أمريكية مهمة للمنطقة يمثِّل نقطة الضعف الرئيسية في سياسة الإدارة. لم يكن هناك شيءٌ عملياً في خطاب بلينكن في جاكرتا من شأنه أن يقنع الحكومات الإقليمية بأن هذا سيتغيَّر في أيِّ وقتٍ قريب. وكما قال جوناثان سترومسيث، من معهد بروكينغز، لصحيفة New York Times الأمريكية، الأسبوع الماضي: "يظل كعب أخيل لسياسة الولايات المتحدة هو المشاركة الاقتصادية، إذ تفوَّقت الصين بكثير على الولايات المتحدة في التجارة والاستثمار في البنية التحتية". 

يعد وعد بلينكن بالعمل مع الحكومات الإقليمية "لتقديم بنية تحتية عالية الجودة وعالية المعايير يستحقها الناس" أمراً صعباً بعض الشيء لأخذه على محمل الجد، في وقتٍ تكافح فيه الولايات المتحدة بقوة لتوفير تلك البنية التحتية في الولايات المتحدة نفسها. ولقد أوضحت إدارة بايدن بالفعل أنها لا تنوي الانضمام إلى الشراكة التقدمية الشاملة عبر المحيط الهادئ، وهذا يدلُّ على أن المشاركة الاقتصادية الأمريكية ستواصل تخلُّفها إلى الوراء. 

وكما فعل من قبل، أصرَّ بلينكن على أن "الهدف من الدفاع عن النظام القائم على القواعد ليس الإبقاء على أيِّ دولة في حالة هبوط"، لكن هذا لا يتَّسِق مع توجيه واشنطن كلِّ انتقاداتها تقريباً إلى الصين. وقال بلينكن إنه لا يتحدَّث عن "منافسةٍ بين منطقةٍ تتمحور حول الولايات المتحدة وأخرى حول الصين"، لكن هذا هو بالضبط التنافس الذي استحضرته إدارة بايدن في سياقاتٍ أخرى. من الطبيعي أن تشكَّ الدول الأخرى في هذا الخطاب عندما يتعارض بوضوح مع ما تفعله الولايات المتحدة مع بقية الوقت. 

من المُتوقَّع ألا تقتنع الحكومة الصينية بأيٍّ من ذلك، ولقد هاجَمَت بلينكن ووصفته بأنه "مخرِّب يزرع النزاع بين دول المنطقة". قد يكون وضع الصين كحماية لـ"منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرَّة والمفتوحة" فعالاً في حشد المعارضة للصين بين الحلفاء الحاليين، ولكن من غير المرجح أن تجذب الصين دول جنوب شرق آسيا التي ترغب في مواصلة التحوُّط بين القوتين الرئيسيتين. وهذا لأن التوتُّرات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين تثير قلق هذه الدول، والولايات المتحدة تؤذي نفسها في المنطقة في كلِّ مرةٍ تساهم فيها في زيادة طينة هذه التوتُّرات بلة. 

الدبلوماسية الأمريكية في جنوب شرق آسيا مفقودة

إن هدف "منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرَّة والمفتوحة" هو بحدِّ ذاته بعيد المنال حين نعتبر أن العديد من الحكومات، إن لم يكن معظمها، في المنطقة هي أنظمةٌ استبدادية وغير ليبرالية. لدى الولايات المتحدة وسائل محدودة للغاية لتشجيع التغيير السياسي في أي من هذه البلدان. إذا كنَّا نعني أنه على المستوى الفردي، سيكون الناس أحراراً في حياتهم اليومية ويعيشون في مجتمعات مفتوحة، كما ادعى بلينكن، فهذا هدف طموح للغاية طويل الأجل، ومن المشكوك فيه أن ترحِّب معظم الحكومات الإقليمية بالتدخل الذي يأتي مع ذلك. 

ورغم تركيز الإدارة الأمريكية الخطابي على المشاركة الدبلوماسية، غالباً ما كانت الدبلوماسية الأمريكية في جنوب شرق آسيا مفقودة. واعتباراً من الأسبوع الماضي، لا يوجد حتى الآن سفراء للولايات المتحدة في فيتنام أو تايلاند، ولا يوجد حالياً ممثل للولايات المتحدة في دول "آسيان"- وهي إندونيسيا والفلبين وماليزيا وسنغافورة، بالإضافة إلى تايلاند. ويمكن إلقاء بعض اللوم في ذلك على السيناتور تيد كروز، بسبب الحصار الشديد لمرشَّحي وزارة الخارجية، ولا يوجد حتى مرشَّحون لتايلاند ورابطة دول جنوب شرق آسيا. قد يستمر الكثير من العمل الدبلوماسي العادي بدون وجود سفير، لكن الافتقار إلى سفيرٍ لفترةٍ طويلة من الزمن يبعث رسالةً إلى البلد المضيف حول مدى قيمة العلاقة التي تعتقدها واشنطن. قال بلينكن في خطابه إن الولايات المتحدة ستتبنَّى "استراتيجية تنسج بشكل أوثق جميع أدوات قوتنا الوطنية- الدبلوماسية والعسكرية والاستخبارات- مع أدوات حلفائنا وشركائنا"، ولكن كالعادة، تبالغ الحكومة في التأكيد على البُعدِ العسكري وتهمل الدبلوماسية. 

وفي أواخر خطابه، اقتبس بلينكن جملةً من جون كينيدي، إذ قال: "هدفنا الأساسي لا يزال كما هو: عالمٌ سلمي، ومجتمعٌ من الدول الحرة والمستقلة، أحرار في اختيار مستقبلهم ونظامهم الخاص". إنه شعورٌ جدير بالثناء، ولكن ربما لم يغِب عن المستمعين إلى بلينكن أنه، بعد سنوات قليلة فقط من قول كينيدي هذه الكلمات، كانت الولايات المتحدة تشنُّ حرباً لا معنى لها في جنوب شرق آسيا، ثم ساعدت في قتل مئات الآلاف من الإندونيسيين باسم معاداة الشيوعية. تدرك دول جنوب شرق آسيا تماماً مدى اتساع الفجوة بين الخطاب الأمريكي والأفعال الأمريكية، لذلك لا ينبغي للولايات المتحدة أن تتوقَّع أن يقنع خطابها حول "منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرَّة والمفتوحة" الحكومات بهذه السهولة. 

تحميل المزيد