بعد انقطاع للعلاقات الدبلوماسية بين تركيا وأرمينيا لنحو 30 عاماً، ودعم الأولى أذربيجان في حربها ضد الثانية العام الماضي، يمدُّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يده لخصوم بلاده في يريفان، بينما يحاول تعزيز نفوذ تركيا في القوقاز، حيث تتنافس مع روسيا وإيران. وأشار أردوغان مؤخراً قبل نحو شهرين إلى إمكانية استئناف العلاقات مع أرمينيا، وذلك بعدما أعلن نيكول باشينيان، رئيس وزرائها، أنه مستعدٌ لإجراء محادثاتٍ مع أنقرة "بدون شروطٍ مُسبَّقة".
أرمينيا تقرر تعيين مبعوث خاص لها في تركيا
يبدو أن تطور العلاقة بين الطرفين يسير بشكل متسارع، حيث أعلنت أرمينيا يوم الثلاثاء 14 ديسمبر/كانون الأول 2021، نيتها تعيين مبعوث خاص لها لبحث إمكانية تطبيع علاقاتها مع تركيا، وذلك بعد ساعات على إعلان مماثل من قبل وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو.
وكان أوغلو قد أوضح خلال جلسة عُقدت في أنقرة، لمناقشة ميزانية وزارة الخارجية في البرلمان، أن تركيا تعتزم تسيير رحلات جوية بين إسطنبول ويريفان قريباً، مشيراً إلى أن بلاده ستنسق هذه الخطوات مع أذربيجان.
ويقول أرمين غريغوريان، أمين مجلس الأمن في أرمينيا لصحيفة "فايننشيال تايمز" البريطانية: "نظراً لوجود إيجابية من كلا الجانبين، فإن ذلك يتيح الفرصة في وقتٍ ما في المستقبل القريب لبدء محادثاتٍ حول فتح الحدود وبدء العلاقات الاقتصادية والعلاقات بين الحكومتين".
من المفترض أن سيسمح ذوبان الجليد بين أنقرة ويريفان للتجارة والدبلوماسية بترسيخ جذورهما، فيما تأمل أذربيجان حليفة تركيا التي خرجت منتصرة على أرمينيا العام الماضي، بأن تؤدِّي الوعود التجارية مع جيرانها إلى إغراء أرمينيا لفتح ممرٍ بريٍّ لأذربيجان للوصول إلى نخجوان وتركيا.
ويربط طريق سريع جديد سمي بطريق "النصر" بين أذربيجان ومدينة شوشة التاريخية، وهي الغنيمة الكبرى التي انتزعتها أذربيجان من أرمينيا في حربٍ استمرَّت ستة أسابيع حول منطقة قره باغ المُتنازَع عليها العام الماضي، حيث زوَّدَت تركيا أذربيجان بالقوة النارية لمساعدتها على إحراز تفوُّقٍ حاسم لاستعادة أراضيها، وخصيصاً بواسطة طائرات "بيرقدار" المسيّرة التي ذاع صيتها في العالم كله بعد هذه المعركة.
ما أقصى درجات نجاح التقارب بين تركيا وأرمينيا؟
رغم حرب قرة باغ، فإن التقارب التركي- الأرميني ليس وليد اللحظة، فقد سبق ذلك اتصالات غير معلنة، نجحت قبل أشهر، في دفع أرمينيا للإعلان عن موافقتها على فتح أجوائها أمام رحلات الطائرات التركية المتوجهة إلى أذربيجان.
ويقول تقرير لشبكة bbc البريطانية إن ثمة من يرى أن حظوظ التوصل الى اتفاق بين أنقرة ويريفان باتت أكبر من أي وقت مضى، بعد انتهاء الاحتلال الأرميني للأراضي الأذرية، وهي الأسباب التي من أجلها قطعت تركيا علاقاتها مع أرمينيا عام 1993، وأغلقت حدودها البرية معها، دعماً لحليفها الأذري، الذي لم يعد معترضاً على هذا التقارب كما كان عليه الحال في عام 2009.
وأصبحت باكو الآن بشكلٍ حاسمٍ أقل مقاومةً للتقدُّم الكبير بين أنقرة ويريفان. وتقول صحيفة فايننشيال تايمز إن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف قد أحبط محاولات إصلاح العلاقات في عام 2009، عندما سعى أردوغان لاسترضائه من خلال اشتراط أن تحل أرمينيا نزاع ناغورنو قره باغ أولاً.
يقول حكمت حاجييف، مستشار الرئيس الأذري للسياسة الخارجية لصحيفة فايننشال تايمز إن "الوضع تغيَّر بشكلٍ كبير منذ عام 2009.. يجب أن تكون هناك علاقاتٌ خارجية بين البلدين". وأضاف: "نودُّ أن نشهد عمليةً أشمل. ويجب أن يشارك الجميع إذا كنَّا نتحدَّث عن الأمن والاستقرار على المدى الطويل في المنطقة".
"ممر زنغازور".. هل تنجح تركيا بإقناع أرمينيا بفتح ممر تجاري في نخجوان؟
كان الرئيس التركي قال قبل أشهر إن بلاده مستعدة لبدء حوار مع أرمينيا، ولكن يتعين على يريفان السماح بعبور سلس بين أذربيجان و"نخجوان" (الجيب الأذربيجاني في جنوب غرب أرمينيا)، الأمر الذي اعتبرته يريفان شروطاً مسبقة.
وأضاف أردوغان: "نحن لسنا منغلقين على المحادثات، لكنني آمل أن تغلب عليها مقاربة إيجابية وأن يتم تجاوز الصعوبات بين أذربيجان وأرمينيا عبر فتح ممرات".
وردَّ وزير الخارجية الأرميني، آرارات ميرزويان، على ذلك في سبتمبر/أيلول الماضي بالقول إن بلاده ترفض شروط أنقرة لإقامة علاقات طبيعية بين البلدين، بما فيها شق ممر عبر أراضي أرمينيا ليربط أذربيجان بتركيا.
وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية ، قال الوزير الأرميني إن "أنقرة تطرح شروطاً جديدة، بينها ممر يربط بين أذربيجان ونخجوان"، وأضاف: "هذه المسألة ليست موضوعاً للنقاش إطلاقاً. على الدول أن تسمح بالترانزيت وهي تحافظ على السيادة على أراضيها. جميع المواصلات في المنطقة يجب أن تكون مفتوحة".
في وقت سابق، أكّد أردوغان أن أنقرة وباكو توليان أهمية بالغة لمشروع "ممر زنغازور"، الذي سيمتد من غرب أذربيجان إلى منطقة نخجوان ذاتية الحكم مروراً بأراضي أرمينيا.
في حين صرح رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان بأن بلاده مستعدة لبدء عملية ترسيم الحدود مع أذربيجان. وقال: "لقد أشرت مراراً إلى أن أرمينيا مستعدة لبدء عملية ترسيم الحدود. موضوع رفع الحظر عن جميع وسائل النقل والاتصالات الاقتصادية وفتحها مهم للغاية بالنسبة لنا، ونحن مهتمون بصدق بحل هذه القضايا".
ومن شأن ممر "زنغازور"، إذا ما فُتح أمام حركة المواطنين والمركبات والقطارات تحت حماية خدمة أمن الحدود الروسية، أن يزيل الكثير من العوائق التي لطالما واجهتها باكو جراء صعوبة الاتصال التي هيمنت على المناخ العام طوال العقود الثلاثة المنصرمة، حيث سيُسهم بشكل مباشر، ليس في نهضة نخجوان فحسب، بل سينعش اقتصاد المنطقة برمّتها، بدءاً من تركيا مروراً بأذربيجان ووصولاً إلى وسط آسيا، كما يقول تقرير لشبكة TRT التركية.
كما سيجعل الممر من أذربيجان مركزاً لوجستياً غاية في الأهمية في منطقة القوقاز، ويجعل من باكو لاعباً أساسياً في التجارة العالمية التي تمرّ عبر الأراضي الأوروآسيوية، ونقطة التقاء مهمة على طول طريق الحرير الصيني المنطلق من وسط الصين باتجاه أوروبا.
وحول سبب معارضة أرمينيا لممر زنغازور، رغم أن باشينيان يؤيد بالقول رفع الحظر عن البنية التحتية، قال اقتصاديون إن "طول ممر زنغازور يزيد قليلاً عن 40 كم، ما لا يمنح أرمينيا دخلاً كبيراً من الترانزيت، وعليه فإن أولوية يريفان هي فتح خط سكة حديد عبر غازاخ – إيجيفان وكذلك عبر أراضي أرمينيا بأكملها".
تركيا وموازنة كفة الميزان مع روسيا
وتفاقم التوتر على الحدود بين أرمينيا وأذربيجان في مقاطعة سونيك الأرمنية يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عندما أعلن رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان أن قوات أذربيجانية توغلت في عمق أراضي بلاده من الجهة الشرقية من الحدود، فيما قالت النيابة العامة الأرمنية إن العسكريين الأذربيجانيين عبروا الحدود باتجاه مدينة سيسيان في مقاطعة سونيك.
وفي 16 من الشهر نفسه، أعلن عن توصل الطرفين إلى وقف إطلاق النار في المنطقة بوساطة روسية. ولطالما سعت أذربيجان إلى أن تجعل تركيا أكثر انخراطا في العملية الدبلوماسية بينها وبين أرمينيا، بما في ذلك دفع تركيا كي ترأس "مجموعة مينسك" (إلى جانب فرنسا وروسيا والولايات المتحدة)، وهو كيان دأب على الوساطة في محادثات السلام بين أذربيجان وأرمينيا طيلة عقود.
في حين تبدو تركيا أكثر اهتماماً بالتطبيع مع أرمينيا بموجب الخطة "3+3" التي اقترحتها سابقاً، وهي عبارة عن منتدى إقليمي يتألَّف من دول جنوب القوقاز وجيرانها: أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، إضافة إلى إيران وروسيا وتركيا.
وقد يساعد إدخال تركيا في مبادرة سلامٍ إقليمية أذربيجان في موازنة كفة روسيا، التي تحتفظ بقاعدةٍ عسكرية في أرمينيا، في الميزان. وتقول صحيفة فاينانشيال تايمز إن السماح بالتطبيع بين أرمينيا وتركيا وإعادة تركيا إلى المنطقة ضروريٌّ لمواجهة ضعف علييف أمام الروس.
كما أن عدم الثقة بالغرب الذي يتقاسمه أردوغان وبوتين قد يجبرهما على التعاون في القوقاز لإبقاء الولايات المتحدة وأوروبا على الهامش. وتضيف الصحيفة البريطانية أن روسيا بدأت تقتنع أيضاً بفرصة إحياء ارتباط مادي مباشر من الحقبة السوفييتية مع تركيا على السكك الحديدية التي تمتلكها بالكامل في أرمينيا، كجزءٍ من سعيها لسيطرةٍ أكبر على الروابط التجارية في المنطقة.