"إنها ليست حتى بلداً إنها روسيا الصغرى التي يجب أن تلحق بروسيا الكبرى لتشكل مجال نفوذ له وإطاراً للحماية"، هذه نظرة بوتين لأوكرانيا هو وكثير من القوميين الروس، وهو ما يفسّر إصرارهم على التحكم في مصير هذا البلد.
فمنذ المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس بايدن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول الأزمة في أوكرانيا، تمادى المسؤولون الروس أكثر، فألقوا باللوم في حدوث هذه المواجهة على حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونبذوا أوكرانيا باعتبارها دولة دمية للغرب، واستبعدوا انسحاب القوات الروسية المحتشدة قرب حدود أوكرانيا.
بل وشبَّه بوتين معركة أوكرانيا ضد الانفصاليين المدعومين من موسكو في شرق البلاد بالإبادة الجماعية.
يشير كل ذلك إلى أنَّ التوترات الحالية في المنطقة –حتى لو استجاب بوتين لتحذيرات بايدن- ستبدو شبيهةً كثيراً بالتوترات المستقبلية: بقاء القوات الروسية بطول الحدود الأوكرانية وكل ما يجلبه معه ذلك، بما في ذلك المخاوف المنتظمة من شن هجمات محتملة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
تقرير The Washington Post ذكر ستة طرق تنظر بها روسيا إلى أوكرانيا أو تحديداً تكشف نظرة بوتين لأوكرانيا. وكلها تشكل عوائق أمام التوصل إلى حل سريع للأزمة الحالية.
6 أشياء تحدد نظرة بوتين لأوكرانيا
1- فرصة لمحو عار هزيمة روسيا في نهاية الحرب الباردة
كان تركيز بوتين الأساسي خلال رئاسته هو إعادة بناء روسيا باعتبارها دولة استبدادية قوية، فاستعرضت القوة في الشرق الأوسط وإفريقيا، وكذلك، وهو الأهم، في "مجال النفوذ" الذي تدَّعيه لنفسها في دول الاتحاد السوفييتي السابق.
ويشمل ذلك أوكرانيا. فبعدما أغضبته الثورة الأوكرانية في 2014 –والتي أطاحت بحكومة موالية لروسيا وأتت بأخرى تميل إلى الغرب- سرعان ما اقتطع بوتين القرم من أوكرانيا ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا في صراع مستمر حصد حياة 14 ألف شخص تقريباً.
ولكن أدت هذه الممارسات لتعزيز رفض الأوكرانيين للعلاقة مع موسكو
دفع ذلك أوكرانيا نحو الغرب أكثر. إذ أظهر استطلاع رأي أجرته وكالة "Rating Group Ukraine" في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن 62% من الأوكرانيين يرغبون في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويرغب 58% منهم في الحصول على عضوية الناتو، وهي خطوة وصفها بوتين بأنها "خطاً أحمر". ووجد استطلاع رأي أجرته نفس الوكالة في وقتٍ سابق من هذا الشهر، ديسمبر/كانون الأول، أنَّ 72% يعتبرون روسيا قوةً معادية.
يعتبر بوتين الآن أنَّ مهمته الحاسمة هي إعادة أوكرانيا إلى حظيرة روسيا.
2- "أوكرانيا ليست حتى بلداً وهي ملزمة بالشراكة معنا"
قال بوتين هذا التصريح للرئيس جورج بوش الابن خلال قمة للناتو في العاصمة الرومانية، بوخارست عام 2008، حين عزَّز بوش آمال أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى الناتو. هدَّد بوتين آنذاك بتشجيع انفصال القرم وشرق أوكرانيا إذا ما انضمت كييف للحلف وحذَّر من أنها "لن تعود دولة".
غالباً ما يروِّج المسؤولون الروس ومُروِّجو الدعاية في وسائل الإعلام الرسمية لوجهة النظر التي تعتبر أوكرانيا دولة أقل سيادية وغير قابلة للبقاء ولا يحق لها عقد تحالفاتها الخاصة.
إذ كتب بوتين، في أطروحة من 5 آلاف كلمة عن أوكرانيا نُشِرَت في يوليو/تموز الماضي، أن "سيادة أوكرانيا الحقيقية ليست ممكنة إلا عبر الشراكة مع روسيا".
ووصف نيكولاي باتروشيف، أمين مجلس الأمن الروسي، أوكرانيا بأنَّها "محمية" خلال مقابلة صحفية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مضيفاً ملاحظة تنذر بالسوء: "هنالك إمكانية في أوكرانيا لاندلاع توترات قوية للغاية لدرجة أنَّ ملايين الأوكرانيين سيهربون سعياً لإيجاد ملجأ في أماكن أخرى".
"على بُعد أزمة واحدة من الانهيار"، هكذا كان وصف مكسيم سوتشكوف، رئيس قسم الدراسات الدولية بمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، للعلاقات الأمريكية الروسية حالياً.
3- منطقة أمنية لحماية روسيا من الغزو الأوروبي
لطالما سعت روسيا للحصول على منطقة أمنية عازلة مؤلفة من جيرانها الطيِّعين، الذين تنظر إليهم باعتبارهم يمثلون "مجال نفوذها" المشروع. قال ألكسندر باونوف، المحلل بمعهد كارنيغي موسكو، إنَّ حاجة روسيا لمنطقة أمنية عازلة ترسَّخت بعد غزو أوروبا المتعاقب لها على مدار القرون الماضية.
ويُنظَر إلى مساعي المنافسين –وعلى رأسهم حلف الناتو- لبيع السلاح أو إقامة تحالفات سياسية وعسكرية في ما تعتبره روسيا مجالها، على أنَّه تعدٍّ.
صرَّح فلاديسلاف سوركوف، وهو مساعد سابق لبوتين كان مسؤولاً عن أوكرانيا، لصحيفة The Financial Times البريطانية: "تحتاج العظمتان إلى نسيج رخو بينهما"، في إشارة إلى روسيا والناتو. وأضاف: "الثقل الجيوسياسي لكلٍّ منهما سيمزق أوكرانيا".
وإلى حين حدوث ذلك، تنبَّأ سوركوف باشتعال معركة لا تنتهي على أوكرانيا. وقال: "قد تخمد وقد تستعر، لكنَّها حتماً ستستمر".
وحذَّر نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، الخميس 9 ديسمبر/كانون الأول، من أنَّ أوكرانيا قد تصبح سيناريو لأزمة صواريخ كوبية جديدة.
وقد دعا بوتين في عام 2014 بعد ضم القرم لأول مرة إلى "يالطا جديدة"، في إشارة إلى الاتفاقية التي أُبرِمَت عند نهاية الحرب العالمية الثانية حين قسَّم قادة الحلفاء العالم إلى مجالات نفوذ. ويستمر المسؤولون في طرح الأمر كوسيلة لتجنُّب حرب جديدة.
ويتضمَّن السيناريو المثالي لروسيا أن تؤدي التسوية الجيوسياسية إلى استعادة نفوذها على أوكرانيا، أو على الأقل إجبار كييف على قبول الحياد.
4- روسيا الصغرى التي يجب أن تعود لروسيا الكبرى
يتحدث بوتين كثيراً عن "روسيا واحدة"، والتي تعني روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، أو عن "روسيا الكبرى" و"روسيا الصغرى"، بحيث تكون روسيا هي "الكبرى" وأوكرانيا هي "الصغرى". وجادل في عام 2009 بأنه "لا يجب السماح لأحد بالتدخل في العلاقات بيننا. لقد كانت (هذه العلاقة) دوماً من شأن روسيا نفسها".
تسلط هذه النظرة الضوء على الأصل المشترك بين كلٍّ من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا في دولة "كييف روس" في العصور الوسطى. ويزعج ادعاء بوتين بأنَّ الغرب قسَّم هؤلاء الأشقاء السلافيين شديدي الارتباط، الكثير من الأوكرانيين الذين يعتبرون ذلك حطَّاً من قدر الثورتين اللتين شهدتهما البلاد بعد الحقبة السوفيتية ضد الهيمنة الروسية.
وشبَّهت الأطروحة التي نشرها بوتين في الصيف تكوين دولة إثنية أوكرانية معادية لروسيا بـ"استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدنا".
وتُصوِّر موسكو الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا على أنَّهم يحتاجون حمايتها، فأصدرت جوازات سفر لأكثر من 500 ألف منهم في منطقتين انفصاليتين شرقي أوكرانيا تُشكِّلان معاً جزءاً من منطقة دونباس. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، نُقِل الآلاف منهم بالحافلات إلى روسيا للتصويت في الانتخابات البرلمانية.
وتمثل جوازات السفر ذريعة محتملة لتدخل عسكري من أجل "الدفاع" عن المواطنين الروس.
5- لا نريد أوكرانيا ديمقراطية مزدهرة
كابوس روسي أن تكون أوكرانيا ديمقراطية قوية مستقرة تميل إلى الغرب، يُحبَط فيها الفساد ويزدهر المجتمع المدني وتنجح الانتخابات.
فوجود ديمقراطية مزدهرة بالجوار قد يلهم الروس للتشكيك في نظامهم، الذي يمكن فيه سجن المرء من أجل إعادة تغريد أو إشارة احتجاج أو صحافة أو مسرحية هزلية كوميدية، وهو النظام الذي لا يخسر فيه بوتين السلطة أبداً.
لذلك يسخر مذيعو التلفزيون الرسمي الروسي من أوكرانيا باعتبارها دولة فاشلة مُقسَّمة وتخضع لنفوذ قوي من جانب "النازيين".
وكتب سوركوف الشهر الماضي في مقال نُشِرَ على أحد المواقع الموالية للكرملين أنَّ "تصدير الفوضى ليس جديداً"، وطرح ضم روسيا للقرم باعتباره "مثالاً حياً" لكيفية توحيد البلاد. وأضاف: "التقسيم مرادف للفوضى".
6- محاولة لإعادة بناء الإمبراطورية الروسية
كان أطول حاكم لروسيا، إيفان الثالث، يُدعى "جامع الأراضي الروسية" من خلال مضاعفته مساحة الإقليم الروسي أربعة أضعاف خلال سنوات حكمه الخمس والستين التي انتهت في مطلع القرن السادس عشر.
خسرت روسيا إمبراطوريتها السوفييتية قبل 30 عاماً. ويجادل محلل السياسة الخارجية الروسي فيودور لوكيانوف بأن روسيا قد مضت قدماً من حالة الضعف التي كانت عليها في التسعينيات، "لكنَّ عقلية الغرب لم تمضِ".
تلوح أوكرانيا في أفق هذه المعادلة. فكتب لوكيانوف في موقع Global Affairs الروسي أنَّ موسكو تعتقد أنَّه حان الوقت للتخلي عن فكرة أنَّ "البلدان بإمكانها اختيار تحالفاتها كما لو أنَّ ذلك ليس من شأن أي طرف آخر، وهو ما لم يكن جزءاً من الجغرافيا السياسة التقليدية قط". وأضاف: "هذا النهج لم يعد ناجحاً".
ترى روسيا الآن فرصة لتوسيع نفوذها، مُعتقِدةً أنَّ الولايات المتحدة بصفتها قوة تصيغ السياسة الدولية، في حالة تراجع.
وقد صرَّحت رئيسة وزراء إستونيا، كايا كالاس، في مؤتمر صحفي الخميس الماضي بالقول إنَّ بوتين يستخدم التهديدات العسكرية لـ"إجبار الناتو على اختيار مسارات محددة والرغبة في تقسيم أوروبا إلى مجالات نفوذ، وهو الأمر الأكثر إثارة للقلق".
وكتب سوركوف: "ستتمدد روسيا، ليس لأنَّها جيدة وليس لأنَّها سيئة، بل لأنَّ هذه هي الفيزياء".