انطلقت اليوم الخميس 9 ديسمبر/كانون الأول 2021 ما يُعرف بـ"قمة الديمقراطية" التي يستضيفها الرئيس الأمريكي جو بايدن على مدار يومين، ويشارك فيها زعماء دول ونشطاء من نحو 110 دول، وقد أثارت القمة التي تعقد افتراضياً بسبب ظروف جائحة كورونا انتقادات واسعة من قِبَل دول عديدة لم تتم دعوتها، واتهمت إدارة بايدن بانتقائية الدعوات وعدم استنادها على معايير واضحة.
ويبدو أن تجاذبات السياسة الخارجية الأمريكية انعكست على قائمة الدعوات التي وجهتها واشنطن لبعض الدول ومنعتها عن أخرى كالصين وروسيا والدول العربية الأخرى ما عدا العراق، الأمر الذي أثار انتقادات من قِبَل بعض الحكومات غير المدعوة، وفتح باب التساؤلات حول المعايير التي قرر بموجبها البيت الأبيض إقامة هذه القمة وتحديد من سيحضرها، والأهداف منها وكذلك سر توقيتها.
قمة الديمقراطية الخاصة ببايدن قد تأتي بنتائج عكسية
يقول ستيفان والت، الكاتب في مجلة Foreign Policy الأمريكية وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، إن أهداف القمة وتوقيتها غير واضحين. فهل يُفترض أن تخرج بنتائج ملموسة، مثل التزامات أو برامج جديدة بتأثيرٍ قابل للقياس على قوة الديمقراطية حول العالم؟ أم هل ستكون القمة مجرد مهرجانٍ حواري يتمخّض عن تصريحات براقة بدون جوهر؟ وهذه تساؤلات مهمة لأن التسويق للديمقراطية يأتي من خلال إظهار قدرة المجتمعات الديمقراطية على تقديم أداءٍ أفضل من بدائلها الاستبدادية – على حد تعبير بايدن نفسه.
ومع الأسف، ليست الولايات المتحدة في أفضل موقع لقيادة هذه الجهود الآن؛ إذ خفضت مؤسسة Economist Intelligence Unit البريطانية تصنيف الولايات المتحدة إلى فئة "الديمقراطية المعيبة" قبل انتخاب دونالد ترامب رئيساً، ولم يحدث ما يُغيّر تلك الحالة حتى الآن. بل على النقيض، ما يزال واحدٌ من أكبر حزبين داخل الولايات المتحدة يرفض قبول شرعية نتيجة انتخابات الرئاسة 2020، ويبذل جهودهاً مضاعفة لتقويض الأعراف الديمقراطية وتزوير الانتخابات المستقبلية لصالحه. وهذه ليست صورةً مثالية لمن يُحاول قيادة عملية الإحياء الديمقراطي.
علاوةً على أنّ قائمة المشاركين في المؤتمر تبدو تعسُّفيةً وغير متسقة، يقول والت، ويضيف: أتفهم مثلاً عدم دعوة المجر، في ظل اعتداء رئيس وزرائها فيكتور أوربان باستمرار على المبادئ الليبرالية. ولكن لماذا تمت دعوة جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تمتلك ديمقراطيةً أضعف من المجر على مقياس مؤسس Freedom House؟ وتقييم الكونغو في هذا الصدد منخفضٌ لدرجة أنّها تحمل تصنيف "دولة غير حُرّة". كما أنّ دعوة قادة، مثل الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو أو الفلبيني رودريغو دوتيرتي، تُثير الدهشة أيضاً: فكلاهما منتخبٌ ديمقراطياً لكنه يجاهر برفض الأعراف الديمقراطية الأساسية.
ويُسلّط المشروع إجمالاً الضوء على مشكلتين متكررتين في السياسة الخارجية الأمريكية: عدم القدرة على وضع أولويات واضحة والالتزام بها، إلى جانب الميل لتبنّي أهداف سامية ثم الفشل في تحقيقها. ويُمكن للقوى الكبرى بالطبع أن تُطارد أكثر من هدفٍ في وقتٍ واحد، لكن عليها الإقرار بالمقايضات بين تلك الأهداف وتحديد الأولويات. كما تحتاج القوى الكبرى إلى الحرص على عدم إثقال جُعبتها بالأهداف، لأنّ هناك تطورات غير متوقعة ستظهر دائماً لتستنزف الوقت والاهتمام والموارد.
ما هو هدف إدارة بايدن من هذه القمة؟
ما هو إذن مصدر القلق الأساسي بالنسبة لسياسة إدارة بايدن الخارجية؟ إذا كانت الإدارة ترى أنّ الخطر الرئيسي اليوم يتمثّل في "الاستبداد" بشكلٍ عام وتهديده لديمقراطيات العالم؛ فسيكون من المنطقي أن تجمع ديمقراطيات العالم في مكانٍ واحد لتشجيعها ووضع مبادرات مستقبلية. أما إذا كان الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان هو بوصلة السياسة الخارجية الأمريكية؛ فيجب على الإدارة أن تتوقف عن دعم الحكام المستبدين (في مصر والسعودية)، وأن تنأى بنفسها عن الدول التي تتخذ اتجاهات استبدادية (مثل المجر) أو الدول التي تُنكر الحقوق السياسية لملايين الناس بشكلٍ منهجي (مثل الصين وإسرائيل). وفي هذه الحالة ستكون قائمة المدعوين أصغر بكثير، لكنها ستحمل اتساقاً أيديولوجياً.
أما إذا كانت المشكلة المحورية اليوم تدور حول صعود الصين بحزمها المتزايد؛ فلن يتسنى لواشنطن انتقاء أصدقائها؛ لأننا في حال نظرنا هنا بعينٍ جيوستراتيجية، فسنجد أنّ الترحيب بأنغولا وتجاهل سنغافورة هي خطوةٌ قصيرة النظر بعض الشيء. وإذا كانت الشغل الشاغل للإدارة هو سياسات القوى العظمى؛ فإنّ التعبير عن تفضيلٍ قوي للديمقراطية قد يُقلل نفوذ الولايات المتحدة في بعض المناطق، مما سيمنح الصين فرصةً لاستمالة الدول التي لن تُعيد ترتيب أوراقها السياسية لمجرد إرضاء العم سام.
ولكن ماذا إذا كانت مشكلة الإدارة الأولى تدور حول أزمةٍ عالمية مثل تغيّر المناخ أو الجائحة؟ في هذه الحالة، ستتمثّل المهمة الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية في تعزيز التعاون مع كل الدول الممكنة بدلاً من تقسيم العالم إلى دول "خيّرة وأخرى شريرة" (أو دول ذات أنظمة سياسية تُشبه الولايات المتحدة مقابل دول لا تشبهها). وإذا كانت هذه هي أولوية بايدن فعلاً؛ فإنّ عقد قمةٍ تستبعد العديد من الدول المهمة والكبرى سيأتي بنتائج عكسية على الأرجح.
"القمة قد تعزز الانطباع بأنّ الديمقراطية نفسها لم تعُد صالحة لتحقيق غرضها"
يقول الكاتب الأمريكي في مجلة "فورين بوليسي": قد أكون متشائماً أكثر من اللازم. فربما يكون هذا الاجتماع عبر الإنترنت بمثابة الخطوة الأولى الضرورية لمساعدة الإدارة على تطوير وتطبيق برنامج أكثر فاعلية لدعم الديمقراطيات في السنوات المقبلة. وآمل أن يحدث هذا بالطبع باعتباري شخصاً يعيش في مجتمعٍ ليبرالي، ويشعر بالقلق إزاء زواله المحتمل.
لكن يظل هناك مصدر خطرٍ أخير يتمثّل في التالي: إذا فشلت القمة والقمم التالية في تحقيق نتائج حقيقية؛ فسوف تُعزز الانطباع بأنّ الديمقراطية نفسها لم تعُد صالحة لتحقيق غرضها. ولا أعتقد أنّ هذا هو واقع الأمور بالطبع، ولكنك ستتفهّم سبب هذا الاعتقاد لدى البعض بالنظر إلى الإخفاقات المتكررة، والفساد المستشري، وقلة المساءلة التي شهدتها العديد من الأنظمة الديمقراطية على مدار الـ20 عاماً الماضية.
ولا يمكنني تجاوز الخوف القائم من أنّ تكون قمة الأسبوع الجاري مجرد إلهاءٍ غير ضروري؛ إذ إنّ الطريقة المثلى لحل مشكلات الولايات المتحدة -الخطيرة- هي من خلال تقديم نتائج ملموسة للناخبين. كما أنّها أفضل طريقة لإكساب الديمقراطية قبولاً لدى المواطنين في أماكن أخرى، وتشجيعهم على أن يرغبوا في نظامٍ مماثل لأنفسهم. وفي صميم نفسي، أشك في أنّ غالبية الأمريكيين الذين سيدلون بأصواتهم في الانتخابات المقبلة تُهمهم قضايا الوظائف وكوفيد-19 والأمن الاقتصادي والتعليم أكثر من مسألة تراجع الفساد في ملاوي أو باكستان.
وفي حال فشلت إدارة بايدن في تحقيق نتائج داخل الولايات المتحدة -وقد أثبت الحزب الجمهوري أنّه سيفعل كل ما بوسعه لمنع بايدن من تحسين حياة الأمريكيين-؛ فلن يكون بايدن رئيساً سوى لفترةٍ واحدة فقط. وسيحل محله ترامب أو نسخةٌ منه. ولو حدث ذلك، فسوف تتوقّف جهود تنشيط الديمقراطية تماماً، وسوف ننظر إلى هذه القمة في المستقبل باعتبارها إهداراً حسن النية -ومُضلّلاً- للوقت.