في الوقت الذي تتعاظم فيه مخاوف الدَّين بسبب ظهور متحور جديد من فيروس كورونا، يبدو أن الصين تعدل نهجها الذي تتبعه في التعامل مع إفريقيا: خفض التعهدات المالية، وفي الوقت ذاته مضاعفة الرهان على دبلوماسية اللقاحات.
الزعيم الصيني، شي جين بينغ، افتتح في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، منتدى التعاون الصيني الإفريقي بتعهدٍ بإمداد مليار لقاح إلى إفريقيا، في خضم مخاوف عالمية حول ظهور متحور أوميكرون. وتعهد بتقديم 40 مليار دولار إلى القارة، تتنوع بين خطوط ائتمان واستثمارات، وهو خفض كبير في المبلغ الذي تعهد به خلال القمتين السابقتين، البالغ 60 مليار دولار، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
يقول المحللون إن التحول في النهج يدل على أن بكين تعيد النظر في استراتيجيتها الشاملة بشأن القارة، في وقت يشهد حالة صحية طارئة بسبب كوفيد ويشهد منافسة بين القوى العظمى.
اللقاح بدلاً من التمويل المالي
وتقول الأستاذة المساعدة في السياسة والشؤون الدولية لدى جامعة ويك فورست في ولاية نورث كارولاينا، لينا بن عبد الله: "بطريقة ما، لا يشكل خفض التعهد المالي من جانب شي مفاجأة، لأننا شهدنا بالفعل إشارات في العامين الماضيين. دخلت الصين مرحلة حذر كبير فيما يتعلق بإفريقيا. بعد عقدين من التمويلات الحكومية الكثيفة، تبدأ في سحب المكابح".
يلفت كارلوس لوبيز، الأستاذ لدى مدرسة نيلسون مانديلا للحوكمة العامة بجامعة كيب تاون، إلى أن هذا الحذر ينبع جانبٌ منه من الرواية التي يحوزها الغرب منذ عهد طويل، التي تتعلق بفخ الديْن المزعوم الذي تنصبه الصين واستغلالها الأفارقة من أجل استغلال الموارد الطبيعية وتصدير بضائعهم الرخيصة.
قال لوبيز إن الصين "حساسة تجاه النقد وتستجيب له عن طريق تطبيق أدوات يعلمون أنها سوف تُسرُّ الآراء السلبية الراسخة الناتجة من التعامل السابق، وتشوشها… إننا نشهد تغيراً نحو نهج أكثر تكنوقراطية، وأكثر حذراً بكل وضوح، ويستخدم المشروطية اللينة ويخلق أدوات جديدة لإحكام السيطرة على التدفقات".
التفوق الأخلاقي
تتضمن المليارات التي تعهد بها الرئيس الصيني 600 مليون دولار في صورة تبرعات و400 مليون دولار سوف تُنتج محلياً، وقد سُلمت بالفعل بجانب 200 مليون دولار إلى الدول الإفريقية بموجب التعهدات السابقة. يقول شي إن الصين سوف ترسل كذلك 1500 خبير صحي إلى إفريقيا للمساعدة.
جاءت كلمات شي في وقت تواجه فيه دبلوماسية اللقاحات الخاصة بالصين تدقيقاً شديداً. ومع ذلك، يقول كارلوس أويا، الخبير في العلاقات الصينية الإفريقية لدى جامعة لندن، إنه إذا كان إرسال اللقاحات إلى إفريقيا يسهم حقاً في الإنهاء التدريجي للجائحة حول العالم، فيمكن أن يجسد هذا إنجازاً مهماً.
وأضاف أنه "على الأرجح يمنح زخماً لرواية تقول إن الصين أسهمت لإنهاء الجائحة خارج حدودها".
يقول كريس ألدن، مدير المؤسسة الفكرية LSE Ideas، إنه مع هذا الإعلان، يمكن أن تأمل الصين أن تكون في موقع تحتل فيه منصة التفوق الأخلاقي عن طريق معالجة أزمة حادة تشهدها منطقة نامية أخرى، وفي الوقت ذاته تعرض قدرتها على إنتاج وتسليم لقاحات في أنحاء إفريقيا.
ويضيف: "هذه المنافع العامة العالمية سوف تفتح في الوقت ذاته مزيداً من فرص السوق أمام شركات الأدوية الصينية، وبروح القول المأثور المستحضر في كثير من الأحيان: "أن نبلي بلاء حسناً ونفعل ذلك بإحسان"".
لكن النقاد يجادلون بأن تأكيد شي على إرسال اللقاحات إلى إفريقيا ليس بالشيء الجديد. ففي أواخر شهر فبراير/شباط، تعهدت الصين بتقديم لقاحات إلى 19 دولة إفريقية. وحتى الآن، تتلقى 46 دولة إفريقية لقاحات من الصين. ومن بين الـ 155 مليون جرعة التي تعهدت الصين بإرسالها حتى الآن، نجحت في تسليم 107 ملايين جرعة، كان 16 مليون جرعة منها في صورة تبرعات، وذلك حسبما أفاد موقع Bridge Beijing لتتبع اللقاحات.
ضرورة لا يمكنها الانتظار
يبدو أن انتشار متحور أوميكرون -الذي اكتُشف لأول مرة عن طريق علماء من جنوب إفريقيا حذروا العالم فور اكتشافه- يسلط الضوء على الفجوات الصارخة في معدلات التلقيح. فحوالي 11% من سكان القارة الإفريقية حصلوا على جرعة واحدة على الأقل، بينما حصل 7% فقط على كامل الجرعات. وعلى النقيض من ذلك، حصل 32% من سكان المملكة المتحدة ممن تتجاوز أعمارهم 12 عاماً، على جرعتهم الثالثة من اللقاح.
يقول البروفيسور جويل نيجين، رئيس مدرسة الصحة العامة في جامعة سيدني: "كان هناك كثير من الكلمات الرائعة من جانب عديد من القادة، لكن التسليم الفعلي للقاحات لم يستوف الوعود التي قُطعت… عن طريق كوفاكس والولايات المتحدة وأستراليا".
حصلت كوفاكس على تعهدات بتوفير حوالي 5.59 مليار جرعة من الحكومات المتنوعة، لكنها سلمت 585 مليون جرعة فقط. وتعهدت أستراليا بحوالي 60 مليون جرعة إلى البلاد الأخرى، لكنها سلمت حوالي 9 ملايين فقط، وذلك حسبما أوضح نيجين.
وأضاف: "نرى الآن أن هناك ضرورة لا يمكنها الانتظار".
أزمة عدالة التلقيح
طالما حذرت الهيئات الصحية وخبراء الصحة من أن ترك البلاد النامية بمعدلات تقليح أقل، زاد من خطورة ظهور متحور جديد يهدد العالم بأسره. لكن التوزيع غير المتساوي للقاحات كان شاهداً على ترك مناطق كاملة مثل إفريقيا بلا أي تقليح تقريباً، بينما تبدأ الدول الغنية في توزيع جرعات تعزيزية. وأشار تحليل حديث إلى أن ثلثي الأشخاص في الدول ذات الدخول المرتفعة حصلوا على الجرعات الكاملة من اللقاح، مقارنة بـ 2.5% من سكان البلاد ذات الدخول المنخفضة.
يقول نيجين إن ثمة سببين لهذا العجز، بما في ذلك ضعف الطاقة الإنتاجية خارج قليل من الدول.
ويضيف: "قضينا سنتين، وكان يجب علينا إنشاء أنظمة والاستثمار في الطاقة الإنتاجية في جنوب شرق آسيا، والجنوب الإفريقي، من أجل إنتاج لقاحات الحمض النووي الريبوزي. لا يمكن إتمام الأمر بين عشية وضحاها، ولكن يجب علينا البدء في إنشاء هذه الإمكانات".
ويتابع قائلاً إن التأجيل أُعزي جانب منه إلى الرفض المتواصل من جانب الحكومات لإصدار تنازلات عن الحقوق الفكرية الخاصة باللقاحات، وهو شيء دعمه الرئيس الأمريكي جو بايدن ونادى به كذلك الرئيس شي في خطابه.
قال شي: "نحتاج أن نضع البشر وحياتهم أولاً، وأن نسترشد بالعلم، وندعم التنازل عن حقوق الملكية الفكرية على لقاحات كوفيد-19، ونضمن حقاً القدرة على الوصول إلى اللقاحات والقدرة على تحمل تكلفتها في إفريقيا كي نسد الفجوة التحصينية".
صحيحٌ أن الصين سلمت عدداً من اللقاحات إلى إفريقيا أقل مما سلمته إلى مناطق العالم الأخرى، لكنها أبدت التزاماً أكثر من الجهات المانحة الثنائية ومن مبادرة كوفاكس، وذلك حسبما تقول ليا لينتش، نائبة مدير شركة Development Reimagined لاستشارات التنمية الدولية.
وتوضح أن الجزء الرئيسي من خطاب شي لم يكن بشأن تبرعات الـ 600 مليون دولار أو الـ 400 مليون دولار القادمة من الإنتاجات المشتركة. وتضيف أن هذه "مبادرة مدفوعة بالطلب جاءت من إفريقيا. إنهم يريدون أن يكونوا قادرين على إنتاج اللقاح بأنفسهم".
توصلت مصر بالفعل إلى اتفاق لإنتاج لقاح سينوفاك، بينما سوف تنتج السنغال لقاح سينوفارم، وكان هناك 14 شركة أدوية صينية أخرى مشاركة في الإنتاج أو الاستثمار داخل إفريقيا، وذلك حسبما تقول ليا.
وتضيف: "إنه في النهاية يتعلق بالاكتفاء الذاتي".