أصبح احتمال إقدام روسيا على غزو أوكرانيا حديث الساعة حول العالم، ولم تنجح قمة بوتين وبايدن في نزع فتيل القنبلة التي تهدد أوروبا، وتتردد "اتفاقيات مينسك" طوال الوقت، فما بنودها وقصتها وهل تطبيقها ينهي الأزمة فعلا؟
إذ حشدت روسيا أكثر من 175 ألفاً من قواتها العسكرية على طول حدودها مع أوكرانيا وتستعد للغزو العسكري خلال أسابيع، بحسب التقارير الغربية، بينما تنفي موسكو نيتها في الغزو وتلقي باللوم على الغرب في التصعيد الحاصل حالياً.
وعلى الرغم من أن الموقف الآن على الحدود الروسية-الأوكرانية يشبه إلى حد كبير الأجواء التي سبقت اجتياح الجيش الروسي شبه جزيرة القرم الأوكرانية ثم ضمتها روسيا لاحقاً عام 2014، إلا أن جذور الأزمة الأوكرانية تعود إلى انهيار الاتحاد السوفييتي واستقلال أوكرانيا نفسها.
وبعد أن أجرى الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الروسي اتصالاً عبر الفيديو الثلاثاء 7 ديسمبر/كانون الأول استمر ساعتين لمناقشة السبل المتاحة لنزع فتيل الأزمة الأوكرانية وتجنيب أوروبا والعالم تبعات الحرب، أصدرت الأمم المتحدة بياناً طالبت فيه جميع الأطراف بالالتزام باتفاقيات "مينسك" الخاصة بالأزمة الأوكرانية.
اتفاقية مينسك الأولى
وقبل أن نعود إلى جذور الأزمة الأوكرانية، دعونا نبدأ القصة من "اتفاقية مينسك" الأولى وبنودها وأطرافها والهدف منها وهل تحقق الهدف أم لا.
تم توقيع اتفاقية مينسك الأولى بشأن النزاع في أوكرانيا في سبتمبر/أيلول 2014 بين طرفي النزاع، وهما الحكومة الأوكرانية والانفصاليون في الأقاليم الشرقية المتاخمة للحدود الروسية والمدعومون من موسكو.
ومينسك هي عاصمة جمهورية روسيا البيضاء، واستضافت المفاوضات بين طرفي النزاع إضافة إلى روسيا ومنظمة الأمن والتعاون التابعة للاتحاد الأوروبي، واتفق الأطراف على وقف القتال وعقد هدنة وإبرام السلام. وبالفعل تم التوقيع على اتفاقية "مينسك1″، التي اشتملت على 12 بنداً أبرزها تبادل الأسرى (بين القوات النظامية الأوكرانية والقوات الانفصالية) والسماح بوصول المساعدات الإنسانية للمدنيين في مناطق الصراع، وسحب القوات الانفصالية أسلحتها الثقيلة من خطوط المواجهة مع القوات الحكومية، مع استمرار المفاوضات للوصول إلى حل سلمي للصراع.
لكن هذه الاتفاقية لم تصمد سوى 5 أشهر فقط، في ظل اختراقات مستمرة لجانبي الصراع لبنودها، بحسب تقرير لرويترز، وبالتالي سرعان ما اندلعت الصراعات مرة أخرى، وهو ما تسبب في مقتل أكثر من 2600 شخص وقتها. هذا الرقم ارتفع الآن إلى أكثر من 14 ألف قتيل، بحسب بيانات الحكومة الأوكرانية.
اتفاقية مينسك الثانية
في أعقاب الاتصال المرئي بين بوتين وبايدن، أكدت الأمم المتحدة أهمية تسوية الأزمة الأوكرانية على أساس اتفاقيات مينسك، وقالت في بيان: "لقد أخذنا في الاعتبار التقارير الخاصة بالمحادثات عبر الفيديو بين رئيسي روسيا والولايات المتحدة؛ إذ ندرك أن الطرفين ناقشا مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك أوكرانيا.. ندعو جميع الأطراف المعنية للالتزام بحل الخلافات عبر الحوار على جميع المستويات وتهدئة التوترات والحفاظ على السلام الاقليمي".
وفي بيانها، ذكّرت الأمم المتحدة جميع اللاعبين "بمسؤوليتهم عن تحقيق تسوية سلمية للنزاع وفقاً لاتفاقيات مينسك، التي دعمها قرار رقم 2202 لمجلس الأمن الدولي للعام 2015."
كما أكد مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف أن بوتين أشار خلال اتصاله مع بايدن إلى خطوات أوكرانيا لنسف "اتفاقيات مينسك".
وتشير هذه التصريحات إلى اتفاقية مينسك2، التي تم توقيعها أيضاً في عاصمة روسيا البيضاء وبحضور ذات الأطراف التي وقعت على اتفاقية مينسك1، لكن الجديد هنا هو أن أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية السابقةـ وفرانسوا هولاند الرئيس الفرنسي السابق تدخلا مباشرة في الأمر، وأجريا مفاوضات مع بوتين أدت في نهاية المطاف إلى اتفاقية مينسك2.
واشتملت مينسك2 على 13 بنداً، اعتبرت مجتمعة بمثابة خريطة طريق لحل النزاع الأوكراني بصورة شاملة. البند الأول فيها هو وقف فوري لإطلاق النار من الجانبين وتبادل الأسرى بين الانفصاليين والقوات الحكومية، وأن تشرف منظمة الأمن والتعاون في الاتحاد الأوروبي على تسليم الانفصاليين أسلحتهم من الخطوط الأمامية.
ومن بنودها أيضاً أن تصدر الحكومة الأوكرانية عفواً شاملاً عن العسكريين (الذين انضموا للانفصاليين) وعن المقاتلين الانفصاليين جميعاً، والتمهيد لإجراء انتخابات عامة في البلاد.
كما تضمنت الاتفاقية بنداً خاصاً بضمان تسليم المساعدات الانسانية بشكل آمن، والعمل على إعادة الاندماج الوطني والاجتماعي والاقتصادي بين جميع الفئات في أوكرانيا، وبصفة خاصة في الأقاليم الشرقية التي سيطر عليها الانفصاليون.
وتعهدت أوكرانيا، بموجب بنود اتفاقية مينسك2، بتنفيذ تغييرات دستورية تنص على "اللامركزية" في البلاد وتطبيق النظام الفيدرالي، وفي المقابل يتم انسحاب جميع "التشكيلات المسلحة الأجنبية"، واستعادة النظام الأوكراني السيطرة على الحدود الشرقية، في إشارة إلى الدعم الروسي للانفصاليين.
وفي فبراير/شباط 2015، وقع قادة فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا على اتفاقية مينسك2 في روسيا البيضاء، وتم عرض الاتفاقية على مجلس الأمن الدولي، الذي أقرها وأصدر قراراً بحل الصراع في أوكرانيا على هذا الأساس.
قصة الأزمة الأوكرانية من بدايتها
قبل الإجابة عن هذا السؤال، والوقوف عند أسباب ذلك الفشل ومن ثم استمرار الأزمة في أوكرانيا ووصولها إلى حافة الانفجار مرة أخرى، من المهم العودة لجذور الصراع، وكيف بدأ؟ ولماذا؟
كانت أوكرانيا عضواً مؤسساً مع روسيا في الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت مقراً لثلث الأسلحة النووية السوفييتية وقوة كبيرة في حلف وارسو (الحلف العسكري الشرقي). وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، بعد إجراء استفتاء لمواطنيها للاختيار بين البقاء ضمن الاتحاد الروسي (روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا) أو الاستقلال كأمة أوكرانية، وصوّت 90% من السكان لصالح الاستقلال.
وفي عام 2004، اندلعت ثورة البرتقال في أوكرانيا، وأطاحت بالرئيس يانكوفيتش لصالح يوشتشنكو (الأول أقرب لروسيا والثاني أقرب إلى الغرب). وبدأت مرحلة جديدة من التقارب في العلاقات بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
لكن انتخابات 2010 أعادت يانكوفيتش إلى رئاسة أوكرانيا، وبدأ يتخذ إجراءات لوقف التعاون مع الاتحاد الأوروبي، في ظل وجود انقسام واضح داخل أوكرانيا بشأن مستقبل البلاد بين فريقين، الأول يميل إلى الغرب ويريد الانضمام لحلف الناتو وقاعدته الرئيسية في الأقاليم الغربية من البلاد، والثاني يريد التقارب مع روسيا والانضمام لها رسمياً وقاعدته في الأقاليم الشرقية التي يتحدث أغلب سكانها اللغة الروسية كلغة أولى.
ومطلع عام 2014 اندلعت ثورة ضد الرئيس يانكوفيتش، على غرار ثورة البرتقال التي كانت أيضاً داعمة للتقارب مع الغرب، لكن الرئيس وقوات الأمن الأوكرانية استخدمت العنف- عكس ما حدث في ثورة البرتقال- فسقط نحو 100 قتيل برصاص قناصة تابعين للأمن الأوكراني، وفي النهاية هرب يانكوفيتش من العاصمة كييف واتجه نحو الشرق.
وتولى زعماء المعارضة الحكم خلفاً ليانكوفيتش وأصدروا أوامر باعتقاله ومحاكمته بتهمة قتل المتظاهرين، لكن موسكو اعتبرت السلطة الجديدة في كييف "تمرداً مسلحاً" واستدعت سفيرها للتشاور. في المقابل، وجدت السلطة الجديدة في كييف دعماً متواصلاً من أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
وأعلنت الأقاليم الشرقية في أوكرانيا عدم اعترافها بالحكومة المركزية في كييف، ومن تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس وغيرهما. واشتد القتال في تلك الأقاليم بين القوات الحكومية الأوكرانية من جهة والقوات الانفصالية من جهة أخرى. وأعلنت حكومة إقليم القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان جمهورية القرم المستقلة.
ووجّه حاكم القرم رسالة رسمية إلى روسيا طالباً الانضمام إلى موسكو، ودخلت القوات الروسية إلى الإقليم وأعلنت ضمه رسمياً إليها في 2014، مما أدى إلى فرض عقوبات على موسكو من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، لكن ذلك لم يوقف الدعم الروسي للانفصاليين في الأقاليم الشرقية الأخرى، وهكذا تم التوصل إلى اتفاقيات مينسك1 ثم مينسك2.
لماذا لم تنجح "مينسك" في حل أزمة أوكرانيا؟
إذا كانت اتفاقية مينسك2 موقعة منذ عام 2015، فلماذا إذن لا تزال أزمة أوكرانيا قائمة؟ يرى كثير من المراقبين أن الإجابة عن هذا السؤال تنقسم إلى شقين: الأول يتعلق باتفاقية مينسك نفسها، كونها فضفاضة ولا تنص على إجراءات محددة وإلزامية لابد على طرفي النزاع من الالتزام بها وصولاً إلى حل وسط دون إراقة الدماء.
فعلى الرغم من التزام المسؤولين من الطرفين بالاتفاق ظاهرياً، وترديدهم أنه "لا بديل عن اتفاق مينسك"، إلا أنه لا توجد فرص حقيقية لتنفيذ الاتفاقية بالكامل على أرض الواقع، حتى بعد فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا.
فالجانب الأوروبي تراجع عن تمسّكه بالعقوبات على روسيا مع مرور الوقت، وفى حين يصر الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا على وقف كامل لإطلاق النار من جانب الانفصاليين المدعومين من روسيا قبل المضي قدماً في تنفيذ الاتفاقية، تتهم روسيا بدورها أوكرانيا بعدم الوفاء بوعودها السياسية المنصوص عليها في مينسك2.
أما الشق الثاني فيتعلق بإصرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التمسّك بمصالح روسيا الاستراتيجية في القرم وباقي الأقاليم الشرقية من أوكرانيا، ومنها دونباس مسرح المواجهة المحتملة القادمة.
كما أن القوات الانفصالية الأوكرانية تسيطر بالفعل على مناطق كثيرة في الأقاليم الشرقية، مما يجعل المشهد الحالي في الأزمة الأوكرانية يصب في صالح روسيا؛ حيث إن الحركة الانفصالية بأوكرانيا موالية لموسكو، وبالتالي فإن السيطرة على تلك الأراضي الأوكرانية تضمن لروسيا تواجد منطقة عازلة بينها وبين أوروبا الغربية.
ولا شك أن هذا المشهد على الأراضي الأوكرانية يمثل ورقة ضغط قوية بين أيدي الدب الروسي كي يحصل على ما يريده من الأمريكيين وحلف الناتو، وهو ضمانات قانونية مكتوبة تؤكد أن الحلف لن يضم أوكرانيا إلى عضويته في المستقبل، كما لن ينقل الحلف أياً من أنظمته الدفاعية أو الهجومية إلى الأراضي الأوكرانية، وهو ما يمثل الخط الأحمر الذي يتمسك به بوتين الآن.