"خطف للأطفال من ذويهم وإجبار النساء على التعقيم والإجهاض"، ما زال العالم يتعامل بتهاون مع جرائم الصين بحق الإيغور، متجاهلاً أن هذه الجرائم البشعة، قد تنتقل يوماً إلى دول أخرى، وأنها قد لا تقتصر على الإيغور، ولكن تاريخ ألمانيا تحديداً أن جرائم الإبادة تبدأ في مناطق نائية ثم سرعان ما تتوسع حدودها.
فبين عامي 1904 و1908، ارتكبت ألمانيا الإمبراطورية ما بات يُطلق عليه اليوم "إبادة جماعية" لشعبي الهيريرو وناما في مستعمراتها في جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا حالياً)، حتى كادت تُهلكهم عن بكْرة أبيهم.
ولم يكن ذلك أفظع جرائم أوروبا في إفريقيا؛ ففي زمن مقارب من ذلك، دمَّرت الإمبراطورية البلجيكية المنطقةَ التي تُعرف اليوم بجمهورية الكونغو الديمقراطية، وارتكب البلجيكيون جرائم التعذيب والقتل والإماتة جوعاً بحق ما يصل إلى 10 ملايين شخص.
غير أن إبادة ما بين 34 ألفاً إلى 110 آلاف شخص في جنوب غرب إفريقيا تبيَّن بعد ذلك أنها كانت مقدمة لفيض من الفظائع المماثلة في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى أهوال الحرب العالمية الثانية، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
تقول المجلة الأمريكية الآن، وكما وقع في السابق، تعمد قوة صاعدة بارزة، مع سبق الإصرار وبلا أدنى شعور بالخجل، إلى ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في ما تعتبره محيط إمبراطوريتها.
فمنذ عام 2014، ارتكب الحزب الشيوعي الصيني جرائم السجن التعسفي والاستعباد وحتى تعقيم مئات الآلاف من الإيغور في إقليم شينجيانغ. وإن تقصيَ الإبادة الجماعية الأولى، وكيف وقعت، قد يعزِّز من فهمنا للثانية، وللأنماط الاستعمارية الآخذة في الهيمنة على تصرفات الصين وسلوكها حيال ما تعتبره محيطها الإمبراطوري.
الأمر بدأ بمقاومة التمييز والهيمنة
في كلتا الحالتين، تبدأ القصة بالحرج والغضب. وكما توضح المؤرخة الأمريكية إيزابيل هل في كتابها الذي يعد أساسياً في سياق الحديث عن الإبادة الجماعية في جنوب إفريقيا وعلاقتها بالثقافة العسكرية الألمانية في ذلك الوقت: South West Africa genocides, Absolute Destruction: Military Culture and the Practices of War in Imperial Germany، فإن الأمور بدأت مع انتفاضة الهيريرو في عام 1903 بعد أن ضاقوا ذرعاً بالدونية الاجتماعية القسرية التي سلَّطتها الإمبراطورية الألمانية عليهم وانتهاكات المستوطنين (المحتلين) الألمان التي لا تنقطع.
وعلى الرغم من عجزهم عن طرد الألمان من بلادهم طرداً تاماً آنذاك، فإنهم نجحوا في التخلص لفترة وجيزة من السلطة الألمانية وقتلوا ما يقرب من 158 ألمانياً في الأسابيع القليلة الأولى من انتفاضتهم. وكان جميع القتلى، باستثناء خمسة منهم، رجالاً بالغين، ولم يكن بينهم أي أطفال.
ثم المبالغة في تصوير هذه المقاومة كما حدث مع الإيغور
ومع ذلك، فإن الصحافة الألمانية- بدافعٍ من اختلاق الحقائق الخاصة بها لاستنفار الجيش والحكومة الألمانية التي بدت صامتة- أمعنت في صياغة حكايات مروعة عن فظائع لا تُوصف ضد النساء والأطفال البيض، وحضَّت الجمهور الألماني الغاضب على رد فعل فوري وحاسم. ولم يلبث الجيش الألماني كثيراً حتى حقَّق لهم مبتغاهم.
بعدها بنحو قرن من الزمان، من عام 2009 إلى عام 2014، ارتكز الجمهور الصيني إلى سلسلة مما وصفه بأعمال الشغب والقتل لأفراد من الإيغور لشن حملة انتقامية شديدة الشبه بسابقتها التي ارتكبتها الإمبراطورية الألمانية. والواقع أن عرقية الهان الصينيين هي الغالبية العظمى في الدولة الصينية ككل، إلا أنهم أقلية في شينجيانغ، لكنهم أقلية مُهيمنة، تستند إلى قوة استعمارية بكامل عدتها وعتادها من وارئهم.
الدافع الأولي كان أعمال شعب الإيغور التي قتلت ما لا يقل عن 140 شخصاً، معظمهم من عرقية الهان. واضطرت الحكومة الصينية إلى الاعتراف بوقوع أعمال عنف في أورومتشي (ئۈرۈمجى بالإيغورية)، عاصمة إقليم شينجيانغ، لكنها بذلت قصارى جهدها للتستر على بقية الاشتباكات في بقية أنحاء شينجيانغ، والانتقام الوحشي الذي اقترفته الشرطة الصينية وجرائم قتل الإيغور على يد الهان.
على مدى السنوات القليلة التالية، حاول المسؤولون الصينيون إخفاء حجم الصراع القائم، لكن هجوم كونمينغ الذي ألقت به الحكومة باللائمة على متطرفين من شينجيانغ كان القشة الأخيرة، وبعدها انتشرت التقارير التحريضية ذات النزعة العنصرية على وسائل التواصل الاجتماعي على نحو أسرع من قدرة رقباء الحزب ومسؤوليه على إزالتها. ووقع الحزب الشيوعي الصيني في حرج علني، وكان الرد- مثل ألمانيا الإمبراطورية- بالعنف الجماعي.
مع وجود جيش متعصب غير خاضع للسيطرة المدنية
في كلا البلدين، أسهمت أسباب هيكلية في السير نحو الإبادة الجماعية. كان السبب الهيكلي الرئيسي في الإبادة الأولى هو الانفصال شبه الكامل للجيش الإمبراطوري الألماني عن أي سيطرة مدنية. فعندما صاغ أوتو فون بسمارك، مؤسِّس الإمبراطورية الألمانية، دستورها، حدَّ فيه بشدة من السلطة البرلمانية على الميزانيات العسكرية ومنح القيصر السيطرة المطلقة على التعيينات الدبلوماسية والعسكرية. واعتمد الترقي المهني للضابط العسكري اعتماداً كاملاً على إرضائه للتسلسل الهرمي الصارم فوقه، وليس قدرته على الصمود في مواجهة مساءلة أو حتى جلسة استماع برلمانية على سبيل المثال.
هذه الأورام الخبيثة، أكثر من أي شيء آخر، أشد وضوحاً في هيكلية الحزب الشيوعي الصيني وطريقة عمله. فهو حزب ماركسي لينيني، تُديره طليعة ثورية عسكرية، تأبى الاستماع لأي سلطة خارجة عنه.
ويقدم هذا الحزب نفسه على أنه الوصي الأعلى والمطلق على الأمة الصينية. وفي شينجيانغ ذاتها، كان كيان شبه عسكري خاضع للسيطرة الحزبية، شركة شينجيانغ للبناء والمقاولات "البينغتوان"، هو المسيطر بالفعل على مفاصل بارزة من اقتصاد الإقليم.
ثم استبدال القيادة التي ينظر لها على أنها غير قاسية بما يكفي
وفي كلتا الحالتين، تطلبت الإبادة الجماعية تغييراً في القيادة المحلية: واستُعيض عن اليد الهادئة لقائدٍ إداري تصالحي نسبياً بقبضة حديدية لشخصية عسكرية لا تعرف الرحمة، حسب المجلة الأمريكية.
فقد استبعد القيصر الألماني حاكمَ المستعمرات الذي كان على استعداد لتحقيق سلام تفاوضي مع السكان الأفارقة، ولجأت برلين إلى اللفتنانت جنرال لوثار فون تروثا، المتعصب المتشدد لشن هجوم كاسح.
وبالمثل، سرعان ما سئم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، من سكرتير الحزب في شينجيانغ، الذي قال معلقون صينيون بارزون إنه كان "متهاوناً في منهج حكمه لشينجيانغ"، ليُعزَل ويحل مكانه تشين تشوانغو، الذي سبق أن قاد حملات القمع الحزبية للتبت في أعقاب الاحتجاجات الشعبية في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
جرائم الصين بحق الإيغور تهدف لمحو وجودهم كعرقية
ربما يقول بعض المراقبين إن الإبادة الجماعية ليست هي الهدف الموضوع على جدول الأعمال في شينجيانغ بعد، لكن ذلك لا ينتقص شيئاً من واقع أن مدى الأحداث الراهنة ونطاقها لا يزال كارثياً. فقد أمر تشين، بدعمٍ من رئيس البلاد، مرؤوسيه بـ"تجميع كل من يجب القبض عليهم" ووسَّع معسكرات الاعتقال والسجون. ووضع نظام الشرطة في الصين حصصاً دورية منتظمة لمداهمات الاعتقال والسجن، وحتى تلك تشتد وطأتها بحدة خلال حملات القمع. وهكذا، يُعتقل الإيغور بلا جريرة أو سبب سوى استباق أي تحرك ممن تعتبرهم الحكومة هدفها. وتعمد السلطات الصينية إلى تشتيت العائلات الإيغورية الممتدة دورياً وإرسال أفرادها إلى سجون عنيفة وقاسية إذا طرأ لديها أن فرداً واحداً من العائلة أبدى ميولاً غير مريحة لها ولو بقدر ما.
في غضون ذلك، فإن حتى الإيغور الذين لم تلق بهم الأقدار في غياهب السجون يُمنعون من التحدث بلغتهم أو ممارسة دينهم، بل الواقع أن الإيغور يُجبرون إجباراً مباشراً ومنهجياً على إثبات تخليهم عن الإسلام، عن طريق تناول لحم الخنزير وتعاطي الكحول والتبغ، والاستنكار العلني لمبادئ الإسلام الرئيسية. ويأتي الشعراء والمثقفون والكتاب الإيغور على رأس قائمة المستهدفين بمحاكم التفتيش تلك.
إبادة ثقافية وصلت إلى حد التعقيم الإجباري
ويزعم بعضهم أن الدولة الحزبية الصينية ليست معنية، على ما يبدو، بالإبادة الجسدية، ومع ذلك فإنها منشغلة بتدمير ثقافة الإيغور وإبادة شعب الإيغور بوسائل أشد فتكاً. فالإيغور يتعرضون للتعقيم منهجياً، ودون موافقة منهم، أو تُجبر نساؤهم على الإجهاض. ويبدو أن الهدف هو الإبقاء على خصوبة الإيغور أقل من خصوبة الهان الصينيين على نحو مستدام، بحيث تتوثق هيمنة الهان على شينجيانغ إلى الأبد. ولتعجيل الأمور أكثر، عادةً ما يُسلَّم أطفال الإيغور المحتجزين إلى دور الأيتام والعائلات الحاضنة لدمجهم قسرياً في ثقافة الهان.
وفي كلتا عمليتي الإبادة الجماعية، ثبت أن انكشاف الأمور للرأي العام ربما يكون الكابح الوحيد. فمع تصاعد الانتقادات الأجنبية للإبادة الجماعية للإيغور، يبدو أن الحزب الشيوعي الصيني بدأ العمل تدريجياً على كبح جماح فظائعه، ومع ذلك فإن الإحراج كان دافعاً كافياً للحزب الشيوعي الصيني للحدِّ من الوتيرة المتصاعدة لجرائمه ضد الإنسانية، لكن ليس لدرجة إنهائها أو التوقف عنها.
وبالمثل، أدى انكشاف الفظائع الألمانية في جنوب غرب إفريقيا للرأي العام إلى خفوت حدة الضراوة الألمانية في قمعها للسكان شيئاً فشيئاً. وأثار تبني الحاكم الألماني للمستعمرات للإبادة الجماعية علناً رعبَ الحكومة المدنية الألمانية، ما دفع المستشار الألماني إلى إلغاء مرسوم الإبادة الذي أصدره حاكم المستعمرات، وأُعيد إلى ألمانيا بعد استهجان المستوطنين الألمان المحليين لتعطُّشه غير المجدي للدماء. ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع حصوله على أعلى وسام عسكري في الإمبراطورية الألمانية.
اعتداءات جنسية واسعة النطاق
وتشير التقارير الواردة من معسكرات الاعتقال الصينية إلى اعتداءات جنسية واسعة النطاق وظروف صحية بالغة السوء، ومع ذلك تومئ بعض التقارير الأخيرة إلى أن انكشاف الفظائع للرأي العام أدى إلى تحسن الظروف نوعاً ما، حتى وإن كان الإغور لا يزالون محاصرين في سجن مفتوح يُجبرون فيه على العمل بالسخرة لمصلحة الشركات الصينية.
كان الطريق من هيمنة النزعة والثقافة العسكرية على المجتمع الألماني إلى النازية طريقاً طويلاً. لكن الفرص كانت متاحة مراراً وتكراراً لألمانيا كي تبتعد عن سرطان العنف الجماعي وتفشيه، والاتجاه بدلاً من ذلك إلى مستقبل أكثر إشراقاً لها وللعالم، على حد سواء.
ومع ذلك، فإنها لم تأخذ هذا الخيار إلا في عام 1948، بعد خسارتين فادحتين في حربين عالميتين، وعشرات الملايين من الضحايا.
أمَّا الصين، فما زال لديها الفرصة لتفادي هذا المستقبل المظلم. ومع ذلك، فإنها وحدها تستطيع اختيار هذا الطريق قبل فوات الأوان، فعجلة الزمان لا تنتظر أحداً، حسب Foreign Policy.
لم يهتم الأوروبيون كثيراً بجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها ألمانيا في إفريقيا، ولكن سرعان ما نقلت ألمانيا في عهد النازية هذه الجرائم من مستعمرتها الإفريقية إلى البلدان الأوروبية، فليس هناك أي ضمانة للعالم بأن بلداً يرتكب مثل هذه الجرائم داخل حدوده الوطنية أو حدود مستعمراته إلى جيرانه وحتى بقية العالم.
فعندما يجد قادة بلد مبررات أخلاقية لتنفيذ مثل هذه الجرائم ضد مواطنيهم فلا شيء يمنعهم من فعل ذلك ضد مواطني دول أخرى يوماً ما .