انتهت جولة المفاوضات بشأن الاتفاق النووي الإيراني دون نتيجة، والآن تقر إسرائيل أن انسحاب دونالد ترامب كان خطأ وأضر تل أبيب، بينما يجد جو بايدن نفسه في مأزق حقيقي، فكيف وصلت الأمور إلى تلك النقطة؟
المحادثات، التي تجري في فيينا بين إيران والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين بشأن الاتفاق النووي، توقفت الجمعة 3 ديسمبر/كانون الأول على أن تستأنف الأسبوع المقبل.
وهذه هي الجولة الأولى من المفاوضات، التي تتم بطريقة غير مباشرة بين الإيرانيين والأمريكيين، منذ تولي إبراهيم رئيسي المسؤولية في إيران، والسابعة منذ تولي جو بايدن المسؤولية.
والاتفاق النووي أو اتفاقية العمل الشاملة المشتركة تم توقيعها بين إيران والقوى الكبرى عام 2015 أثناء إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، بهدف وضع البرنامج النووي الإيراني تحت رقابة دولية صارمة لضمان عدم تحوله إلى برنامج نووي عسكري، مقابل رفع العقوبات الأمريكية والأممية عن إيران.
إيران ترفع سقف مطالبها
وكان الرئيس السابق دونالد ترامب قد انسحب من الاتفاق النووي عام 2018، وأعاد فرض العقوبات الأمريكية على إيران، التي بدأت بدورها في الانسحاب تدريجياً من التزاماتها بموجب الاتفاق، دون أن تنسحب منه بشكل رسمي وسط محاولات باقي أطراف الاتفاق (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين) الحفاظ عليه سارياً بصورة أو بأخرى.
ومع تولي بايدن المسؤولية، وافق الإيرانيون على العودة إلى طاولة المفاوضات في فيينا، على أن تكون بصورة غير مباشرة مع الأمريكيين، وأجريت ست جولات من المفاوضات في الفترة من أبريل/نيسان وحتى يونيو/حزيران 2021، وكان وقتها حسن روحاني (يوصف بالإصلاحي) رئيساً لإيران. ثم توقفت المحادثات بعد فوز رئيسي (المتشدد)، واستأنفت 29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لمدة أربعة أيام.
والسبت 4 ديسمبر/كانون الأول، قال مسؤول كبير بوزارة الخارجية الأمريكية لرويترز إن إيران تراجعت عن كل الحلول الوسط التي قدمتها في المحادثات السابقة التي استهدفت إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015. وأضاف المسؤول أن طهران أخذت التنازلات التي قدمها الآخرون وطلبت المزيد في أحدث مقترحات طرحتها.
وقال المسؤول للصحفيين طالباً عدم نشر اسمه إن إيران تواصل تسريع برنامجها النووي بطرق استفزازية، مشيراً إلى أن الصين وروسيا فوجئتا بمدى تراجع إيران في المقترحات التي طرحت في محادثات الأسبوع الماضي في فيينا.
وقال المسؤول الأمريكي الكبير إن إيران جاءت "بمقترحات مثلت تراجعاً عن أي شيء، عن أي حلول وسط عرضتها إيران هنا في الجولات الست السابقة من المحادثات وصادرت جميع الحلول الوسط التي قدمها الآخرون والولايات المتحدة بشكل خاص".
وقال للصحفيين إنه لا يعرف متى ستٌستأنف الجولة المقبلة من المحادثات التي قال مسؤولون آخرون إنها ستعاود الانعقاد في الأسبوع المقبل. وشدد المسؤول على أن الموعد أقل أهمية من أن تكون إيران مستعدة للتفاوض الجاد.
لماذا سياسة إسرائيل "فاشلة"؟
كانت إسرائيل من أشرس المعارضين للاتفاق النووي مع إيران وبذل بنيامين نتنياهو رئيس وزرائها السابق جهوداً متواصلة لإقناع ترامب بالانسحاب من الاتفاق وهو ما حدث بالفعل، إذ كان الرئيس الأمريكي السابق من المعارضين للاتفاق من الأساس، ومن ثم انسحب منه بشكل أحادي بالفعل.
لكنّ مسؤولين عسكريين إسرائيليين بارزين يعبرون الآن عن موقف مختلف تماماً ويصفون انسحاب ترامب من الاتفاق النووي بأنه كان "خطأ" وأضر بإسرائيل كثيراً، بحسب تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي
داني سينترينوفيتش، الذي كان يرأس فرع إيران في إدارة البحث والتحليل التابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية من عام 2013 حتى عام 2016، وهي الفترة التي انتقل منصب الرئيس خلالها من الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد إلى الرئيس المعتدل حسن روحاني الذي أشرف على جهود التفاوض مع الغرب، وصف سينترينوفيتش سياسة إسرائيل مع إيران بـ"الفاشلة".
وفي مقابلة مع صحيفة The Times Of Israel الأسبوع الماضي، قال المسؤول الاستخباراتي السابق إن "إسرائيل ضغطت على الجانب الأمريكي للانسحاب من الاتفاق حين لم تتوفر خيارات أخرى".
وبحسب تحليل الموقع الأمريكي، يتحدث سينترينوفيتش بخبرة سنوات قضاها في دراسة السياسات الإيرانية في شؤونها العسكرية والأمنية. ونظرته لإيران أكثر دقة وتبصراً مما يقوله المسؤولون الإسرائيليون أو الأمريكيون أو الاوروبيون بخصوص هذه المسألة.
وقال سينترينوفيتش في مقابلته: "إيران ليست كتلة جامدة، ويؤسفني أن أقول هذا، لكن الإيرانيين لا يستيقظون كل صباح ويفكرون في طريقة يدمرون بها إسرائيل. الأمور لا تسير على هذا النحو في إيران… هذا سوء فهم ساذج للنظام في إيران".
وأوضح سينترينوفيتش سبب صعوبة هذه الأزمة بقوله: "كل شيء بدأ يخرج عن السيطرة حين انسحب ترامب من الاتفاق. في البداية، حاول روحاني ألا ينتهك الاتفاق، ولم يتخذ سوى خطوات محدودة. ولكن حين أصبح موقفه ضعيفاً، وأدرك أن لا شيء سيتغير، قرر أن يكسر كل القيود التي وُضعت على النظام".
تعالي الأصوات المنتقدة لترامب
لم يكن سينترينوفيتش الوحيد الذي انتقد قرار ترامب "الاعتباطي والخطير" بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA، بحسب وصف موقع Responsible Statecraft الأمريكي، إذ أعرب قادة آخرون في إسرائيل، وأمريكيون موالون لإسرائيل عن قلقهم أيضاً.
ففي اليوم نفسه الذي نشرت فيه مقابلة سينترينوفيتش، أعلن كاتب مقالات الرأي في صحيفة The New York Times الأمريكية، توماس فريدمان، أن "قرار الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران المبرم عام 2018… كان أسوأ وأغبى قرارات الأمن القومي الأمريكي في حقبة ما بعد الحرب الباردة".
ولم يكن فريدمان مؤيداً قوياً لاتفاق نووي مع إيران. فعام 2015، حين اكتمل الاتفاق، وصفه فريدمان "باتفاق سلبي إيجابي"، وأشاد ببراعة إيران "في استغلال الموقف لصالحها"، فيما ألمح إلى أن الرئيس باراك أوباما كان يتفاوض من موقف ضعف، لأنه لم يرد إشعال حرب جديدة في الشرق الأوسط.
وقد أثيرت فكرة "كان يمكن إبرام اتفاق أفضل" غير مرة، رغم أن هذه الفكرة لاتفاق كهذا كانت لتضر بالمفاوضات بل وتدمرها تدميراً. وهذه النتيجة الواضحة التي توصل إليها فريدمان أدركتها إسرائيل. وهو لا يخفي ذلك، إذ أشار في بداية مقاله إلى إحباط وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه يعلون، ورئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي غادي أيزنكوت من قرار ترامب الكارثي.
وكان يعلون قد قال للصحيفة الإسرائيلية Haaretz: "الخطأ الأكبر في السياسة المتبعة مع إيران خلال العشر سنوات الأخيرة كان الانسحاب من الاتفاق. والاتفاق نفسه كان خطأ تاريخياً، لكن الانسحاب منه أعطاهم عذراً ليستمروا في التخصيب".
وقالت Haaretz أيضاً نقلاً عن أيزنكوت: "الانسحاب الأمريكي من الاتفاق كان قراراً سلبياً صرفاً على إسرائيل: فقد حرر إيران من جميع القيود، وأخذ برنامجها النووي إلى مرحلة أكثر تقدماً".
مأزق بايدن وقلة حيلة إسرائيل
وبعد هذين التصريحين، قال مصدر عسكري إسرائيلي للقناة 12 الإخبارية الإسرائيلية إن اغتيال العالم الإيراني العام الماضي محسن فخري زاده "لم يكبح تقدم إيران كما كنا نتمنى. وموقف إيران الحالي أقوى مما كانت عليه يوماً"، وقال المسؤول الإسرائيلي إنه "نتيجة لذلك، تبذل إسرائيل جهوداً ضخمة على مستوى العالم -علناً وخلف الكواليس على السواء- لإبرام اتفاق جديد معدّل وفي الوقت نفسه إعداد خطة هجومية كبيرة".
وكان الاغتيال فشلاً آخر في سلسلة قرارات فاشلة، كانت كلها تهدف لإلغاء اتفاق مع إيران لا يختلف أحد على أنه كان ناجحاً. وهذه التصريحات مجتمعة تمثل إدانة صارخة لسياسة إسرائيل مع إيران، سياسة هي في جوهرها عبارة عن جهد حثيث لدفع الولايات المتحدة لتبني موقف أكثر تشدداً.
وصحيح أن ترامب ربما لم يكن بحاجة لمن يدفعه إلى تدمير هذا الإنجاز الذي حققه أوباما في السياسة الخارجية، فقد كان للضغوط الإسرائيلية تأثير واضح بكل تأكيد عليه وعلى أوباما وكذلك على بايدن الآن.
وعبر سينترينوفيتش عن رأيه في هذا الاتفاق حينها بالقول: "هذا الاتفاق -بكل عيوبه- كَبَح برنامج إيران النووي بدرجة كبيرة… وصحيح أن من يعملون في الجيش يمكنهم إيصال أصواتهم، إلا أن القرار سياسي في النهاية، والقرار السياسي كان لا لاتفاقية العمل الشاملة المشتركة، ولا قبول للاتفاق".
وقال سينترينوفيتش عن الظروف الحالية: "بايدن يواجه مشكلة من الجانب الداخلي، لأنه أنفق الكثير لتعزيز خططه الاقتصادية وهو بذلك يستهلك كل رصيده السياسي. وبافتراض أنه قادر على الخروج باتفاق ما، حتى وإن لم يكن معاهدة، فهو بحاجة إلى درجة من الدعم من حزبه، ولأن الاتفاق لن يكون "الأطول والأقوى" الذي يدعو إليه كثيرون، فسيجد حتى في حزبه من يحجمون عن دعمه".
ولو أراد بايدن أن يتمكن من إبرام الاتفاق الذي يحتاج لإبرامه مع إيران، فعليه أن يضع هذه الأصوات الإسرائيلية نصب عينيه. وعلى البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية عقد مؤتمرات صحفية تُنقل فيها تصريحات يعلون وأيزنكوت وسينترينوفيتش. فهل سيخاطر رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي يستمتع حالياً بثمار العلاقات الدافئة مع الإمارات والإبعاد المستمر لقضية الاحتلال الإسرائيلي عن الميدان الدبلوماسي، باستعداء جو بايدن علناً مثلما فعل نتنياهو مع باراك أوباما؟
يبدو هذا مستبعداً، لكنه ما سيحتاج بينيت إلى فعله إذا تمكن بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن من التأكيد على أن النخبة العسكرية المثقفة في إسرائيل نفسها تدرك أن العودة لخطة العمل الشاملة المشتركة، مثلما كانت حين انسحب منها ترامب، تصب في مصلحة الولايات المتحدة وإيران والخليج، بل وإسرائيل أيضاً.