تعيين الولايات المتحدة سفيراً لها في السودان للمرة الأولى منذ أكثر من 20 عاماً أثار تساؤلات بشأن التوقيت وأغراض واشنطن، في ظل المشهد السياسي المضطرب في الخرطوم.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد وضعت السودان، عام 1993، ضمن قائمتها السوداء للدول "الراعية للإرهاب"، وفي عام 1996 أصدرت إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون قرارها تعليق عمل سفارة واشنطن في الخرطوم، وفي العام التالي تم فرض عقوبات اقتصادية ومالية وتجارية شاملة على السودان.
كان ذلك خلال نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، وبعد أن أطاحت به ثورة شعبية في أبريل/نيسان 2019، لم ترفع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الخرطوم من القائمة السوداء، إلا في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، في إطار صفقة التطبيع مع إسرائيل.
وبعد مرور ما يقرب من عام كامل، قررت إدارة الرئيس جو بايدن تعيين جون جودفري سفيراً لها في الخرطوم، للمرة الأولى منذ أكثر من عقدين من الزمان، فلماذا الآن؟
السودان على صفيح ساخن
الإعلان عن تعيين جودفري سفيراً لواشنطن لدى الخرطوم جاء في الوقت الذي تتواصل فيه الاحتجاجات الشعبية رفضاً للاتفاق السياسي الموقع بين عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء العائد إلى منصبه بعد نحو شهر من وجوده قيد الإقامة الجبرية، وعبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني، الذي كان قد اتخذ قرارات مفاجئة يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، اعتبرت انقلاباً عسكرياً.
وكان البرهان قد أعلن يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلغاء الشراكة بين العسكريين والمدنيين، مقرراً إلغاء مجلس السيادة وإقالة حكومة حمدوك، الذي جرى اعتقاله قبل أن يعود لاحقاً إلى منزله تحت الإقامة الجبرية، فيما تم اعتقال عدد كبير من وزرائه ومستشاريه وقادة آخرين في قوى إعلان الحرية والتغيير، المكون المدني في السلطة الانتقالية التي تحكم السودان منذ أغسطس/آب 2019، ما تسبب في عقوبات دولية.
ويوم الأحد 21 نوفمبر/تشرين الثاني، شهدت العاصمة السودانية الخرطوم الإعلان عن اتفاق سياسي جديد وقعه البرهان وحمدوك. لكن المكون المدني، الذي رشح حمدوك لرئاسة الوزراء (قوى إعلان الحرية والتغيير)، اعتبر الاتفاق ترسيخاً للانقلاب العسكري، ومن ثم تواصلت المظاهرات المطالبة بإنهاء دور العسكر تماماً في السلطة الانتقالية في البلاد.
واليوم الثلاثاء 30 نوفمبر/تشرين الثاني، حذرت قوى إعلان الحرية "الائتلاف الحاكم" سابقاً السلطات من التعرض للمتظاهرين السلميين في مواكب اليوم بالخرطوم والولايات.
وقالت في بيان اطلعت عليه الأناضول "إننا ندعم ونؤيد مطالب شعبنا، وسنكون في مقدمة صفوف مواكب الثلاثاء". وأضاف البيان "نحذر سلطات الانقلاب من التعرض للثائرات والثوار السلميين الأحرار، فحرية التظاهر والتعبير حق مكفول بالقانون"، مشيراً أن "مواكب 30 نوفمبر، بالعاصمة والولايات تتوشح بالسلمية وأهداف استعادة مسار الانتقال المدني الديمقراطي ومحاسبة الانقلابيين.
والإثنين، دعت لجان المقاومة (مكونة من ناشطين) وتجمع المهنيين السودانيين والحزب الشيوعي إلى تلك المظاهرات، رفضاً للاتفاق السياسي الأخير وللمطالبة بحكم مدني كامل.
ولا يزال حمدوك متمسكاً بموقفه، الذي برره بأنه المسار الوحيد المتاح حالياً للحفاظ على دماء السودانيين والمكتسبات الاقتصادية التي تحققت حتى الآن، وأكد الإثنين حرصه على خلق مناخ لا يسمح باعتقال أحد أو ضرب متظاهر.
كان حمدوك يتحدث عشية مظاهرات مقررة بالخرطوم وعدد من المدن، دعت إليها لجان المقاومة وتجمع المهنيين والحزب الشيوعي، رفضاً للاتفاق السياسي، وللمطالبة بالحكم المدني الكامل.
وقال رئيس الوزراء، في منشور له عبر الصفحة الرسمية لمكتب رئيس الوزراء على موقع "فيسبوك" إن "الديمقراطية هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن تعلمه خارج ممارسته".
وأضاف "لأجل ذلك نحن حريصون على الاتفاق السياسي، وعلى لجان المقاومة وكل القوى الثورية، في أن نمضي في وجهة خلق مناخ لا يسمح باعتقال أحد تحفظياً ولا يسمح بضرب المتظاهرين. حق التظاهر لم يمنحنا إياه أحد، وقد انتزعه شعبنا عبر عشرات السنين بنضاله، والتحدي الأساسي للاتفاق السياسي أن ينفذ".
لكن حزب الأمة القومي رد على ذلك باتهام حمدوك بـ"محاولة خلق حاضنة جديدة، وشق الصف بين المكونات السياسية ولجان المقاومة". وقال بيان صادر عن الحزب أبرز قوى "إعلان الحرية والتغيير": "بعد التوقيع على اتفاق ثنائي (…) بدأ رئيس الوزراء (…) إلا أنه وبصورة مؤسفة بدأ السير باتجاه خلق حاضنة سياسية جديدة متجاوزاً قوى الثورة الحية، ساعياً لشق الصف بين المكونات السياسية ولجان المقاومة".
وأضاف: "وقد قابل رئيس الوزراء بعض رؤساء حزب الأمة بالولايات في محاولة لشق صف الحزب. سيتم تحويل الأعضاء الذين لم يلتزموا بقرارات المؤسسات وقابلوا رئيس الوزراء والمكون العسكري إلى لجنة ضبط الأداء".
الخلاصة هي أن الأوضاع التي يشهدها السودان منذ قرارات البرهان قبل أكثر من شهرين، والتي وصفت بأنها انقلاب عسكري على المسار الديمقراطي لم تتغير كثيراً بعد التوقيع على الاتفاق السياسي الجديد، باستثناء توجيه اتهامات الخيانة إلى حمدوك من جانب كثير من أنصاره.
ما هدف واشنطن من تعيين السفير الآن؟
جاءت تسمية الولايات المتحدة لسفيرها في الخرطوم، جون جودفري، في الوقت الذي يعيش فيه السودان أصعب مراحله، لتطرح العديد من التساؤلات حول توقيت التعيين وأهداف واشنطن من وراء تلك الخطوة.
هذا المشهد المشتعل على الأرض في السودان يجعل توقيت إعلان إدارة بايدن عن تعيين سفير في الخرطوم مثاراً للتساؤلات بشأن أهداف الولايات المتحدة. وعن هذه النقطة، قال الدكتور محمد مصطفى مدير المركز العربي الإفريقي لثقافة السلام والديمقراطية بالسودان لوكالة سبوتنيك الروسية إنه لا ينكر أحد الدور الذي لعبته أمريكا في تجاوز القرارات التي كان البرهان قد اتخذها يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، وهي القرارات التي لا تزال تسيطر على المشهد السياسي في السودان.
"الذي أعرفه جيداً أن أمريكا ستركز على مصالحها أكثر من التركيز على الانتقال الذي سيؤدي إلى انتخابات حرة ونزيهة، تؤدي إلى ديمقراطية وتداول سلمي للسلطة، وذلك سيجعلها تعمل على إيجاد توليفة سياسية ظاهرها مدنية وجوهرها عسكرية تنتهي إلى حكومة عسكرية بثوب مدني".
وأضاف مصطفى: "وفقاً لمعرفتنا الجيدة بالسياسات الأمريكية، وأغلب محاور استراتيجيتها، فهي قد رفعت من مستوى تمثيلها الدبلوماسي في السودان إلى درجة السفير كي تواكب مستوى علاقتها بالسودان، وتباشر في ترتيب أولوياتها وتضع مرتكزات مصالحها، وتسيطر على منطلقات استراتيجيتها، لأنها تعلم جيداً حجم الموارد الاقتصادية في السودان، وتعلم كيفية استغلالها وتوجيهها".
واتفق المحلل السياسي السوداني، الدكتور ربيع عبد العاطي، مع مصطفى في الرؤية، إذ قال لسبوتنيك: "في اعتقادي الجو مناسب لواشنطن لتوجه أشرعة البلاد في مصلحتها، بحسبان أن الوضع هش والسلطة ضعيفة والأوضاع من السهولة تطويعها، والدول الضعيفة وخلقها من أهم أهداف النظام العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا".
كيف يؤثر وجود سفير أمريكي على الوضع السياسي؟
يخشى كثير من المحللين السياسيين والمراقبين السودانيين أن يكون لتعيين واشنطن سفيراً لها في هذا التوقيت تأثيرات سلبية على الحراك الحالي الساعي لإنهاء نفوذ قادة الجيش في المرحلة الانتقالية الهادفة لتحقيق الديمقراطية والحكم المدني في البلاد.
وقال عبد العاطي إن وجود سفير أمريكي سيكون تأثيره في "اتجاه إخضاع السودان للإدارة الأمريكية، وعلى أي حال فإن الرضا الأمريكي على السودان سيكون خصماً على استقلال القرار الوطني، وستكون الذلة بعد العزة، وهذا هو ما دأبت عليه أمريكا وما تخلفه سياساتها من أثر سلبي على الشعوب والدول".
واستشهد المحلل السياسي السوداني بالعراق قائلاً: "يكفي ما يحدث في العراق بعد الغزو، حيث لم يسترد عافيته، ولم يذق شعبه استقراراً، وسفير واشنطن بالخرطوم ليس بمثابة المندوب السامي، بل هو المندوب السامي بذاته وصفاته".
ومن جانبه، قال محمد مصطفى لسبوتنيك: "نحن من جانبنا لن نرفض أي شراكة اقتصادية أمنية تقوم على المصالح المتكاملة والعادلة، لكننا لن نمد أيدينا لأي قوى تتغاضى عن عملية التحول الديمقراطي والعدالة الانتقالية والسلام العادل من أجل مصالحها، وعليه نحن كثوار نناشد أمريكا كي تواصل وساطتها الإيجابية بكل صدق وأمانة من أجل تحقيق شعارات الثورة "حرية سلام وعدالة".
بينما يرى فريق آخر من المحللين أن رفع واشنطن تمثيلها الدبلوماسي لدى الخرطوم، لدرجة السفير في هذا التوقيت قد يكون عاملاً إيجابياً يسهم في تقريب وجهات النظر بين حمدوك تحديداً من جهة وبين شركائه السابقين في الأحزاب والكتل المدنية، خصوصاً أن حمدوك لا يزال يعتبر، بالنسبة للمجتمع الدولي، الوجه المدني الأكثر قبولاً داخل السودان.
وهذا ما أشارت إليه الخارجية الأمريكية لدى الإعلان عن تعيين جودفري، وهو المسؤول رفيع المستوى في السلك الدبلوماسي، وعمل نائباً لرئيس البعثة الأمريكية في السعودية، ومنسقاً لوزارة الخارجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب. إذ أكدت الوزارة على ضرورة استكمال المرحلة الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات والحكم المدني الديمقراطي.
الخلاصة هنا هي أنه لا أحد يمكنه الجزم بالأهداف التي تسعى الإدارة الأمريكية لتحقيقها من خلال تعيين سفير لها في الخرطوم في هذا التوقيت، ولا مدى قدرة الولايات المتحدة على إحداث تأثير فعلي في الساحة السياسية السودانية التي تشهد حالة سيولة تامة في الوقت الراهن يستحيل معها الجزم بأي اتجاه ستنتهي الأمور بالسير فيه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن جيفري فيلتمان المبعوث الأمريكي لشؤون القرن الإفريقي كان، بحسب ما أوردته تقارير، قد حذَّر البرهان من الاستيلاء على السلطة، قبل ساعات فقط من قرارات قائد الجيش، يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.