عزز الاتفاق الأخير بين الجيش السوداني ورئيس الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك نفوذ دول الخليج في السودان، وتحديداً الإمارات والسعودية، رغم أن الولايات المتحدة بدت هي القوة الدافعة وراء الاتفاق.
ففي 21 نوفمبر/تشرين الثاني، وقَّع الجيش السوداني صفقةً مع رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك، بعد قرابة شهرٍ من احتجازه رهن الإقامة الجبرية بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول. وفي الأسابيع التي سبقت الاتفاق، قتلت قوات الأمن عشرات المتظاهرين في شوارع الخرطوم، وظلَّ العديد من القادة السياسيين المدنيين رهن الإقامة الجبرية. وعند إطلاق سراحه، أشاد حمدوك بالاتفاق الذي تم التوصُّل إليه مع خاطفيه، لكن المحتوى الكامل للصفقة لم يُعلَن بعد.
ورغم ذلك، سارَعَت الولايات المتحدة ودول الخليج المختلفة إلى الإشادة بالاتفاق باعتباره ناجحاً. وفي حين أن الولايات المتحدة ودول الخليج حريصة على أن تعترف الدول الأخرى بمساهماتها في صفقةٍ تبدو ديمقراطية، فإن دوافع كلا الجانبين مختلفة ومتناقضة، حسبما ورد في تقرير لمجلة National Interest الأمريكية.
انقلاب السودان يصدم إدارة بايدن
انتابت المفاجأة إدارة بايدن عندما اندلع الانقلاب بعد يومٍ واحدٍ فقط من المناقشة التي أجراها الجيش السوداني مع مسؤولين أمريكيين في الخرطوم حول الانتقال السلمي للسلطة إلى حكومةٍ يقودها مدنيون. وحذَّرَ كبير المبعوثين الأمريكيين إلى الخرطوم، جيفري فيلتمان، الجيش السوداني على وجه التحديد من الاستيلاء على السلطة، ولكن في غضون ساعات تجاهَلَ كبير المسؤولين العسكريين السودانيين، الجنرال عبد الفتاح البرهان، هذا التحذير. وأُصيبَ المسؤولون الأمريكيون بصدمةٍ حقيقية من أن الجيش السوداني كان على استعدادٍ لتحديهم والتخلي عما يقرب من 700 مليون دولار من المساعدات الموعودة. وصرَّحَ المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، قائلاً: "لكي نكون واضحين، لم نتلقَّ أيَّ تنبيهٍ لنا بشأن هذا الأمر".
وفي محاولة لتقليل من أثر فضيحة فشلها في منع انقلاب السودان، ساعدت الولايات المتحدة في التوسُّط في الاتفاق الجديد الذي وقَّعه الجيش ورئيس الوزراء المُحتَجَز سابقاً. ورغم أن الولايات المتحدة لم تستطِع منع الانقلاب العسكري، فإنها لا تزال قادرةً على رفع صورتها من خلال دعم حلٍّ يبدو أكثر "ديمقراطية"، حسب وصف المجلة.
وفي خطابه الأول بعد إطلاق سراحه من الإقامة الجبرية، تعهَّدَ حمدوك بأن الصفقة ستساعد في "مواجهة تحديات الفترة الانتقالية". وقال البرهان إن الصفقة "يمكن أن تضع أساساً حقيقياً للمرحلة الانتقالية".
ومع ذلك، من خلال التوقيع على هذا الاتفاق، يضفي حمدوك أساساً الشرعية على الانقلاب وحقِّ الجيش في السيطرة على مستوى معين من السلطة في السودان، حسب المجلة الأمريكية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن مجلس الوزراء الجديد الذي تطرحه الصفقة، بقيادة حمدوك، سيظلُّ خاضعاً للإشراف العسكري في المستقبل المنظور.
وفي حين أن دوافع إدارة بايدن للتوسُّط في الاتفاق السوداني قد تستند جزئياً إلى التصوُّرات الدولية، فإن الخليج يأتي من زاويةٍ مختلفة. تهتم المملكة السعودية والإمارات بتعزيز حكومة يقودها الجيش في السودان. وبالإضافة إلى العلاقات الخليجية القوية والمُطوَّلة مع الجنرالات في السلطة، فإن توسيع وجودهم في القرن الإفريقي سيفيد مصالحهم المحلية مع مواجهة أجندة قطر وتركيا في المنطقة.
نفوذ دول الخليج في السودان بدأ قبل الإطاحة بالبشير
بعد الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير في العام 2019، قدَّمَت المملكة السعودية والإمارات 3 مليارات دولار كمساعداتٍ للقادة العسكريين الجدد في الخرطوم. بالنسبة للرياض، فإن دفء العلاقات مع القادة العسكريين السودانيين قد يؤدِّي إلى نشر المزيد من القوات السودانية في اليمن لمساعدة السعوديين في حربهم ضد الحوثيين.
أما بالنسبة لأبوظبي، فإن الميليشيات السودانية تضطلع بدورٍ حاسمٍ في الصراع في ليبيا. وبالتالي، فإن تعزيز العلاقات مع حكومةٍ سودانية مستقرة، بغض النظر عمَّن يتولَّى السلطة، سيعود بالفائدة على كلٍّ من المملكة السعودية والإمارات.
بعد عزل وزير دفاع البشير عبد الرحمن بن عوف من رئاسة المجلس العسكري الذي أطاح بالبشير، تولى الفريق عبدالفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري الحاكم بالسودان ومن بعده المجلس السيادي.
ويعد هذا مؤشراً واضحاً على تغلغل نفوذ الخليج في الحكم السوداني، فالرجل كان مسؤولاً عن نشر القوات السودانية في اليمن، كما أنه كان يتولى منصب المفتش العام للجيش السوداني.
واللافت أن البرهان تولى رئاسة المجلس العسكري، بعد اعتراض قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو على القائد السابق للمجلس العسكري، وهو ما قد يشير إلى دور خليجي في تصعيد البرهان، في ضوء العلاقات القوية بين حميدتي وبين الإمارات والسعودية.
ولطالما تحدثت تقارير إعلامية عن العلاقات الوطيدة بين نائب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق محمد حمدان دقلو الشهير باسم "حميدتي" وكل من الإمارات والسعودية. فلقد زود حميدتي التحالف الذي تتزعمه السعودية في اليمن بمرتزقة من قواته. كما تردد أن حميدتي وفر وحدات للمساعدة في حراسة الحدود السعودية مع اليمن.
إن أهم أهداف الدولتين في السودان قد تحققت إلى حد كبير، وهي منع تولي الإسلاميين السلطة، ثم منع قيام تجربة ديمقراطية حقيقية، وأخيراً، وجود نظام حاكم يحقق مصالح البلدين المتعددة وعلى رأسها المشاركة العسكرية في اليمن وليبيا، وتعزيز تجارة وتهريب الذهب الذي يحتكره حميدتي ويهربه للإمارات، وضمان الاستثمارات.
أخيراً البرهان وجد الواجهة المدنية التي يبحث عنها
عندما أطاح البرهان بحمدوك، قال مجدي الجزولي، المحلل السوداني في معهد "ريفت فالي" البحثي: "قد يتمكن البرهان من تحقيق أهدافه بدعم من الحلفاء الآخرين، مصر والسعودية والإمارات. إنه ليس معزولاً مثلما أصبح البشير، ولا هو إسلامي. وبالتالي سيجد وجهاً مدنياً جديداً أكثر مرونة، وسيحافظ على الشكليات، وسينتهي الأمر بالغرب بالتعامل مع هذا الشخص".
ويبدو أن هذا الوجه المدني الذي كان يبحث عنه البرهان لتعزيز قبضته على الحكم أصبح عبد الله حمدوك نفسه عبر الاتفاق الجديد، الذي يرضي كل الأطراف المعنية ما عدا الثوار.
فبالنسبة للأمريكيين فإن الاتفاق يرفع الحرج عنهم بالسكوت عن الانقلاب، رغم أنه فعلياً يعزِّز سلطة العسكريين، ولا يحدد موعداً لإجراء الانتخابات، ويشرعن تقسيم السلطة بين قيادة عسكرية لا تلتزم بتعهداتها وحكومة انتقالية غير منتخبة.
أما بالنسبة لدول الخليج، فإنه يعزز قوة الجيش الذي هو حليفهم دون انتقادات دولية، فالاتفاق مرضٍ شكلاً لأمريكا بينما مفيد فعلياً لدول الخليج.
أما عن العسكريين أنفسهم، فلقد عاد حمدوك الذين عزلوه للسلطة، ولكنه عاد ضعيفاً عن ذي قبل، وبدون الدعم الذي توفره له قوى ائتلاف الحرية والتغيير، وبات مجرد رئيس وزراء تكنوقراط بلا سلطة حقيقية، بل سيكون عليه أن يدير الاقتصاد وينفذ أوامر القيادة العليا مثلما يفعل أغلب رؤساء الوزراء في الدول العربية الاستبدادية.
في النهاية، يساهم الوضع المهترئ في الخرطوم، جنباً إلى جنبٍ مع الاستيلاء على السلطة في تونس، وأزمة تيغراي الإثيوبية، في زعزعة الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي وشمال إفريقيا. وبينما تتكشَّف هذه الاضطرابات، سوف تُسرِع القوى الإقليمية في استغلال نقاط الضعف القائمة، حسب National Interest.
والمفارقة أنه في الأزمات الثلاث تقف دول الخليج، ولا سيما الإمارات في موقف مختلف تماماً، عن الموقف الأمريكي، فهي تؤيد قيس سعيد في تونس وآبي أحمد في مواجهة التيغراي في إثيوبيا.
واللافت أنه في الأزمات الثلاث أيضاً، تميل واشنطن للخطابة الرنانة عن حقوق الإنسان والديمقراطية، بينما تمضي الإمارات قدماً في تنفيذ أهدافها خلف الكواليس.