تثير انتصارات طالبان في أفغانستان فخراً شديداً في مدرسة دار العلوم "حقانية" بباكستان التي تخرج منها الكثير من قادة الحركة، ولكن بعض المراقبين يخشون من تعزيز هذا الانتصار لما يوصف بالنهج المتشدد لهذه المدرسة، بينما يتحدث آخرون عن أنها باتت أكثر اعتدالاً.
وتُعَدُّ مدرسة دار العلوم "حقانية" أحد أكبر وأقدم المعاهد الدينية في باكستان، وقامت بتعليم قادة طالبان أكثر من أيِّ مدرسةٍ في العالم. والآن يشغل خريجوها مناصب رئيسية في أفغانستان، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
مدرسة دار العلوم "حقانية" متهمة بأنها جامعة جهادية، بينما يؤكد قادتها أنها تغيرت
يصفها المنتقدون "حقانية" بأنها جامعة جهادية، ويلقون باللوم عليها في المساعدة على زرع العنف في جميع أنحاء العالم لعقودٍ من الزمن، وهم قلقون من أن المدارس الدينية المتطرِّفة والأحزاب الإسلامية المرتبطة بها قد تتشجَّع على خلفية انتصار طالبان، مِمَّا قد يؤدِّي إلى تأجيج المزيد من التطرُّف في باكستان، على الرغم من جهود هذا البلد لوضع أكثر من 30 ألف مدرسة دينية تحت سيطرةٍ حكوميةٍ أكبر، وفقاً للصحيفة.
وتقول المدرسة إنها تغيَّرَت، وقالت إنه ينبغي منح طالبان الفرصة لإظهار أنهم تجاوزوا أساليبهم الدموية منذ أن حكموا أفغانستان لأول مرة قبل عقدين من الزمان.
قال رشيد الحق سميع الحق، نائب رئيس المدرسة: "شهد العالم قدراتهم في إدارة البلاد من خلال انتصاراتهم على الجبهة الدبلوماسية وفي ساحة المعركة".
لكن الحدَّ من تطرُّف طالبان ليس مضموناً على الإطلاق، نظراً لتصاعد العنف في البلاد في وقتٍ سابق من هذا العام، والتقارير التي تفيد بوقوع أعمال عنفٍ انتقامية، حسب الصحيفة الأمريكية، علاوة على القيود المفروضة على الفتيات في الذهاب إلى المدارس، وتضييق الخناق على حرية التعبير. لكن رشيد الحق قال إن استيلاء طالبان على السلطة كان يمكن أن يكون أكثر دمويةً، مشيراً إلى أنهم "لن يكرِّروا أخطاء التسعينيات".
وفيما يواصل الإعلام الغربي الحديث عن عهد وحشي متوقع لطالبان، فإنه يجري تجاهل بعض المظاهر اللافتة التي تفيد بحدوث قدر من التغير في سلوك طالبان بالنظر إلى تاريخ الحركة المتشدد، والأهم بالنسبة للمجتمع الأفغاني المحافظ.
كما يجري تجاهل حقيقة أن سقوط النظام في أي بلد يعقبه قدر هائل من الفوضى مثلما حدث عقب سقوط بغداد في يد الاحتلال الأمريكي، ولكن هذا لم يحدث في كابول، حسب روايات دبلوماسيين أجانب.
الجيش الباكستاني يستخدمها للتأثير في قادة طالبان
كان لدار العلوم حقانية، التي تقع على بُعدِ 60 ميلاً من الحدود الأفغانية، تأثيرٌ كبيرٌ هناك. أسَّسَ خريجو المعهد حركة طالبان وحكموا أفغانستان في التسعينيات، ويقول الخبراء إن الجيش الباكستاني القوي غالباً ما يستخدم قادة المعهد للتأثير على طالبان.
سميع الحق والد رشيد الحق، كان المستشار السابق لمعهد دار العلوم حقانية، وقد عُرِفَ باسم "أبوطالبان"، ولقد قُتِلَ في مقر إقامته في إسلام آباد عام 2018.
قال عزمت عباس، مؤلِّف كتاب "تاريخ معاصر للمدارس الإسلامية في باكستان": "لكونه معهداً لعشراتٍ من قادة طالبان، فإن حقانية تحترمهم بالتأكيد".
أما سراج الدين حقاني، 41 عاماً، الذي قاد الكثير من الجهود العسكرية لطالبان، وكانت الحكومة الأمريكية قد أعلنت مكافأةً قدرها 5 ملايين دولار لرأسه، فهو القائم بأعمال وزير الداخلية في أفغانستان، وكان خريجاً في المعهد. وكذلك الحال مع أمير خان متقي، وزير الخارجية الجديد، وعبد الباقي حقاني، وزير التعليم العالي.
وقال مسؤولو المعهد إن وزير العدل ورئيس ووزير المياه والطاقة الأفغانية، علاوة على مجموعةٍ متنوِّعةٍ من المحافظين والقادة العسكريين والقضاة، مروا أيضاً بمدرسة حقانية.
"طلابنا هزموا أمريكا وروسيا"
وقال سميع الحق: "نشعر بالفخر لأن طلَّابنا في أفغانستان كسروا الاتحاد السوفييتي في البداية، ومن ثم طردوا الولايات المتحدة". وأضاف: "إنه لشرفٌ للمعهد أن يكون خريجوه الآن وزراء ويشغلوا مناصب رفيعة المستوى في حكومة طالبان".
يتبنَّى العديد من الخريجين اسم حقاني كرمزٍ للفخر. وقد سُمِّيَت شبكة حقاني- الجناح العسكري لطالبان المسؤول عن خطف الرهائن الأمريكيين والهجمات الانتحارية المُعقَّدة والاغتيالات- على اسم المعهد وتحتفظ بصلاتٍ به.
ماذا يدرسون؟
ويحضر أكثر من 4 آلاف طالب، معظمهم من العائلات الفقيرة، في المعهد مترامي الأطراف، وهو مجموعةٌ من المباني الخرسانية متعدِّدة الطوابق في بلدةٍ صغيرةٍ على ضفاف النهر شرق مدينة بيشاور. وتتراوح الدورات الدراسية من تحفيظ القرآن إلى الأدب العربي.
وفي زيارةٍ حديثة، ألقى أحد العلماء محاضرةً عن الفقه الإسلامي في قاعةٍ مزدحمةٍ تضمُّ 1500 طالب في السنة النهائية. وانفجروا جميعاً في الضحك على نكات أحد المعلِّمين. واصطفَّ طلابٌ آخرون بالخارج لتناول طعام الغداء، ولعبوا الكرة الطائرة والكريكت. وهم يعتبرون في ما بينهم أن انتصار طالبان مصدر فخرٍ كبير.
قال عبد الوالي، الطالب ذو الـ21 عاماً: "لقد هزمت طالبان الولايات المتحدة أخيراً بعد معاناتها لما يقرب من 20 عاماً. العالم بأسره يقبل هذه الحقيقة". وأضاف: "يُظهِر ذلك بُعدَ نظر والتزام معلِّمينا وخريجينا السابقين بشأن أفغانستان".
وأثنى عبد الوالي على "حقانية" كمكانٍ رئيسي لتحفيظ القرآن، قائلاً: "حقانية هو واحدٌ من المعاهد الدينية القليلة المرموقة في البلاد، حيث يعتبر الطلاب الدراسة شرفاً بسبب تاريخ المعهد وعلمائه البارزين الذين يدرسون هناك، وجودة تعليمه الإسلامي".
الحكومة الباكستانية قلقة من تأثير المدرسة الداخلي
لطالما كانت لباكستان علاقةٌ مُضطرِبةٌ مع المعاهد الدينية مثل حقانية. والقادة الذين كانوا ينظرون إلى الحلقات الدراسية على أنها وسيلةٌ للتأثير على الأحداث في أفغانستان يرونها الآن مصدراً للصراع داخل باكستان. ولدى باكستان طالبان الخاصة بها، المعروفة باسم طالبان الباكستانية، وكانت مسؤولةً عن عددٍ كبيرٍ من الهجمات العنيفة في السنوات الأخيرة. وتوصَّل الجانبان إلى وقفٍ لإطلاق النار هذا الشهر.
وظهرت علاماتٌ مُتجدِّدةٌ يفسرها المراقبون الغربيون بأنها علامات للتطرُّف في المعاهد الدينية، خاصةً منذ سقوط كابول. نظَّم الطلاب حينذاك مسيراتٍ مؤيِّدةً لطالبان. وفي المسجد الأحمر في إسلام آباد، الموقع الذي شُنَّت عليه مداهمةٌ دامية قام بها أفراد الأمن قبل 14 عاماً، رُفِعَت أعلام طالبان فوق مدرسة البنات المجاورة.
ولم تعد تلجأ لقادتها للوساطة مع طالبان
في غضون ذلك، تراجعت فائدة المعاهد الدينية، حيث اضطلع المسؤولون الباكستانيون مؤخَّراً بدورٍ مباشرٍ بشكلٍ أكبر في شؤون أفغانستان، حسبما قال محمد إسرار مدني، الباحث المقيم في إسلام آباد والذي يركِّز على الشؤون الدينية.
ووسط هذه الضغوط، جرَّبَت الحكومة الباكستانية مزيجاً من الدعم المالي والحثِّ من وراء الكواليس على التخفيف من التطرُّف داخل المعاهد الدينية.
منحت حكومة رئيس الوزراء عمران خان معهد حقانية 1.6 مليون دولار في العام 2018، و1.7 مليون دولار في العام 2017. وساعدت الأموال المعهد في بناء مبنى جديد، وملعب لتنس الريشة، ومختبر كمبيوتر، من بين مشاريع أخرى.
وقام معهد حقانية بتوسيع مناهجه التعليمية لتشمل اللغة الإنجليزية والرياضيات وعلوم الكمبيوتر. ويطلب المعهد وثائق كاملة من الطلاب الأجانب، بمن فيهم الطلاب الأفغان، وقال المسؤولون إنه تبنَّى سياسة عدم التسامح مُطلَقاً مع الأنشطة المناهضة للدولة.
خبراء يقولون إن مدرسة حقانية لم تعُد تدعو للتطرف كما كان الأمر من قبل
ويقول خبراء التعليم في باكستان إن الجهود حقَّقَت بعض النجاح، وإن "حقانية" لا يدعو إلى التشدُّد كما كان يفعل من قبل.
ومع ذلك، قالوا إن مثل هذه المعاهد تدرِّس تفسيراً ضيِّقاً للدين الإسلامي، إذ تركِّز الدروس على كيفية الجدال مع الأديان المختلفة بدلاً من التفكير النقدي، علاوة على التشديد على تطبيق ممارساتٍ مثل معاقبة السرقة ببتر اليد، والجنس خارج إطار الزواج بالرجم. وهذا يجعل طلاب هذه المعاهد عرضةً للتجنيد من قِبَلِ الجماعات المسلَّحة.
وقال عباس: "في بيئةٍ يسودها دعمٌ واسع النطاق لطالبان، سواء من الحكومة أو المجتمع، سيكون من السذاجة أن نأمل أن تتبنَّى المعاهد الدينية وغيرها من المؤسَّسات التعليمية الرئيسية نهجاً تعليمياً غير النهج الموالي لطالبان".
المشكلة في المعلمين الفرديين
قد يكون منهج المعهد أقل تأثيراً من المعلِّمين الفرديين. وفي هذا الشأن، قال عباس: "عندما يُعثَر على طالبٍ في المعهد متورِّطاً في عملٍ من أعمال العنف، فإن النهج الأوسع هو تحميل نظام المعهد ومناهجه المسؤولية عن ذلك، وعدم الاكتراث بالمعلَّم أو المعلِّمين الذين أثَّروا على الطالب".
وقال الخريجون الذين درسوا في حقانية في الثمانينيات والتسعينيات إنهم لم يتلقوا أيَّ تدريبٍ عسكري. ومع ذلك، قال البعض إن المعلِّمين كثيراً ما ناقشوا الجهاد علناً وشجَّعوا الطلاب على الانضمام إلى القتال في أفغانستان.
وقال أحدهم، ويُدعَى علي، إنه كان يمكن للطلاب التسلُّل بسهولةٍ إلى أفغانستان للقتال خلال إجازات الدراسة. وطلب علي عدم ذكر اسمه الأخير، مشيراً إلى مخاوف أمنية.