ظلّ جرس هاتف التركية فاطمة إمرم يدق بلا انقطاع منذ إصلاح العلاقات بين الإمارات وتركيا. إذ تُقدِّم فاطمة المشورة للشركات التركية التي يجري تأسيسها في دبي، باعتبارها شريكةً في شركة Tamim Consulting للاستشارات، كما تقول وكالة Bloomberg الأمريكية.
حيث قالت فاطمة للوكالة الأمريكية: "يدور سؤالهم الرئيسي حول التالي: إلى أي مدى يجب أن نثق في استمرارية العلاقات الطيبة بين تركيا والإمارات؟ إذ شجّعتهم الإصلاحات الأخيرة مع انخفاض تكاليف تأسيس الشركات، لكنهم يريدون التأكد من أن السياسة لن تُعطّل أعمالهم في المستقبل".
وقد شهدت الأحداث تحوّلاً سريعاً منذ كشفت الإمارات عن إعادة ضبط سياستها الخارجية، في سبتمبر/أيلول، متعهدةً بالتخلّي عن الصراعات السياسية وإعادة التركيز على الاقتصاد، ومستهدفةً بذلك استثمار 150 مليار دولار عبر علاقات أعمق مع الاقتصادات سريعة النمو مثل تركيا.
"نموذج دبي" الذي يركز على التجارة والاقتصاد ينتصر في الإمارات
يأتي هذا التحول ضمن تعديلات سياسية أوسع نطاقاً شهدت تغلُّب الخصوم السابقين في الشرق الأوسط على خلافاتهم العنيفة أحياناً، بالتزامن مع انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة. وبعد عقدٍ كامل من سياسة التدخل التي كبّدت البلاد فرصاً ضائعة بمليارات الدولارات انتصر نموذج دبي الذي يُركّز على الأعمال التجارية، كما تقول بلومبيرغ.
إذ كانت دبي مدينةً لصيد اللؤلؤ حُرِمَت من موارد النفط المتوافرة لدى أبوظبي، أكبر الإمارات السبع، لكنها حوّلت نفسها إلى مركزٍ مالي عالمي بتجنّب النزاعات الإقليمية وتقديم نفسها باعتبارها ميناءً للاستقرار وملاذاً ضريبياً وسط بحرٍ من الاضطرابات. وقد كانت دبي هي التي ضغطت من أجل مراجعة السياسات الخارجية التي خلّفت الإمارات بقائمةٍ متزايدة من الأعداء.
حيث هيمنت الأعمال التجارية على الأجندة حين التقى حاكم الإمارات الفعلي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الأربعاء، 24 نوفمبر/تشرين الثاني، ليطوي صفحة عقدٍ كامل من العلاقات المتوترة و"الخطاب السام" بإطلاق صندوق قيمته 10 مليارات دولار للاستثمار في البلاد وسط الاضطرابات المالية.
بينما قال جيم كرين، مؤلف كتاب "مدينة الذهب: دبي وحلم الرأسمالية City of Gold: Dubai and the Dream of Capitalism": "لقد قرروا العودة إلى الأصل، والرجوع إلى فلسفة دبي الكلاسيكية القائمة على عدم التدخل، والحياد، ونهج (الأعمال أولاً). حيث كانت سياسة أبوظبي القائمة على التحيّز لطرفٍ بعينه ودخول المعارك سيئةً بالنسبة للاقتصاد. وقد أدركوا أنّها ليست استراتيجيةً ناجحة".
الإمارات خسرت المليارات بسبب "مغامراتها السياسية"
قد يكون التأثير الاقتصادي لهذا التحول كبيراً، حيث يأتي بالتزامن مع ارتفاع أسعار النفط وانتعاشةٍ عالمية من تداعيات كوفيد-19. فحين انضمت إلى السعودية ومصر والبحرين في مقاطعة قطر عام 2017، خسرت الإمارات ما لا يقل عن 3.5 مليار من تجارتها السنوية بين ليلةٍ وضحاها.
كما حرمت تلك الخطوة شركات الإمارات من فرص عديدة للمشاركة في تحضيرات جارتها قطر لكأس العالم لكرة القدم 2022، مثل بناء الاستادات الرياضية والفنادق وتمهيد الطرق. واضطرت حينها قطر، التي كانت تشتري غالبية مواد البناء من الإمارات، إلى البحث عن مُوردين جُدد وتوجيه الشحنات إلى موانئ عمان.
كما تراجعت تجارة الإمارات مع تركيا بنسبة 44% عام 2018 بعد دخلت في الأحداث بسبب الخلافات السياسية. إذ نشرت تركيا قواتها في قطر بطلب من الدوحة، وهو ما زاد توتر العلاقات. قبل أن تدخل تلك الدول على طرفي الصراع في الحرب الليبية خلال العام التالي.
وفي الوقت ذاته، دعمت الإمارات قرار دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وإعادة فرض العقوبات عام 2018. وأظهرت بيانات وكالة Bloomberg الأمريكية أنّ التجارة الإماراتية مع إيران انخفضت بأكثر من النصف لتصل إلى خمسة مليارات دولار فقط في العام التالي. ولكن في نفس يوم الزيارة الإماراتية التاريخية لأنقرة، التقى نائب وزير خارجية إيران بعدد من المسؤولين البارزين في دبي لإعلان "صفحةٍ جديدة" في العلاقات بين البلدين.
حيث قال عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية الإماراتي والمقرب من محمد بن زايد: "هناك إجماعٌ على أنّ الوقت قد حان لتهدئة التوترات بعد 10 سنوات دفعت دبي ثمنها".
المخاوف الاقتصادية كبحت جماح أبوظبي
تقول بلومبيرغ، إجمالاً، يُمكن القول إنّ نهج دبي القائم على عدم التدخل لم يكُن بعيداً كل البعد عن نهج بقية الإمارات. لكن الخلافات بدأت تظهر في أعقاب انتفاضات الربيع العربي عام 2011.
فبالنسبة لأبوظبي، كانت فكرة القضاء على القوى الثورية التي اجتاحت الشرق الأوسط أكثر أهمية من جذب الاستثمارات الأجنبية، وهي النظرة التي ترجع جزئياً إلى ما وصفه الدبلوماسيون بـ"انشغال محمد بن زايد بالأمن".
وانصاعت دبي مكرهةً لمحمد بن زايد رغم تنامي مخاوفها الاقتصادية، وذلك بعد أن دفعت جارتها الثرية أبوظبي كفالة مالية ضخمة لإنقاذها إبان الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.
ولكن أبوظبي صارت الآن أكثر استعداداً لتغيير سياستها مع هدوء الاضطرابات التي أعقبت الربيع العربي، وخسارة الإسلاميين لجزءٍ كبير من نفوذهم في المنطقة بسبب الثورات المضادة التي مولتها أبوظبي.
ففي ليبيا، خسرت الإمارات رهانها على الجنرال المدعوم من روسيا من أجل الإطاحة بالحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس، خليفة حفتر. بينما تعرضت حرب اليمن للانتقادات الدولية، كما وجد كبار المسؤولين أنفسهم مضطرين مع استمرار الحرب لإجراء زيارة متكررة لعائلات الجنود الذين لقوا حتفهم داخل الإمارات الأقل ثراءً في الشمال.
هل يعني ذلك نهاية تحالفات وأنشطة الإمارات السياسية؟
مع ذلك، تقول بلومبيرغ "لا يعني هذا أنّ الإمارات ستقف مكتوفةً الأيدي إنّ عادت التهديدات إلى السطح من جديد".
إذ يقول أندرياس كريغ، المحاضر بكلية الملك في لندن: "لقد انتصرت الثورة المضادة في الوقت الراهن. ولكن إذا اندلع ربيعٌ عربي جديد أو انتفاضات أخرى، فسوف يقف الإماراتيون بثبات في صف الثورة المضادة. وموقفهم لن يتغيّر في هذا الصدد"، حسب تعبيره.
وقد كانت جهود السعودية لفتح اقتصادها، وتثبيت أقدامها كقاعدةٍ للشركات العالمية في الشرق الأوسط، بمثابة جرس إنذار للإماراتيين. حيث تُعتبر المملكة منافساً قوياً بفضل امتدادها الجغرافي، ونفوذها السياسي، وإمكاناتها غير المستغلة.
لكن من مصلحة الإمارات أنها تمتلك في جعبتها دبي، التي أثبتت نفسها بالفعل كمركزٍ لإدارة الأعمال التجارية. فداخل مستودعٍ في منطقة جبل علي الحرة بدبي، وقف رجل الأعمال التركي محمد سيرين أقيوز لفحص صناديق الحفاضات المصنوعة في موقع شركة تركية بمدينة عنتاب، والتي من المقرر إعادة تصديرها إلى أفريقيا.
وخلال 13 عاماً أدار فيها عمليات الشركة من دبي، يقول أقيوز إنّ العمليات لم تتأثر مطلقاً بالنزاعات الإقليمية، حتى مع تركيا. مما يُثبت فاعلية نهج دبي على حد قوله. وأردف: "هنا نرى أن المواقف السياسية تتغير، لكن الأعمال التجارية ستظل قائمةً على المدى البعيد. وبالنسبة لنا، يُعتبر الاستقرار والاستمرار أكثر العناصر أهمية".