حيرة تنتاب العالم حول موجة التضخم العالمية الحالية، وهل ستزول بتحسن عرض السلع وحل أزمة سلاسل التوريد أم نحن أمام موجة تضخم عالمية قد تستفحل وتطول وتؤدي إلى تداعيات خطيرة خاصة للفقراء وذوي الأجور الثابتة.
واجه أندرو بايلي، محافظ بنك إنكلترا المركزي، في البرلمان البريطاني يوم الاثنين 13 نوفمبر/تشرين الثاني أسئلة من أعضاء البرلمان القلقين من عودة البلاد إلى أيام ارتفاع التضخم السيئة. أجاب بايلي ساخراً: "نحن بعيدون كل البعد عن أزمة سبعينيات القرن الماضي"، مسلطاً الضوء على الاختلافات مع هذه الفترة التي بلغ فيها معدل التضخم 24.2% في عام 1975.
كان محافظ بنك إنكلترا محظوظاً لأن هؤلاء البرلمانيين لم يسألوه عمّا إذا كانت ثمة دروس نتعلّمها من فترة أواخر الستينيات، عندما بدأت الدولة تفقد السيطرة على الأسعار لأول مرة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي حقبة يقول بعض خبراء الاقتصاد إنَّها تتكرر الآن، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
موجة التضخم العالمية الحالية تصدم توقعات البنوك المركزية
بعد يومين من هذه الجلسة، اتّضح بقوة التشابه التاريخي عندما تفاجأ بنك إنكلترا مُجدَّداً بمعدلات التضخم الجديدة. قفزت الأسعار في المملكة المتحدة بنسبة 4.2% في أكتوبر/تشرين الأول، مقارنةً بالعام السابق، وهو أسرع معدل تضخم على مدار عشر سنوات وأكثر من ضعف الهدف الذي حدّده بنك إنكلترا وتقريباً ضعف توقعاته في الآونة الأخيرة قبل ستة أشهر.
لكن بريطانيا ليست وحدها في هذا الوضع. مع وصول معدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها منذ عدة عقود في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وعدد من الإقتصادات المتقدّمة الأخرى، احتل هذا الموضوع صدارة جدول الأعمال الاقتصادي لدرجة أنَّ ما كان يُمثّل مصدر قلق في مجال متخصص في بداية عام 2021 أصبح الآن في صميم السياسة البريطانية. يقول راندي كروسزنر، المحافظ السابق للاحتياطي الفيدرالي: "بات التضخم القضية السياسية البارزة في الولايات المتحدة للمرة الأولى منذ 30 عاماً".
الأوروبيون أيضاً يشعرون بقوة تسارع التضخم الذي يعد الأعلى خلال 30 عاماً، والذي تمثل أزمة أسعار الطاقة ولاسيما الغاز بؤرته.
ويواجه محافظو البنوك المركزية على مستوى العالم انتقادات بأنَّهم فقدوا السيطرة ويُلقى اللوم على السياسيين في أزمة غلاء المعيشة وتجد الأسر نفسها في مأزق، حيث يتعين عليها الموازنة بين ارتفاع أسعار الغذاء والوقود والطاقة والسكن في بيئة اقتصادية لا تزال غير مستقرة.
تقول جانيت هنري، كبيرة الاقتصاديين الدوليين في بنك "HSBC"، إنَّ "أجزاء قليلة من العالم الآن لا ينتابها القلق بشأن التضخم"، مضيفة إنَّ "التضخم العالمي حالياً هو نتيجة انتعاش قوي غير متوقع في حجم الطلب العالمي بعد فترة من العرض المقيّد".
هذا التحليل مقبول عالمياً تقريباً، لكن كما تقر جانيت هنري سريعاً أنَّ تحديد المشكلة في زيادة الطلب في عام 2021 لا يوضح ما إذا كانت نفس الضغوط التضخمية ستستمر أم ستتلاشى، مثلما حدث في عام 2011 بعد الارتفاع العالمي في أسعار المواد الغذائية.
وهذه هي النقطة التي تكمن عندها الخلافات الحقيقية ويضطر محافظو البنوك المركزية والسياسيون والاقتصاديون إلى الانحياز إلى جانب على حساب الآخر فيما يتعلّق بمستقبل
التضخم- هل هو فترة مؤقتة أم وضع دائم.
رؤية الفيدرالي الأمريكي هي الأسوأ في التاريخ وتسبب كارثة لذوي الدخول الثابتة
وقال الخبير الاقتصادي الأمريكي ذو الأصول المصرية محمد العريان، مؤخراً، إن رؤية مجلس الاحتياطي الفيدرالي بشأن تسارع التضخم تُعد من بين أسوأ التوقعات في التاريخ بشأن التضخم.
وقال إنه لا ينبغي أن ينسى الناس أن ذوي الدخل المنخفض والدخول الثابتة هم الأكثر تضررا من ارتفاع أسعار المستهلكين، مضيفا: "لذا فهي قضية كبيرة وآمل أن يلحق بنك الاحتياطي الفيدرالي بالتطورات على الأرض الواقع".
في المقابل، قال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، في وقت سابق، إنه يتوقع أن تستمر ظروف التضخم حتى العام المقبل، وأقر أنه من "المحبط" أن قضايا سلسلة التوريد لا تظهر أي علامات على التحسن. ومع ذلك، فإن التضخم المتزايد مرتبط إلى حد كبير بوباء الفيروس التاجي وأن مشاكل سلسلة التوريد هذه ستنتهي.
العالم بين إضعاف الاقتصاد واشتعال التضخم
الرهانات عالية إزاء مستقبل التضخم. إذا كان صنّاع القرار السياسي يخشون خطأً من أنَّ يصبح التضخم المرتفع متأصلاً مرة أخرى في حياة الناس الطبيعية، فإنهم سيضغطون الإنفاق بشدة، ما يؤدي إلى إضعاف الاقتصادات عند خروجها من أزمة كوفيد-19 وتخفيض الدخل وتدمير فرص العمل. في الوقت نفسه، إذا فشلوا في إدراك التهديد الحقيقي للتصاعد المستمر في معدلات التضخم، فإنَّهم سيضطرون إلى اتّخاذ إجراءات أكثر صرامة فيما بعد لإنهاء خطر التضخم، كما حدث في نهاية ستينيات القرن الماضي مع عواقب وخيمة مماثلة.
ارتفع هذا العام سقف توقعات متوسط معدلات التضخم في الاقتصادات المتقدّمة في عام 2021 و2022، إذ فوجئ خبراء الاقتصاد بمستوى الزيادات في الأسعار.
بدأت توقعات متوسط معدلات التضخم لعام 2021 في الولايات المتحدة -والتي جمعتها شركة "Consensus Economics" المتخصصة في إجراء دراسات استقصائية على صعيد الاقتصاد الكلي العالمي- في الارتفاع الحاد من 2% في يناير/كانون الثاني إلى 4.5% الآن. أما بالنسبة لعام 2022، زادت التوقعات من ما يزيد قليلاً عن 2% إلى 3.7%. شوهدت توقعات مماثلة لمعدلات التضخم في بقية دول مجموعة السبع، باستثناء اليابان.
لماذا يثق البعض في أن التضخم سيزول؟
يرى الفريق، الذي يعتقد بأنَّ الضغوط التضخمية الحالية ليست دائمة، لأنَّ هذه الارتفاعات في معدلات التضخم ستتراجع قريباً لأنَّها ناجمة عن اضطرابات استثنائية غير متكررة في سلاسل التوريد أو عوامل عارضة ستتلاشى قريباً، الأمر الذي يجعل هذا الوضع مجرد فترة ضغط مؤسف، ولكنه مؤقت، على دخل الأسر المعيشية.
سلطت دراسة أجراها "بنك التسويات الدولية" هذا الأسبوع الضوء على أنَّ "جائحة فيروس كورونا كانت سببًا رئيسيًا في تعطيل سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، ما أدى إلى حدوث نقص مفرط في المعروض من المكوّنات الرئيسية للعديد من السلع والتسبّب في أزمة نقص العمالة عندما اضطر الناس إلى المكوث في منازلهم خشية الإصابة بالفيروس. أضاف مؤلفا الدراسة، دانيال ريس وفوريتشاي رونغشاروينكول، أنَّ ميل الشركات المُصنّعة إلى تخزين بعضاً من هذه المكوّنات أدى إلى تفاقم المشكلة بالنسبة للآخرين.
لكن بمجرد تجاوز تلك العقبات وحل هذه الاختناقات، كما يقول المؤلفان، سيتوقف منحنى ارتفاع الأسعار وربما يتراجع، مما يقلل من فترة التضخم.
في السايق ذاته، أكد محافظو البنوك المركزية الأوروبية أنَّ أسعار الطاقة على الأرجح ستشهد ارتفاعاً مؤقتاً نتيجة نقص مخزون الغاز الطبيعي والأحداث الجيوسياسية مثل التوتر بين روسيا وأوكرانيا، الذي هدد إمدادات الغاز هذا الشتاء.
دفعت هذه الضغوط الاستثنائية غير المتكررة كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، إلى الاحتجاج ضد رفع أسعار الفائدة للتعامل مع التضخم، قائلة: "يجب ألّا نندفع نحو تشديد سابق لأوانه عندما نواجه ضغوط تضخمية عابرة أو مدفوعة باضطرابات العرض".
تقول ليديا بوسور، أحد كبار الاقتصاديين الأمريكيين لدى مؤسسة "أكسفورد إيكونوميكس"، إنَّ التحسّن القادم في المعروض من السلع والعمالة سيقلل من نسبة التضخم العام المقبل، حتى في الولايات المتحدة، ويحد من خطر الوقوع في دوامة الأجور والأسعار (Wage-Price Spiral) ويقصد أن تؤدي ارتفاع الأسعار لظهور مطالبات برفع الأجور تؤدي بدورها لزيادة أخرى في الأسعار وهكذا".
لا هناك عوامل دائمة تدفع في اتجاه زيادة الأسعار
على الرغم من أنَّ معظم الاقتصاديين المنحازين إلى أنَّ "الضغوط التضخمية الحالية دائمة" لا يرفضون هذه الحجج ويتفقون على الطبيعة المؤقتة لبعض ارتفاعات الأسعار، لكنهم يحذرون من أنَّ العوامل المؤقتة التي تدفع الأسعار إلى الصعود ليست القوة الوحيدة المؤثرة.
يقول توماس فيليبون، أستاذ المالية في كلية "ستيرن للأعمال" بجامعة نيويورك، إنَّه "أمر طبيعي أن ينظر الناس أولاً إلى تغيّرات الأسعار بحسب الاستهلاك الفردي، لكن عندما يتعلق الأمر بمقاييس التضخم الأوسع نطاقاً -لاسيما في الولايات المتحدة- يتضح أنَّ هذا غير صحيح لأنَّه لا يعكس الطلب الزائد الموجود".
"عندما تسمع المطالبة بتدخل الاحتياطي الفيدرالي وكيف سوف يساعد ذلك في تحسين سلاسل التوريد، تدرك فجأة إلى أي مدى قد يخطئ الناس كثيراً في فهم الوضع على نحو صحيح، كما حدث في السبعينيات عندما أخطأت السلطات في معظم الدول في تشخيص صدمات أسعار النفط باعتبارها عابرة، الأمر الذي سمح أن يصبح ارتفاع الأسعار هو المعيار الذي توقعه الجميع.
لا يوجد إنتاج كاف للتوسع في الاستهلاك
بالنسبة إلى الفريق المعتقد بديمومة التضخم الحالي، تنبع المخاوف المتزايدة بشأن استمرار التضخم من الانتعاش الحاد في الإنفاق في مرحلة ما بعد الوباء دون أن يقابل ذلك معروض كافي من السلع أو العمالة، حيث لا يزال المصنعين والموزعين غير قادرين على العودة إلى مستويات الإنتاج والتوريد في فترة ما قبل الجائحة لأسباب كثيرة، من بينها نقص المواد الخام والعمالة.
وبغض النظر عن اختناقات سلاسل الإمداد ومشكلة نقص العرض، فإنَّ الطلب العالمي على جميع المكونات الأساسية والمواد الخام والسلع الناقصة قد بلغ مستويات قياسية، حيث وصل العجز العالمي في سلاسل توريد رقائق أشباه الموصّلات إلى مستوى تجاوز كثيراً مستويات 2019.
من جانبه، يحذر جيسون فورمان، أستاذ الاقتصاد في "كلية كينيدي للإدارة الحكومية" بجامعة هارفارد الأمريكية، من أنَّ "حجج اختناقات سلاسل التوريد مبالغ فيها إلى حدٍ كبير".
قال فورمان: "كان هناك بعض التدهور في سلاسل التوريد، كما هو الحال في الرقائق الإلكترونية. لكن معظم ما يتحدث عنه الناس فيما يخص "سلاسل التوريد" هو في الواقع زيادة هائلة في الطلب لم تحفز زيادة متعادلة في العرض، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار".
مع وجود مؤشرات على أن بعض العُماّل الأكبر سناً قد تركوا سوق العمل طواعيةً إلى الأبد خلال جائحة فيروس كورونا فيما بات يُعرف باسم "الاستقالة الكبرى"، فإنَّ هذه المستويات المرتفعة من الإنفاق تزيد الضغوط في العديد من الدول، في تحركات من غير المرجح أن تكون مؤقتة.
يقول روبن بروكس، أحد الاقتصاديين رفيعي المستوى لدى معهد التمويل الدولي: "عادت معدلات الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي في الولايات المتحدة إلى اتجاه ما قبل جائحة كوفيد-19، وهو أمر لم يحدث قط بعد الأزمة المالية العالمية"، ويعزي بروكس هذا التعافي إلى سياسة استجابة مالية ونقدية سريعة للغاية من جانب الحكومة الأمريكية. لكنه يشير إلى أنَّ الصورة على مستوى العالم غير متسقة، مع كون الولايات المتحدة الأكثر تأثراً بهذا الارتفاع في حجم الطلب وتبدو اليابان الأقل تضرراً.
مصداقية البنوك المركزية في خطر
ومع ذلك، حتى لو لم تكن الصورة صارخة بنفس القدر خارج الولايات المتحدة، فإنَّ خبراء الاقتصاد، الذين يخشون من استهانة البنوك المركزية بمستوى الضغوط التضخمية وآفاق استمرارها، يطالبون الآن بسياسة مالية أكثر صرامة -تشمل تقليص برنامج شراء الأصول ورفع أسعار الفائدة لتهدئة وتيرة الإنفاق المتسارعة، واصفين هذه الإجراءات بالنهج الحذر، لأنَّ مصداقية البنك المركزي في ضبط الأسعار تستغرق سنوات حتى يكتسبها، لكنها تُفقد سريعاً.
يقول محمد العريان، إنه يعتقد أن بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة بات يفقد مصداقيته، مضيفًا أنه من المهم الإشارة بمصداقيته بشأن التضخم، وهذا له آثار مؤسسية وسياسية واجتماعية هائلة في البلاد.
جاء ذلك في إطار منتدى صناعة الطاقة ADIPEC في "أبو ظبي"، حيث أكد العريان أن موقف بنك الاحتياطي الفيدرالي من التضخم أضعف التوجيهات المستقبلية للبنك المركزي ويقوض أجندة الرئيس الأمريكي جو بايدن الاقتصادية.
يقول ريكاردو ريس، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، إنَّ التحدي الرئيسي الآن "يتمثّل في مدى مصداقية البنوك المركزية وقوة التزامها بتقليل التضخم إلى المستوى المستهدف".
وأضاف: "لكن إذا استمرت البنوك المركزية هذا العام في إعطاء الأولوية للتوظيف والاستقرار المالي على حساب ضبط معدل التضخم، سيفقد الناس بالتأكيد الثقة في جدية تلك البنوك بشأن إبقاء التضخم منخفضاً وستبدأ مساومات رفع الأجور، وينتهي بنا الحال إلى نظام تضخمي مرتفع".
سيؤدي هذا المسار إلى تقويض الثقة في قيمة الأموال، وهو شيء لم يقلق بشأنه إطلاقاً مئات الملايين من مواطني الاقتصادات المتقدّمة على مدار الـ30 عاماً الماضية.