محطات في العلاقات التركية الأمريكية المتذبذبة.. من الشراكة الاستراتيجية إلى إدارة الخلافات

عربي بوست
تم النشر: 2021/11/16 الساعة 13:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/11/16 الساعة 13:13 بتوقيت غرينتش
أردوغان وبايدن خلال اجتماعهما على هامش قمة العشرين في روما، أرشيفية 2021/ AA

رغم نقاط الخلاف العديدة والعلاقات المتذبذبة مع الولايات المتحدة الأمريكية، تظل تركيا أحد مفاتيح السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط والقوقاز والبلقان، انطلاقاً من دور أنقرة المهم كنافذة على محاور ذات أهمية خاصة لواشنطن.

حيث تولي أنقرة أهمية بالغة للتحالف الراسخ متعدد الأبعاد مع واشنطن، الذي يعود تاريخه إلى أعوام طويلة، وحتى اللحظة، نجحت الشراكة والتحالف بين الطرفين في تجاوز العديد من الأزمات، التي وصلت ذروتها قبل عامين عندما فرضت واشنطن عقوبات على أنقرة، بسبب شراء منظومة إس-400 الروسية.

ورغم اعتبار العلاقة بين واشنطن وأنقرة استراتيجية، فإنها لم تكن يوماً على ما يرام، خصوصاً في ظل وجود حكومات قوية بتركيا، إذ بدت أنقرة خصوصاً خلال العقدين الأخيرين تحت قيادة "حزب العدالة والتنمية"، حريصة على نوع من الاستقلالية في قراراتها، حيث نهجت في سياساتها الخارجية استراتيجية قائمة على الانفتاح على جميع القوى العالمية النافذة، مع تحقيق قدر التوازن في علاقاتها مع تلك القوى، بما يحقق أكبر قدر من المصالح الاستراتيجية لتركيا.

وقد نجحت أنقرة إلى حدّ كبير في تطبيق استراتيجية التوازنات، ما أهلها لتصبح قوة إقليمية يحسب لها حساب، ولتكون لاعباً رئيساً في عدة ملفات إقليمية معقدة، في مقدمتها الملفان السوري والليبي، ويكون لها ثقل سياسي وعسكري في مناطق القوقاز والبلقان.

الخلافات التركية الأمريكية

ثمة مشكلات ذات طابع استراتيجي شكلت على الدوام -من وجهة نظر أنقرة- مصدر تهديد جدي للعلاقات بين البلدين، يضاف إليها توترات أقل أهمية، لكنها ساهمت هي الأخرى في تعكير صفو العلاقات بينهما.

أولها، اختلاف التقديرات والتصورات لكل من تركيا والولايات المتحدة بخصوص ترتيبات الأمن في المنطقة، وعلى رأس هذه التباينات تقع مسألة دعم واشنطن لمنظومة "بي كا كا" المصنفة منظمةً إرهابية بشتى فروعها ومختلف مسمياتها، واتخاذها شريكاً استراتيجياً في الحرب على الإرهاب.

وتعتقد أنقرة أن واشنطن لا تبالي بالأمن القومي التركي، ولا تكترث لما سبق ومثلته هذه الميليشيات الانفصالية من تهديد كلّف تركيا خلال ثلاثة عقود أكثر من تريليون دولار كما تقول أنقرة، بالإضافة إلى أنه تسبب في مقتل ما يقارب أربعين ألف إنسان.

ثانياً، يأتي دعم الكيان الموازي في السياق ذاته، حيث لا تزال واشنطن تصر على عدم تسليم فتح الله غولن، الذي تتهمه أنقرة شخصياً بترتيب محاولة الانقلاب الفاشلة، في 15 يوليو/تموز 2016، رغم جميع الأدلة التي قدمتها أنقرة لواشنطن بهذا الخصوص.

ثالثاً، تتهم أنقرة واشنطن بتجاهل مطالبها بتأمين احتياجاتها الدفاعية الاستراتيجية، وكأنها تابع لا حليف استراتيجي، وهو ما بدا من تجاهل مطالب التسليح التي توجهت بها تركيا للدول الغربية، قبل أن تتجه لروسيا، ما يثير الشكوك لدى أنقرة حول الأسباب التي تقف خلف تجاهل مطالبها في الدفاع عن نفسها.

رابعاً، قرار إدارة الرئيس جو بايدن بإخراج تركيا من مشروع طائرات F35، بالرغم من وفاء أنقرة الكامل بجميع التزاماتها تجاه المشروع.

خامساً، قضية المصرفي التركي هاكان أتيلا، الذي احتجزته السلطات الأمريكية، في 27 مارس/آذار 2017، بتهمة خرق العقوبات الأمريكية على إيران، وحكم عليه القضاء الأمريكي بالسجن لمدة 32 شهراً، ثم أفرجت عنه بعد 28 شهراً، وسلمته لتركيا.

سادساً، بعد توليه منصبه بثلاثة أشهر، أجرى الرئيس بايدن، الذي تحدث عن دعم المعارضة لإسقاط أردوغان في حملته الانتخابية، اتصالاً هاتفياً بنظيره التركي ليبلغه بإقراره بما يسمى "الإبادة الجماعية للأرمن". حيث إن إقرار بايدن، بأن الأرمن تعرضوا لمذبحة مزعومة على يد الإمبراطورية العثمانية عام 1915، وهو تصنيف حرص الرؤساء الأمريكيون السابقون على تجنب استخدامه، مراعاة لعلاقات الشراكة الاستراتيجية مع أنقرة.

العوامل المؤثرة على الموقف الأمريكي

ورغم نقاط الخلاف، تظل تركيا أحد المفاتيح المهمة للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان، انطلاقاً من الدور المهم لأنقرة كنافذة على محاور وبلدان ذات أهمية خاصة بالنسبة لواشنطن مثل إسرائيل والعراق وإيران وسوريا وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان، ودورها المحوري في حفظ الاستقرار في الحزام الممتد من وسط أوروبا حتى تخوم الهند وروسيا.

يمكن إجمال الاتفاق والخلاف بين أنقرة وواشنطن من وجهة نظر الأخيرة بالشكل التالي:

أولاً: تحول البوصلة التركية نحو روسيا

أثار شراء تركيا لمنظومة "إس 400" الروسية مخاوف حقيقية لدى واشنطن، من انحراف تركيا باتجاه المحور الروسي المعادي لحلف الناتو. حيث لم يقتصر التعاون التركي الروسي على شراء المنظومة، فقد تطورت العلاقة بين الطرفين إلى مشاريع استراتيجية عملاقة في مجالات الطاقة النووية والتعاون في سوريا، وارتفع مستوى التبادل التجاري بينهما إلى أرقام قياسية.

ترى الولايات المتحدة ومعها الدول الأعضاء في حلف "الناتو"، شراء تركيا للمنظومة الروسية تهديداً محتملاً للأمن الجماعي الأوروبي، من دون النظر إلى المسؤولية الأوروبية عن توجه أنقرة شرقاً، وبخاصة خذلان دول الناتو لتركيا أثناء تدهور علاقاتها مع روسيا، على خلفية إسقاط الطائرة الحربية الروسية على يد ضباط أتراك من تنظيم الكيان الموازي.

ثانياً: الصناعات الحربية التركية

قطعت تركيا شوطاً بعيداً في تطوير صناعاتها الحربية، من حيث المبدأ لا ترى واشنطن بأساً في ذلك، لكن الأدوار العسكرية التي قامت بها مسيرات "بيرقدار" في ليبيا وسوريا وأذربيجان أذهلت المراقبين العسكريين والسياسيين معاً، وأصبحت كثير من الدول تنظر إلى تركيا كمنافس قوي في مجال الصناعات العسكرية. في هذا الإطار بدأت واشنطن باتخاذ بعض الإجراءات التي من شأنها التضييق على قطاع الصناعات العسكرية التركية.

ثالثاً: دور تركيا بالقوقاز

ترى الولايات المتحدة تركيا شريكاً استراتيجياً، يلعب دوراً هاماً في خدمة المصالح الأمريكية بمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، يتمثل في مواجهة روسيا.

التحول في استراتيجية المواجهة الأمريكية، من مواجهة روسيا إلى مواجهة الصين، ومحاولة إبعاد روسيا عن الصين، أدى إلى زيادة حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحالف مع تركيا.

وفي هذا الإطار، حدّدت الاستراتيجية الأمريكية الدور التركي في تمثيله خط دفاع متقدماً في مواجهة روسيا، من خلال العمل على الحد من قدرتها، ومن سعيها إلى نشر نفوذها في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى. وقد لعبت تركيا هذا الدور بكفاءة منذ انضمامها إلى حلف الناتو عام 1952.

رابعاً: دعم أوكرانيا

تدعم الولايات المتحدة العلاقات الاستراتيجية المتطورة بين تركيا وأوكرانيا، وترى تلك العلاقات مدخلاً مناسباً لإقحام أنقرة في الملف الأوكراني الساخن، المرشح للانفجار في أي وقت.

ويشكل الملف الأوكراني أحد خطوط التماس الساخنة بين الولايات المتحدة وروسيا، خصوصاً بعد قيام الأخيرة باحتلال شبه جزيرة القرم.

خامساً: الانفتاح التركي على القارة الإفريقية

نجحت الصين في اختراق القارة الإفريقية، من خلال تقديم خدمات غير محدودة في مجالات عدة، ولأن الوجود الأمريكي في القارة السمراء ضعيف، وخياراتها هناك محدودة، فهي بحاجة إلى شريك استراتيجي موثوق.

لهذا السبب تدعم الولايات المتحدة وجود تركيا وتمددها في القارة السمراء، كشريك استراتيجي يمكن العمل معه على كبح جماح التغول الصيني هناك، بما تملكه تركيا من روابط تاريخية وقوة ناعمة تؤهلها لبناء علاقات متينة هناك دون مصاعب تذكر، على عكس الدور الفرنسي والأوروبي غير المرغوب والمنبوذ إفريقياً، والذي لا يستطيع الصمود أمام التنين الصيني.

سادساً: إشراك تركيا في الصراع مع إيران

من بين الملفات الخلافية ذات الطبيعة الإقليمية التي تعقد الموقف الأمريكي من تركيا، ما تبديه أنقرة من تمسك بعلاقاتها مع إيران، ضاربة عرض الحائط بالتحذيرات والعقوبات الأمريكية، وهو ما أدى لعدد من حوادث الاحتكاك وتوتر العلاقات بين الطرفين، منها ملف اعتقال المصرفي التركي هاكان أتيلا.

سابعاً: التحذيرات الأمريكية بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان

تتهم أنقرة واشنطن بصنع "دعاية سلبية" حول انتهاكات حقوق الإنسان والديمقراطية بتركيا، وتقول الأناضول، في كثير من الأحيان تقوم الإدارات الأمريكية باستخدام هذه الحالة السلبية للضغط على تركيا، من أجل دفعها لاتخاذ مواقف معينة، مثل ممارسة ضغوط أكثر على إيران، على سبيل المثال.

وفي بعض الحالات يضطر الساسة الأمريكان إلى مجاراة ما يشاع في الصحافة الأمريكية لكسب أصوات الناخبين، فيقومون بالإدلاء بتصريحات عدائية ضد تركيا إرضاء للرأي العام الأمريكي، وهذا ما ترفضه تركيا بشدة.

وقد اتفق الرئيسان أردوغان وبايدن على آلية للتخفيف من حدة التوتر الناتج عن تلك الحملات السلبية ضد تركيا.

ثامناً: تصريحات أردوغان تجاه إسرائيل بسبب فلسطين

في ضوء سعي أنقرة لزيادة نفوذها وتأثيرها في العالم الإسلامي، تأتي قضية القدس والمسجد الأقصى في مقدمة الرموز التي تعنى بها تركيا، وقد أدى إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في 7 ديسمبر/كانون الأول 2017، إلى مواجهة سياسية ودبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا، التي تزعمت احتجاجاً إسلامياً في مواجهة قرار نقل السفارة.

وتمثل العلاقات التركية المتوترة مع تل أبيب أحد أهم دوافع القلق الأمريكي من تركيا، خصوصاً مع تنامي العلاقات بين حكومة "حزب العدالة والتنمية" وحركة "حماس" الفلسطينية.

وقد ساهم قيام جهاز المخابرات التركي مؤخراً باعتقال شبكة تجسس تعمل لحساب إسرائيل، في زيادة حالة التوتر بين البلدين، بحسب الأناضول. ولا يخفى على أحد أن أي توتر استراتيجي لأي دولة في منطقة الشرق الأوسط مع تل أبيب سيؤدي بالضرورة إلى توتر في علاقاتها مع واشنطن.

ما مجالات التعاون بين تركيا والولايات المتحدة؟

تولي أنقرة أهمية بالغة للتحالف الراسخ متعدد الأبعاد مع الولايات المتحدة، الذي يعود تاريخه إلى أعوام طويلة، وقد نجحت علاقات الشراكة والتحالف بين البلدين في التغلب على معظم التحديات.

هناك مجال كبير للتعاون مع الولايات المتحدة على نطاق واسع، بدءاً من سوريا مروراً إلى ليبيا وأوكرانيا، إضافة إلى مكافحة الإرهاب والطاقة والتجارة والاستثمارات.

رغم كورونا، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا والولايات المتحدة خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري 2021، أربعة مليارات و272 مليون دولار، فيما وصلت الاستثمارات الأمريكية المباشرة في تركيا إلى 13 مليار دولار، وبلغت استثمارات الشركات التركية في الولايات المتحدة 7.2 مليار دولار. وقد تم تحديد الحجم المستهدف للتجارة مع الولايات المتحدة بمبلغ 100 مليار دولار.

مستقبل العلاقات التركية الأمريكية إلى أين؟

بالتأكيد لا توجد عصا سحرية تنهي الخلافات كلياً، إنما بالإمكان تحييد المواضيع الخلافية التي تؤدي إلى توتر العلاقات بين البلدين، والتركيز على القواسم المشتركة القائمة على المصالح المشتركة، وبناء آلية لإدارة المواضيع الشائكة.

رغم المشاكل الكبيرة والخطيرة القائمة بين البلدين، فإن تاريخ وواقع العلاقات التركية الأمريكية ومجالات التعاون المشترك تشكل العامل الأساس في استمرار العلاقة بينهما.

ولأن البلدين لا يملكان خيار "الطلاق البائن" والتخلي عن خدمات بعضهما البعض، فهما مضطران للتركيز على المساحات المشتركة ومجالات التعاون وطرق حل المشاكل العالقة، وبهذا الصدد اتفق رئيسا البلدين في لقائهما الأخير بروما، على هامش "قمة العشرين" على تشكيل لجان مشتركة، تعنى بحل المشاكل وتذليل العقبات.

تحميل المزيد