أثار قرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي برفع حالة الطوارئ في البلاد- المستمرة منذ سنوات- التساؤل عن سبب هذا القرار الذي يوصف بالجريء، وهل سيدخل الرئيس المصري في مصالحة سياسية، أم أن الأمر ليس له علاقة بالداخل إنما فقط مرهون بالموقف الأمريكي من الوضع في مصر.
لم يستمر التفاؤل كثيراً فبعد رفع حالة الطوارئ بأيام، أقر مجلس النواب المصري تعديلات على قانون مكافحة الإرهاب التي منحت سلطات الرئيس والقوات المسلحة في البلاد قوة.
ماذا تغير في القانون الجديد؟
وبهذه التعديلات، صار بإمكان السيسي اتّخاذ "التدابير اللازمة للحفاظ على الأمن والنظام العام". ولا عجب في أنّ السلطات المصرية ستستخدم تعريفاً فضفاضاً قدر الإمكان لجملة "الحفاظ على الأمن والنظام العام"، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
ونتيجةً لذلك، أصبح قانون مكافحة الإرهاب أوسع نطاقاً على الأرجح من قانون الطوارئ، والذي كان يُستخدم بشكلٍ روتيني ضد معارضي السيسي العنيفين والسلميين على حدٍ سواء.
ولا عجب في أيٍ من هذا، لكن الدماء تجمّدت في عروق الصحفي ستيفن كوك، من مجلة Foreign Policy الأمريكية، حين قرأ أنّ إجراء بحثٍ عن الجيش أو الكتابة عنه دون الحصول على تصريحٍ كتابي من الحكومة سيعني توقيع غرامةٍ مالية ضخمة على صاحب الفعل.
ولكن هذا هو المقصد بالطبع: بثّ الرعب في قلوب طلاب الدراسات العليا، والباحثين، والصحفيين. وهذه ليست مجرد قوانين خبيثة عديمة الشأن، بل تُمثّل غطاءً قانونية لإساءة معاملة الناس، كما حدث مع الطالب الإيطالي المسكين جوليو ريجيني، بحسب المجلة الأمريكية.
لماذا اللجوء إلى القانون؟
ومع وجود هذا القدر من السلطات في أيدي السيسي ومعاونيه، قد يبدو اهتمامهم بتعديل القوانين وتمريرها من مجلس النواب أمراً غريباً. فلماذا يشعر الحكام المستبدون، الذين يُعادون كافة جوانب السياسات الديمقراطية تقريباً، بأنّه من الضروري التظاهر إيحائياً بممارسة الديمقراطية؟ وما الذي سيعود عليهم من ذلك؟ في الواقع، سوف يستفيدون كثيراً.
وينص الدستور المصري على تطبيق نظام حكم منفتح وديمقراطي وعادل؛ إذ تنص المادة الرابعة مثلاً على أن "السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التي تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وذلك على الوجه المبين فى الدستور".
في حين تُعلن الفقرة التالية أنّ النظام السياسى يقوم على أساس التداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان، و"التعددية والحزبية". ويُمكن القول إن من وضعوا مسودة الدستور كانوا يفهمون جيداً كيف يبدو شكل المؤسسات الليبرالية والديمقراطية.
لكنهم كانوا أيضاً ماكرين بما يكفي لتضمين عبارات مثل "على الوجه المبين فى القانون"، و"بالطريقة التي يُنظمها القانون"، و"بما يتوافق مع القانون" في مختلف فقرات المواد الدستورية.
وبحسب المجلة الأمريكية، قد تبدو تلك العبارات مجرد دلالات لفظية، لكن هذا النوع من الصياغة يُمكّن السلطات المصرية من الفوز بالحُسنيين: مؤسسات تُشبه تلك الموجودة في الأنظمة الديمقراطية والليبرالية، لكن مع أبواب سرية تُسهّل القمع. فرغم أن المصريين لهم رسمياً الحق في حرية البحث (المادة 66) والنشر (المادة 71)؛ لكن تلك الحقوق محدودةٌ فعلياً لأنّها تخضع للقوانين المتعلقة بالتحريض و"تشويه سمعة الأفراد"، وهي مواد يُمكن تفسيرها بأساليب لا تحمي في الواقع الحق في البحث والنشر.
القدرة على الرد خارجياً
وبحسب المجلة الأمريكية، لماذا تتحمّل الحكومة المصرية عناء الممارسات الديمقراطية الزائفة من أجل إضافة بنود مناهضة للديمقراطية إلى القانون؟ حيث يمتلك السيسي وغيره من الزعماء في الدول غير الديمقراطية كافة السلطات، لدرجةٍ لا تبدو معها هذه الخطوة ضرورية، لكنها تظل مفيدةً لسببين. أولهما أنّ التعديلات على قانون مكافحة الإرهاب تُوفّر آليةً لإنفاذ القانون لتُساعد في السيطرة على البلاد سياسياً، وهو التوجه الأساسي للدولة المصرية. وثانيهما أنّ هذه التعديلات تمنح المدافعين عن النظام طريقة للرد على الانتقادات من الداخل والخارج وتفنيد مزاعمها، وهذا هو الأهم.
وفي حال أعربت وزارة الخارجية الأمريكية مثلاً عن "قلقها" أو "قلقها الشديد" من الطبيعة القمعية للنظام السياسي المصري؛ فسوف يخرج المتحدث باسم الخارجية المصرية ببساطة ليُشير إلى أنّ النظام المصري برلماني ويجري الفصل فيه بين السلطات، فضلاً عن أن الدستور يضمن حقوق الإنسان وحرياته وسيادة القانون. ولن يكون المتحدث كاذباً حينها. وهذا هو ما يصفه ستيفن كولبير بـ"ادعاء الصدق"، الذي يستخدم عبارات صادقة بما يكفي لكنها لا تنقل الصورة الكاملة.
روسيا واللعب بالقانون
وهذه الظاهرة ليست حكراً على مصر فقط؛ إذ يستخدم المسؤولون في المجر وروسيا وبولندا وغيرها من الدول نفس الحجج في حوارهم.
وعلى سبيل المثال في روسيا، فقد وقع بوتين قانوناً يمنع بموجبه الروس الذين يتعاملون مع منظمات، تصنفها موسكو بـ"المتطرفة"، في إشارة خاصة إلى المعارضة، من الترشح في الانتخابات. ويعتبر أنصار الناشط ألكسي نافالني أنهم المستهدفون أساساً بهذا القانون. وكان مجلس الاتحاد الروسي، الغرفة العليا في البرلمان، قد وافق بغالبية ساحقة على القانون في وقت سابق هذا الأسبوع.
لم يعد بإمكان الروس المتعاملين مع منظمات، تصنفها موسكو "متطرفة"، من خوض الانتخابات في بلادهم بعد مصادقة الرئيس على قانون بشأن ذلك.
ولا يطال القانون أعضاء ونشطاء بارزين في فريق المعارض المعروف نافالني فحسب، بل أيضا آلاف الروس الذين يدعمون عمل الشبكة من خلال التبرعات.
ولن يتمكن مسؤولو تلك المجموعات من الترشح للانتخابات البرلمانية لخمس سنوات، فيما أعضاؤها والذين ساهموا في تمويل نشاطهم سيُمنعون من الترشح لثلاث سنوات.
وبالعودة إلى مصر، يرفض المسؤولون دوماً التقييمات الغربية لسجل بلادهم المؤسف في مجال حقوق الإنسان، ويُؤكّدون على أن السجناء تم توقيفهم لسببٍ ما وأنّ قضاة مصر المستقلين هم من اتخذوا القرار.
وبحسب المجلة الأمريكية، فهذه تصريحات مقبولة فقط في أوساط أنصار النظام بالطبع. ومع ذلك فليس الغرض هنا هو محاولة إقناع أنصار النظام بأمرٍ يؤمنون به فعلياً. لكن الغرض هو إدخال الأدوات الاستبدادية والتدابير التقييدية على النظام القضائي والدستوري، حتى يتمكّن الأنصار من الرد على انتقادات الحكومات الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان الدولية وحفنة من المعارضين المحليين الباقين.
وقد ناشد النشطاء زعماء الولايات المتحدة وأوروبا كثيراً لمحاسبة الحكام المستبدين- أمثال السيسي- على كلماتهم، والحكم عليهم بناءً على ما يفرضه دستورهم من احترام لحقوق الأفراد. وهذه استراتيجيةٌ منطقية بالطبع، لكن الحكام المستبدين تمكنوا من إضفاء غطاءٍ من الشرعية على دفاعات النظام، إذ أدرجوا حقهم في إساءة معاملة المواطنين (والأجانب) ضمن مواد القانون، وبالتالي قلبوا طاولة الدستورية على منتقديهم. وقد نجحت مساعيهم حتى الآن.