في الأسابيع الأولى من ولايته، كان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أعلن أن "أمريكا عادت، عادت الدبلوماسية إلى قلب سياستنا الخارجية"، كجزءٍ من استراتيجةٍ شاملة لدفع أجندة تركِّز على حقوق الإنسان والديمقراطية، حيث يقف الأمريكيون "جنباً إلى جنب مع حلفائنا وشركائنا الرئيسيين مرةً أخرى".
لكن بعد مرور عامٍ تقريباً على إدارته، أصبح من الواضح أن الجزرة، في ظلِّ غياب العصا، ليست كافية عند السعي إلى إثناء القوى الديكاتورية المختلفة التي تسعى إلى الحفاظ على قبضتها على السلطة، كما تصف ذلك مجلة Foreign Policy الأمريكية.
الدبلوماسية الأمريكية تثبت فشلها في القرن الإفريقي
تقول فورين بوليسي إن هذا لم يكن أوضح من أيِّ مكانٍ آخر كما هو في القرن الإفريقي، حيث أثبت الحكَّام استجابتهم للبندقية أكثر من استجابتهم للشارع. في مثل هذه المنطقة، أن تُحتَرَم هو أن تُخشَى.
لكن في عامٍ من الدبلوماسية رفيعة المستوى المستمرة لدعم التحوُّل الديمقراطي في السودان، ولتجنُّب الحرب الأهلية في إثيوبيا المجاورة، لم يولِّد خطاب الولايات المتحدة ما يكفي من الالتزام من جانب قادة هاتين الدولتين لتجنُّب نتيجةٍ كارثية مُحتَمَلة تصيب المنطقة كلها وتلحق الضرر باللمصالح الأمريكية فيها أيضاً، وتفتح الباب لنفوذ أكبر للقوى الأخرى المناوئة للولايات المتحدة الأمريكية.
سُلِّمَت رسالة بايدن من قِبَلِ المبعوث الخاص الأول للقرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، لكنه لم يفعل الكثير لتحقيق هذه الأهداف. والآن، لا يمكن أن يكون خطر الانهيار أكبر وأسوأ من ذلك في هذه المنطقة، الحيوية من الناحية الاستراتيجية، والتي تتضمَّن أكثر من 1000 ميل من ساحل البحر الأحمر.
قبل أن يتولَّى بايدن منصبه، كان فريق السياسة الخارجية لديه قد اتَّخَذَ موقفاً متشدِّداً إزاء إثيوبيا، ومنذ ذلك الحين كان حازماً في الدعوة إلى وقف إطلاق النار والمساءلة والحوار السياسي واسع النطاق في حملة الحكومة الشرسة على نحوٍ متزايد ضد المتمرِّدين في إقليم تيغراي. وبينما كانت الإدارة متَّسِقةً بشكلٍ ملحوظ في رسائلها، فإنها لم تفعل شيئاً مثيراً للدهشة لإضافة استعراض القوة إلى مطالبها، رغم المخاوف المتزايدة من المجاعة التي ترعاها الدولة، وحتى الإبادة الجماعية.
ولم تنجح الإدارة كذلك في إجبار إريتريا المجاورة على الانسحاب الكامل من تيغراي أو ردع جيش تيغراي عن توسيع هجومه المضاد في منطقتيّ أمهرة وعفرة المجاورتين.
وبينما تسعى جبهة تحرير تيغراي الشعبية الآن للتقدُّم جنوباً نحو العاصمة، ويستعد الدبلوماسيون الدوليون لإخلاء المدينة، تفشل دبلوماسية واشنطن في إحداث تأثير، كما تقول المجلة الأمريكية.
"إدارة بايدن تفشل مجدداً بتنفيذ تهديداتها"
إن قيود التأشيرات على المسؤولين الإثيوبيين والإريتريين، الذين لم تُكشَف أسماؤهم، وتعليق المساعدة الإنمائية، التي بدأت في ظلِّ إدارة ترامب، هي الإجراءات العقابية الحقيقية الوحيدة التي فُرِضَت بعد عامٍ كاملٍ من الحرب. طُرِحَ برنامج عقوبات واسع النطاق، كان قد لُوِّحَ به منذ أبريل/الماضي، في سبتمبر/أيلول، ولكن من المدهش أنه لم يعاقب المسؤولين أو الكيانات كما هدَّدَ من قبل، مِمَّا يشير إلى أن مجرد التهديد بالعقوبات ربما يكون أكثر تأثيراً من فرضها. والإعلان الأحدث بأن إثيوبيا ستخسر أكثر من 200 مليون دولار في الأفضليات التجارية الأمريكية، بموجب قانون النمو والفرص في إفريقيا، لن يسري حتى يناير/كانون الثاني المقبل.
ومع استمرار الولايات المتحدة في التمسُّك بأملٍ في غير محله في أن دبلوماسيتها وحدها ستنجح، استمرَّت أطراف النزاع في استخدام ذلك الوقت للضغط في قتالهم إلى ما هو أبعد من النقطة التي ستكون فيها كلمات واشنطن قادرةً على صدِّهم، مِمَّا يثير شبح حريق إقليمي أوسع. ومع حرص مصر على إنهاء المفاوضات حول سد النهضة الإثيوبي الكبير، وسعي الجيش السوداني لاستعادة أجزاء كبيرة من حدوده المُتنازَع عليها مع إثيوبيا، فإن استمرار التدهور في إثيوبيا ليس في مصلحة أحد.
وفي السودان، الذي وَعَدَ في وقتٍ سابق بإجراء انتقال ديمقراطي للسلطة، ركَّزَت الدبلوماسية الأمريكية على تحفيز أنماطٍ صحيحة من السلوك إزاء ذلك البلد؛ إذ تم التعهُّد بتقديم أكثر من مليار دولار حتى الآن لدعم تخفيف عبء الديون ودعم ضمانات الاستثمار وإصلاح الحوكمة، علاوة على الدعم المالي المباشر. ومع ذلك، لم يُبذَل أيُّ جهدٍ جاد لحماية هذه الاستثمارات من خلال إعداد سياسات لإضعاف تلك العناصر من المجلس العسكري الذي لا يزال في الحكم.
هذا الاستثمار الأمريكي الهائل أصبح موضع شكٍّ حين جاء يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول عندما علَّق الجيش السوداني الدستور الانتقالي، واعتقل رئيس الوزراء المدني المدعوم من الولايات المتحدة، ودشَّنَ حملة اعتقالات جماعية للمعارضة السياسية والمتظاهرين المؤيِّدين لحكومة حمدوك في الشوارع. ومع تعليق المساعدة الدولية الآن، ودعوة الولايات المتحدة إلى العودة إلى الوضع السياسي الذي كان قائماً قبل الانقلاب، أعلن رئيس المجلس العسكري في السودان أنه لن يتراجع، ويستعد في المقابل لتنصيب حكومة جديدة.
ورغم أن واشنطن نجحت في استمالة إجماع قوي من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على "استعادة الحكومة الانتقالية التي يقودها مدنيون"، لا تزال المخاوف قائمة من أن الجهات الفاعلة الخارجية تعمل على الأرجح وراء الكواليس لتقويض هذا الإجماع وتشجيع الخط العسكري المتشدِّد.
ومن جانبها، هدَّدَت إدارة بايدن بإنهاء أهلية أديس أبابا بموجب قانون الفرص والنمو الإفريقي. ومن شأن القيام بذلك أن يضر الفقراء أكثر من غيرهم.
"أمريكا ترفض استخدام أدوات تعزيز دبلوماسيتها"
تقول فورين بوليسي: هنا مرة أخرى تمتلك واشنطن الأدوات اللازمة لتعزيز دبلوماسيتها، لكنها رفضت استخدامها، حيث العقوبات المتعلِّقة بحقوق الإنسان ضد الجيش وشركاته، وتصنيف قوات الدعم السريع والاستخبارات العسكرية (الجناة الرئيسيين في الانقلاب) كمنظَّماتٍ إرهابية، والاستخدام الأفضل لهياكل العقوبات التي لا تزال مُدرَجة منذ انقلاب السودان السابق عام 1989.
ونزاع دارفور من شأنه أن يضيف قوةً إلى الدبلوماسية الأمريكية، ويمكن فهمه خارج الخرطوم، في عواصم مثل القاهرة وموسكو، التي تمد شريان الحياة للجيش من خلال دعمهم السياسي والعسكري. وحتى وصف أحداث الشهر الماضي بـ"الانقلاب"- وهو أمرٌ تجنَّبه بيان وزارة الخارجية بإصرار- من شأنه أن يبدأ في صدِّ الرواية العسكرية غير المفهومة التي مفادها أنه تصرُّفٌ لإنقاذ المرحلة الانتقالية.
ولكن مع اعتقال النشطاء المؤيِّدين للديمقراطية في السودان الآن لمجرد لقائهم بمبعوثي الأمم المتحدة، فإن الافتقار إلى الإجراءات العقابية الأمريكية ضد قادة الانقلاب قد أضعف فقط قوة الدبلوماسية الأمريكية وعرَّضَ الحلفاء المؤيِّدين للديمقراطية لخطرٍ حقيقي.
مع بدء الأزمات في السودان وإثيوبيا في الخروج عن نطاق السيطرة، يجب على المسؤولين الأمريكيين أن يعترفوا بضعف الدبلوماسية وأن يبدأوا في ممارسة الضغط من أجل إحداث تأثير، وأيضاً لتشكيل النتائج السلمية والديمقراطية التي تدعو لها إدارة بايدن. لكن فرض حظر إقليمي على الأسلحة، وتعليق تمويل الديون، وإصدار عقوبات مستهدِفة للكيانات المملوكة للحكومة والقادة العسكريين في كلا البلدين ستكون بدايةً متأخِّرة. لذلك لا بد من تقديم المزيد من الدعم المباشر للنشطاء المؤيِّدين للديمقراطية وصنَّاع السلام على الأرض الذين يكافحون من أجل إسماع أصواتهم في ظلِّ قطع الإنترنت والمعلومات المُضلِّلة للحكومة.
تقول المجلة الأمريكية في النهاية، إن صانعي السياسات الأمريكيين سيُحسِنون صنعاً أيضاً إذا استجابوا لنداء أحد السياسيين المحاصرين في السودان الذين لم يحصلوا على أيِّ مساعدةٍ ملموسة، إذ قال: "يجب أن يكون الضغط أكثر من مجرد تغريدات. يحتاج هذا الضغط إلى آلياتٍ يمكن أن تخلق ضغطاً حقيقياً على الجيش".