ماذا يعني الحوار الاستراتيجي بين مصر وأمريكا؟ ومتى انطلق أول مرة؟ ولماذا توقف منذ عام 2015؟ وهل تختلف نتائجه هذه المرة في ظل إدارة جو بايدن؟
قبل الدخول في الجولة الحالية من الحوار الاستراتيجي الأمريكي المصري، التي انطلقت الإثنين 8 نوفمبر/تشرين الثاني، وتستمر جلساتها حتى الثلاثاء 9 نوفمبر/تشرين الثاني، برئاسة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ونظيره المصري سامح شكري، نتوقف قليلاً عند قصة ذلك الحوار منذ بدايتها.
وبشكل عام يشير مصطلح "الحوار الاستراتيجي" في العلوم السياسية والعلاقات بين الدول إلى واحد من أعلى مستويات التنسيق بين الدول الحليفة، ولا يقتصر هذا التنسيق على الجوانب الأمنية أو العسكرية فقط، بل يشمل مجالات الاستثمار والصحة والتعليم والثقافة وغيرها.
البداية من بيل كلينتون
انطلقت فكرة الحوار الاستراتيجي بين واشنطن والقاهرة عام 2008، أثناء إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون والرئيس المصري الراحل حسني مبارك، واستمرت دورات انعقاده بصورة دورية طوال فترتي رئاسة كلينتون.
ويصف تقرير لموقع معهد الأبحاث الأمريكي "المجلس الأطلسي" فكرة عقد حوار استراتيجي أمريكي-مصري بأنها "رمزية بالأساس، إلا أنها تمثل فرصة لتبادل مباشر لوجهات النظر بين كبار المسؤولين في البلدين بشأن الأولويات الرئيسية لكل منهما حول عدد واسع من القضايا".
لكن وبرغم استمرار عقد الحوار الاستراتيجي سنوياً خلال إدارة كلينتون، لم يتحقق الكثير من خلال جولاته المتعددة، بحسب تقرير لموقع مجلس العلاقات الخارجية، معهد بحثي أمريكي تابع لوزارة الخارجية. إذ كان الهدف هو توسيع العلاقات بين واشنطن والقاهرة لأبعد من التركيز على القضايا الأمنية، إلى إقامة علاقات وثيقة أكثر في مجالات التجارة والاستثمار والتعليم.
وبحسب تقرير مجلس العلاقات الخارجية، كان الحوار الاستراتيجي، منذ انطلاقه خلال سنوات من حكم مبارك، بمثابة "مناسبة للتصريحات بشكل عام وإظهار دعم واشنطن لدور القاهرة في مجالي محاربة الإرهاب وعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين"، دون أن ينتج شيء ملموس عن تلك الجولات من الحوار الاستراتيجي.
أوقفه أوباما وترامب
ومع تولي باراك أوباما الرئاسة عام 2009، وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي الأسبق أجرى اتصالاً هاتفياً بنظيره حسني مبارك في اليوم الأول له في البيت الأبيض، وكانت القاهرة محطته الخارجية الأولى، فإن الحوار الاستراتيجي بين الجانبين توقف حتى العام قبل الأخير من فترة رئاسة أوباما الثانية.
وكان السبب في ذلك التوقف هو تدهور العلاقات بين واشنطن والقاهرة في أعقاب اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، التي أطاحت بمبارك من السلطة، بعد أن انحازت إدارة أوباما بشكل علني للمتظاهرين ودعمت مطلبهم بأن يرحل مبارك.
واستمر توقف جولات الحوار الاستراتيجي بين واشنطن والقاهرة حتى عام 2015، حيث تم عقده في العاصمة المصرية للمرة الأولى والأخيرة، إذ جرت العادة أن تستضيفه واشنطن. ورأس الوفد الأمريكي في تلك الجولة من الحوار الاستراتيجي جون كاري، وزير الخارجية الأمريكي وقتها، والتقى بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وكما جرت العادة لم يتحقق الكثير خلال تلك الجولة من الحوار بين الجانبين.
غادر أوباما البيت الأبيض وتسلم دونالد ترامب الرئاسة مطلع عام 2017، لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقات القوية بين واشنطن والقاهرة، إذ شهدت سنوات ترامب الأربع في البيت الأبيض زيارات متكررة قام بها السيسي إلى الولايات المتحدة، ولقاءات في البيت الأبيض جمعته بترامب.
لكن اللافت في قصة الحوار الاستراتيجي بين واشنطن والقاهرة هو أن "الحوار" ظل متوقفاً ولم ينعقد خلال رئاسة ترامب، رغم كيله المديح لنظيره المصري ورغم تكرر اللقاءات بينهما سواء في السعودية أو واشنطن أو نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هل تختلف جولة الحوار الاستراتيجي في عهد بايدن؟
عندما تولى بايدن الرئاسة، في يناير/كانون الثاني الماضي، أدار ظهره تماماً للقاهرة، ولم يُجرِ أي اتصال مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، الذي كان بايدن قد قال عنه "ديكتاتور ترامب المفضل" أثناء الحملة الانتخابية، ووعد بوقف "الشيكات على بياض" للرئيس المصري، على خلفية السجل المروع لحقوق الإنسان في مصر خلال رئاسته.
لكن حرب غزة، التي شنتها إسرائيل على القطاع المحاصر خلال مايو/أيار الماضي، والانتصار الكبير الذي حققته حركات المقاومة الفلسطينية بزعامة حماس، قلبت موازين العلاقات في الشرق الأوسط بشكل عام، وصبت في صالح القاهرة بشكل خاص.
فالشرق الأوسط ككل كان غائباً عن أجندة السياسة الخارجية لإدارة بايدن، باستثناء الملف النووي الإيراني، وبالتالي لم يجرِ بايدن أي اتصالات مع نظيره المصري، ولم يحدث اتصال على مستوى وزاري بين البلدين، وحتى عندما أجرى الرئيس الأمريكي اتصالاته الخجولة مع بعض الزعماء في الشرق الأوسط، مثل نتنياهو وملك السعودية، لم يكن السيسي واحداً منهم ولم يكن متوقعاً أن يكون، بحسب المراقبين ومسار الأحداث.
لكن كل شيء تغيّر بسبب حرب غزة، فأجرى بايدن اتصالين مع السيسي، كان الأول خاصاً وحصرياً بحرب غزة؛ حيث قدم الرئيس الأمريكي الشكر للسيسي على الدور المصري الفاعل في التوصل إلى وقف إطلاق النار والذي دخل حيز التنفيذ فجر الجمعة 21 مايو/أيار.
ثم جاء الاتصال الثاني بين بايدن والسيسي مساء الإثنين 24 مايو/أيار، ليبلغ الرئيس الأمريكي نظيره المصري اعتزامه "تعزيز جهود" حل أزمة سد النهضة الإثيوبي، بحسب بيان للرئاسة المصرية حول الاتصال الذي تلقاه السيسي من بايدن.
وعندما زار بلينكن، وزير خارجية بايدن، الشرق الأوسط أول مرة في نفس الفترة، والتقى الرئيس المصري في القاهرة ضمن جولته، لم يكن ذلك لرغبة منه أو لأن ملف الصراع العربي- الإسرائيلي أو العلاقات مع القاهرة باتت تمثل إحدى أولويات الإدارة الأمريكية -كما جرت العادة- بل جاءت تلك الزيارة تحت عنوان "مجبرٌ أخاك لا بطل"، بمعنى أنه لولا حرب إسرائيل على غزة لما كانت تلك الزيارة ولا ما حدث من تغيير جذري على السياسة الخارجية لإدارة بايدن من الأساس، بحسب افتتاحية لصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية في ذلك الوقت.
ملفات الحوار الاستراتيجي هذه المرة
وفي هذا السياق، عاد الحوار الاستراتيجي بين واشنطن والقاهرة إلى الحياة مرة أخرى، ووصل سامح شكري وزير الخارجية المصري على رأس وفد كبير إلى الولايات المتحدة، أمس الإثنين، حيث بدأت لقاءات الحوار الاستراتيجي، التي تختتم اليوم الثلاثاء 9 نوفمبر/تشرين الثاني.
وعكس المؤتمر الصحفي المشترك لبلينكن وشكري مدى الاختلاف بين وجهة النظر الأمريكية من جهة ووجهة النظر المصرية من جهة أخرى، فيما يخص أجندة الحوار وأولويات كل منهما. وفي القلب من هذا الاختلاف يأتي ملف حقوق الإنسان في مصر.
فإدارة بايدن تواجه ضغوطا هائلة من جانب المشرعين في الكونغرس وجماعات حقوق الإنسان، كي تتعامل بصرامة أكثر مع الإدارة المصرية برئاسة السيسي لإجبار الأخيرة على اتخاذ خطوات عملية في مجالات حقوق الإنسان وحرية التعبير والمسار الديمقراطي بشكل عام.
وانعكس ذلك على بلينكن في المؤتمر الصحفي قبل انطلاق جلسات الحوار الاستراتيجي، إذ قال إن أمام مصر الكثير من العمل في مجال حقوق الإنسان، مشيداً، في الوقت نفسه، بإطلاق القاهرة استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، وقال إن الولايات المتحدة ومصر تعملان معاً على إصلاح نظام الاحتجاز على ذمة المحاكمة وحماية حرية الصحافة وحرية التعبير في البلاد. وأضاف: "هناك أيضاً قضايا أخرى محل اهتمام، ومزيد من المجالات التي يمكن اتخاذ خطوات إيجابية بشأنها، ليس فقط لأن الولايات المتحدة أو غيرها يطلب ذلك، بل لأنها… في مصلحة الشعب المصري".
وكانت مجموعة من الخبراء في شؤون مصر قد وجهت رسالة مكتوبة إلى بلينكن تدعوه إلى "الحديث بصراحة عن سجل مصر المروع في مجال حقوق الإنسان" والضغط على الوفد المصري الذي يزور واشنطن لتحقيق إصلاحات جادة.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس للصحفيين في وقت لاحق إن الحوار سيشمل مناقشة قضايا محددة تتعلق بحقوق الإنسان، لكنه رفض تحديد تلك القضايا. وأضاف برايس "أبلغنا القادة المصريين بخطوات محددة شجعناهم على اتخاذها. بالطبع تم ذلك سراً لكن بشكل واضح للغاية".
بينما قال شكري، متحدثا إلى جانب بلينكن في المؤتمر الصحفي، إن مصر في عهد السيسي تشق طريقها نحو دولة أكثر ديمقراطية لكن يجب أن يكون هناك اهتمام مساو بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى جانب الحقوق السياسية والحريات المدنية. وأضاف أن هناك حاجة إلى مراقبة متبادلة فيما يتعلق بالتحديات التي تواجهها "مجتمعاتنا"، فيما يبدو أنه إشارة إلى الصراع الداخلي في الولايات المتحدة، مثل هجوم 6 يناير/كانون الثاني على مبنى الكابيتول.
وكان بلينكن قد أعلن في سبتمبر/أيلول الماضي، أن الولايات المتحدة ستحجب ما قيمته 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر إلى أن تتخذ حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي إجراء بشأن حقوق الإنسان. ولم تتلق مصر دعوة إلى قمة من أجل الديمقراطية يعقدها بايدن الشهر المقبل.
وبعد فترة وجيزة من إعلان واشنطن عن تجميد التمويل اتخذت القاهرة خطوة في الاتجاه الصحيح، حيث أسقطت التهم ضد أربع منظمات غير حكومية كانت تواجه قيوداً حكومية مختلفة منذ عام 2011 بسبب قبولها تمويلاً أجنبياً. وفي غضون ذلك، أطلقت القاهرة "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" المؤلفة من 700 صفحة، والتي عززت ظاهرياً نهجاً جديداً على هذه الجبهة. وفي أواخر تشرين الأول/أكتوبر، رفع السيسي حالة الطوارئ التي كانت سارية منذ عام 2017.
لكن بعد أيام قليلة، تبددت الآمال في إجراء إصلاح جوهري، عندما أعلنت الحكومة المصرية عن تغييرات منحت السيسي والقوات العسكرية بشكل أساسي المجموعة نفسها من الصلاحيات القاسية للأمن القومي، بحسب تحليل ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى خلال إدارة ترامب، في تقرير له نشره معهد واشنطن.
ملفات أخرى بخلاف حقوق الإنسان
لكن ملف حقوق الإنسان لن يكون الملف الوحيد بالطبع على طاولة الحوار الاستراتيجي هذه المرة، فهناك قضايا أخرى ستكون محل نقاش بين الأمريكيين وضيوفهم المصريين، أبرزها انقلاب السودان والأوضاع في ليبيا وسوريا وإثيوبيا، إضافة إلى الاستثمارات الصينية في مصر وملفات أخرى.
وفيما يخص انقلاب السودان، كتب شينكر أنه بالنظر إلى علاقات البرهان الوثيقة مع القاهرة، ودراساته السابقة في كلية عسكرية مصرية، يمكن أن تؤدي حكومة السيسي دوراً مفيداً في إقناعه بالتراجع عن الانقلاب كما تريد واشنطن، بشرط أن تكون القاهرة ميالة لذلك، مضيفاً أنه على بلينكن أن يعبّر بوضوح عن توقعات واشنطن بانضمام مصر إلى المعسكر العربي "المناهض للانقلاب".
ويرى شينكر أن حقائب الأمن القومي الرئيسية في مصر لا يديرها شكري، بل رئيس جهاز المخابرات العامة عباس كامل، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق أسامة عسكر. ومع ذلك، ما زال بوسع فريق بلينكن إجراء محادثات مثمرة مع وزير الخارجية المصري حول مستقبل المساعدات الأمريكية وسياسة مصر تجاه مختلف النقاط الساخنة في المنطقة.
أما فيما يخص ليبيا، فعلى الرغم من أن واشنطن والقاهرة قد أعلنتا دعم العملية السياسية الحالية وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية، المقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، فإن الولايات المتحدة تريد أن تضمن عدم تدخل القاهرة في الانتخابات لدعم خليفة حفتر أو عقيلة صالح أو سيف الإسلام القذافي، بل أن يكون دور القاهرة مقتصراً على دعم إجراء انتخابات نزيهة قدر المستطاع، وذلك بحسب تحليل شينكر.
وفي سوريا، تسعى مصر جاهدة الآن لعودة نظام بشار الأسد إلى البيت العربي ورفع تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية، على الرغم من الموقف الأمريكي المعادي لرئيس النظام السوري، ستكون جلسات الحوار الاستراتيجي فرصة لإدارة بايدن للحصول على ضمانات من القاهرة بأن نظام بشار الأسد مستعد لتقديم بعض التنازلات، خصوصاً ما يتعلق بتفكيك قواعد الصواريخ الإيرانية على الأراضي السورية.
الخلاصة هنا هي أن جلسات الحوار الاستراتيجي بين واشنطن والقاهرة هذه المرة تحمل أجندة دسمة من الملفات والقضايا، فهل تكون هذه الجولة مختلفة أيضاً فيما يتعلق بما قد يتمخض عنها من نتائج؟ هذا ما ستكشف عنه الفترة القصيرة المقبلة.