في ظل سعي السعودية وإيران إلى الانتقال من الحرب الباردة إلى علاقات دبلوماسية كاملة، يمتلك كل منهما أوراقاً تفاوضية توظفها الرياض وطهران لتحقيق أفضل نتيجة ممكنة لكل طرف.
وتناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي قصة التجاذب بين الرياض وطهران في تحليل عنوانه "حدود انفراجة الأزمة السعودية-الإيرانية"، رصد ما وصفه بالاستراتيجية الدبلوماسية الهادفة إلى كسب الوقت وتحقيق أقصى أفضلية ممكنة.
وكانت صحيفة Haaretz الإسرائيلية قد رصدت المؤشرات على اقتراب الرياض وطهران من تطبيع كامل للعلاقات بينهما وكيف ينعكس ذلك على تل أبيب، في تقرير بعنوان "انفراجة العلاقات بين الرياض وطهران قد تُنهي ائتلاف إسرائيل المناهض لإيران".
ويرى أغلب المحللين والمراقبين أن إعادة إقامة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض ستحقق مكاسب استراتيجية واقتصادية للبلدين، فضلاً عن بدء المحادثات بهدف الوصول إلى أرضية مشتركة حول مختلف القضايا، ومنها حرب اليمن ودور قوات الحوثيين.
هل تمتلك إيران أوراقاً أقوى؟
كانت السعودية قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية بشكل كامل مع إيران مطلع عام 2016، على خلفية قيام متظاهرين إيرانيين بمهاجمة مبنى السفارة السعودية في طهران وإشعال النيران فيه، بعد أن أعدمت الرياض رجل الدين الشيعي نمر النمر.
ومنذ ذلك الوقت، أصبح العداء قائماً بشكل معلن بين البلدين، ووصل في سبتمبر/أيلول عام 2019، إلى تعرُّض منشآت شركة أرامكو السعودية لهجوم شامل بالصواريخ والطائرات المسيّرة، واتهمت الرياض طهران بالوقوف وراء الهجوم، الذي كانت جماعة الحوثي اليمنية- المدعومة من إيران- قد تبنته بشكل رسمي.
وبحسب تحليل الموقع الأمريكي، يبدو أن إيران تتمتع بموقعٍ أفضل للمناورة في محادثاتها مع الرياض حتى تكون لها اليد العليا، بالنظر إلى الوضع الإقليمي للبلدين والانطباع الشائع بأن رحيل الولايات المتحدة عن الخليج بات أمراً حتمياً بعد انسحابها من أفغانستان.
وخير دليلٍ على ثقة طهران هو طلب إيران مؤخراً إعادة فتح قنصليات مشهد وجدة كـ"بادرة حسن نية"، قبل اتخاذ أي خطوة لإنهاء حرب اليمن. كما يُشير ذلك أيضاً إلى أن احتمالات تحقيق تقدم دبلوماسي كبير لا تزال متواضعة، رغم آمال بعض زعماء الغرب في أن تقلب المحادثات السعودية-الإيرانية موازين الأمور.
ويرى تحليل Responsible Statecraft أن هناك منطقين متناقضين -رغم تناغمهما- يُحركان الجهود الأخيرة لتحقيق الانفراجة بين إيران والسعودية، أولهما هو منطق الارتجال، حيث يرتجل زعماء البلدين خطواتهما أثناء المضي قُدُماً، وأهم ما يشغل بال أولئك الزعماء هو بقاء النظام، حيث يجب أن يُظهروا القدرة على التكيّف داخل وخارج البلاد. وهذه المخاوف التكتيكية تضع أمام قادة إيران مهمة تشكيل الإجماع حول تحديات السياسة الخارجية الأساسية، وهذه ليست مهمةً سهلة.
أما بالنسبة للرياض، فإنّ مسألة تشكيل الإجماع ليست بالتعقيد نفسه، لأن الصوت الوحيد المهم هناك هو صوت ولي العهد محمد بن سلمان، لكن مساحة المناورة السياسية والجيوستراتيجية المتاحة له أصغر بكثير من نظرائه الإيرانيين، حيث لا تزال السعودية تُواجه العدو الحوثي على الساحة الإقليمية، كما لم تُحدّد بعد طبيعة علاقتها مع إدارة بايدن على الساحة العالمية.
وعلى الجانب الآخر، تمتلك طهران أصولاً دبلوماسية واستراتيجية واقتصادية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، فضلاً عن جاهزية إيران للتخلّي عن جهود إنقاذ خطة العمل الشامل المشتركة (الاتفاق النووي)، وتركيز اهتمامها على تعزيز علاقاتها في المنطقة وما وراءها، ولا شكّ أنّ إيران لها اليد العليا الآن.
هل تصب خلافات قادة إيران في صالح السعودية؟
ويفرض هذا الواقع نفسه ليصل بنا إلى المنطق الثاني، وهو منطقٌ استراتيجي، إذ لطالما تشارك قادة إيران في قناعتهم بأنّ الهدف الرئيسي لأعداء إيران إقليمياً وعالمياً هو فرض حصار اقتصادي ودبلوماسي وعسكري -إن دعت الحاجة- على الجمهورية الإسلامية.
وأدّت هذه القناعة إلى زيادة عزم طهران على إضعاف خطر "تطويقها"، من خلال تكوين شبكة علاقات متنوعة تمنحها القدرة على إلحاق مختلف درجات الضرر بخصومها، لكن الرياض تنظر إلى هذه الاستراتيجية باعتبارها عدائية وليست دفاعية.
وفي محاولة لردع تطلعات إيران "التوسعية" أو هيمنتها؛ اعتمدت الرياض على المظلة العسكرية الأمريكية، وقد أتى تصعيد الرياض للحرب مع الحوثيين ضمن محاولات ولي العهد السعودي التصدي لإيران عن طريق ضرب أقرب حلفائها الإقليميين.
لكن سياسة بن سلمان جاءت بنتائج عكسية، لتُبرهن بذلك على حدود القوة العسكرية السعودية، وغياب استراتيجية متماسكة للتعامل مع إيران، وحقيقة ارتجال الرياض على الساحتين التكتيكية والاستراتيجية تمنح إيران أفضليةً حقيقية من المستبعد أن تنجح المملكة في تعويضها.
تحت قيادة المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، والرئيس إبراهيم رئيسي، ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان؛ من المنطقي أن نتوقع من السياسة الخارجية الإيرانية أن تعكس خريطةً ومساراً مشتركاً للمضي قُدُماً.
ومع ذلك، ورغم اتفاق فريق السياسة الخارجية الإيراني على الصورة العامة، لكن يبدو أن ذلك الفريق يرتجل كثيراً -وربما يختلف كثيراً- حين يتعلّق الأمر بقرارات السياسة الخارجية المهمة مثل مصير الاتفاق النووي مثلاً.
فخلال الأسابيع الماضية، ظهرت مؤشرات متضاربة حول ما إذا كانت طهران ستعاود الانضمام إلى محادثات فيينا وموعد تلك العودة، ما أثار انتقادات واسعة من مختلف المعسكرات ومنها صحيفة Aftab Yazd الإيرانية الإصلاحية، التي اشتكى رئيس تحريرها من "سياسة الارتباك"، في الـ18 من أكتوبر/تشرين الأول. والأربعاء 3 نوفمبر/تشرين الثاني، اتفقت الأطراف أخيراً على موعد الجولة القادمة في فيينا أواخر الشهر الجاري.
وبعيداً عن الساحة المحلية، فإنّ هذه الانتقادات الموجهة لسياسة طهران المرتجلة ستُشكّل بالطبع تصورات أهم الأطراف الإقليمية والعالمية، ففي النهاية سيكون لقرار طهران استئناف المحادثات تداعيات كبرى لأصدقاء وأعداء إيران على حدٍّ سواء.
تأثير مصير الاتفاق النووي على علاقات الرياض وطهران
وبالنسبة للسعودية، سيكون قرار طهران محورياً، فإذا أسفرت العودة للمحادثات عن إعادة إحياء الاتفاق النووي الذي يرفع العقوبات النووية دون أي بنود تتعلق بإجراء محادثات أمنية إقليمية، فسوف تتحسن أفضلية طهران بشدة في أي محادثات تجريها مع الرياض.
وبالتالي ستتعرّض السعودية لضغوطات متزايدة من أجل تقديم التنازلات في القضايا الحيوية، مثل الحرب في اليمن، ومع ذلك فإنّ فشل الحل الدبلوماسي لن يصب بالضرورة في صالح الرياض؛ نظراً لوجود إيران الاستراتيجي في المنطقة، والتقدم العسكري للحوثيين في محافظات شبوة ومأرب الغنية بالنفط داخل اليمن.
في الـ14 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أكّد مساعد شؤون العمليات في الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفروشان على ثقة إيران، حين صرّح بأنّ السعودية ليس أمامها خيارٌ آخر سوى التفاوض على إنهاء الحرب في اليمن لأنّ "العدو (السعودية) لا يستطيع هزيمة جبهة المقاومة اليمنية". وفي المقابل موقف السعودية هو أنّه يجب على إيران إنهاء دعمها لميليشيات الحوثي قبل عقد أي محادثات ذات معنى بين طهران والرياض.
ومن المفترض أن مواقف الجانبين قد ترسّخت خلال اجتماع الـ21 من سبتمبر/أيلول في مطار بغداد الدولي، حيث يُواصل العراق لعب دور الوسيط المحوري، وتُشير التقارير إلى أنّ الدبلوماسيين السعوديين والإيرانيين قد صاغوا إطار عمل مؤقتاً لحل النزاع في اليمن، لكن أحد المحللين أشار للموقع الأمريكي إلى أنّ إيران "لا يزال عليها إثبات أنّها تمتلك نفوذاً حقيقياً على الحوثيين، أو نفوذاً كافياً حتى لإقناعهم بالمشاركة في محادثات السلام".
وستعتمد أهمية هذه الحسابات المتضاربة في النهاية على مسار العلاقات الأمريكية-الإيرانية ومستقبل الاتفاق النووي. وربما تُشير التصريحات الأخيرة من المفاوضين الإيرانيين، حول استئناف المحادثات في فيينا، بنهاية نوفمبر/تشرين الثاني، إلى رغبةٍ حقيقية في العودة إلى طاولة المفاوضات، لكنها قد تكون أيضاً مناورةً تكتيكية مصممة لمنح طهران مزيداً من الوقت، بعد أن تعرضت لانتقادات شديدة من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بسبب توسيع برنامج تخصيب اليورانيوم.
مكاسب الرياض وطهران من تطبيع العلاقات
في نهاية المطاف، ستستفيد إيران والسعودية من انفراجة الأزمة، التي قد تمنحهما مزايا اقتصادية كبيرة حال تحقيقها، ومن المفارقات أن العودة للمحادثات النووية -واحتمالات زيادة صادرات النفط الإيرانية- قد تُنهي ارتفاع أسعار النفط مؤخراً بعد أن وصلت أسعار برميل الخام إلى 85 دولاراً.
وفي الوقت ذاته، فإنّ عودة المحادثات النووية وتقدمها ستعني زيادة الصادرات الإيرانية. ومع أنّ إيران قد تكسب الكثير من استدامة جهود إحراز التقدم في محادثات فيينا، لكن حكومتها المتشددة تظل متشككةً بشدة في أنّ إدارة بايدن ستفي بأي وعود على طاولة المفاوضات.
وبالتالي فإنّ الارتباك الناجم عن تباين وعود وتصريحات القادة الإيرانيين حول محادثات الاتفاق النووي يصب في صالح طهران أكثر من الرياض، سواء أكان ذلك الارتباك طبيعياً أم مقصوداً.
وبينما يُحاول القادة حسم قرارهم وإبقاء خياراتهم مفتوحة، فسوف يحظى المتشددون الإيرانيون بمساحةٍ أكبر للمناورة إذا سعوا لتحقيق الانفراجة مع السعودية، خاصةً أنّ هذه الانفراجة لن تأتي سريعاً.
ولرغبتهم في إنهاء صراع اليمن مع شكوكهم في إمكانية تحقيق ذلك، سنجد أن قادة السعودية من مصلحتهم أيضاً تهدئة العلاقات مع طهران، بحسب الموقع الأمريكي.
وعلى الأقل، فإنّ الانفراجة المتزايدة قد تُهدّئ الأجواء السياسية والاستراتيجية المشحونة في الخليج، مع حصد قدرٍ من دعم زعماء الغرب. فالانفراجة في الخليج، مثل أي مكانٍ آخر، تتعلّق بإدارة الصراعات وليس تجاوزها.