فرضت السلطات الصينية إغلاقاً على مدينة ثالثة الخميس 28 أكتوبر/تشرين الأول بعد ظهور إصابة بكوفيد-19، حيث تخشى السلطات مخاطر انتشار الإصابات قبل أقل من 100 يوم على الألعاب الأولمبية. وتشمل إجراءات الإغلاق حوالي ستة ملايين صيني، بعد يومين على قرار مماثل في مدينة لانتشو التي تضم أربعة ملايين نسمة وتقع على بعد 1700 كلم غرب بكين.
وبعد مقاطعة إيجين على حدود منغوليا، أمرت مدينة "هيلونغجيانغ" على الحدود الروسية الخميس سكانها بالبقاء في منازلهم باستثناء حالات الطوارئ كما جاء في بيان للبلدية. والصين التي سيطرت إلى حد كبير على الوباء ابتداء من ربيع 2020، تواجه ارتفاعاً متقطعاً في بعض الحالات مثل ذلك الذي سجل منذ الأسبوع الماضي في شمال الصين.
كيف بدأت الموجة الأخيرة من الإصابات في الصين بالانتشار؟
بدأت الرحلة في شنغهاي، حيث انضمَّ زوجان، وكلاهما أستاذان سابقان، إلى مجموعةٍ سياحية من المتقاعدين الآخرين. سافرا عبر مقاطعة قانسو ومانغوليا الداخلية، وأقاما في مبيتٍ يقدِّم ثلاث وجباتٍ في اليوم. سافرا جنوباً إلى شيان، ووصلا إلى معبدٍ عمره 1300 عام، وزارا وزملاؤهما من أعضاء المجموعة السياحية متحفاً فنياً، وتجوَّلوا في الحدائق وزاروا الأصدقاء.
بعد ذلك، في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وهو اليوم الذي خطَّطا فيه لزيارة ضريح الإمبراطور الأول كين، ثبُتت إصابة الزوجين بفيروس كوفيد-19.
منذ ذلك الحين، أغلقت الصين مدينةً لانتشو، بالإضافة إلى العديد من المدن الصغيرة وأجزاء من بكين، لاحتواء تفشٍ جديد أصاب أكثر من 240 شخصاً في 11 مقاطعة ومنطقة على الأقل. وأغلقت السلطات المدارس والمواقع السياحية. قامت المواقع الحكومية بتفصيل كلِّ تحرُّكاتٍ للزوجين قليلي الحظ، وشبكة تواصلاتهما مترامية الأطراف، بما في ذلك وقت تسجيلهما في الفنادق والمطاعم التي جلسا فيها.
تقول صحيفة New York Times الأمريكية، إن هذه الاستجابة تمثِّل رمزاً لسياسة "صفر حالات كوفيد" في الصين، والتي خدمت البلاد جيِّداً؛ إذ أبلغت الصين عن أقل من 5 آلاف حالة وفاة منذ بدء الوباء. ورغم صغر حجم التفشي الجديد مقارنةً بالعديد من البلدان الأخرى، فإن هذا الحجم كبير بالنسبة للصين.
الجانب السلبي لسياسة "صفر كوفيد" في الصين
لكن هذه السياسة جعلت الصين تبعد نفسها، بشكلٍ متزايد، عن بقية العالم كما تقول الصحيفة الأمريكية؛ إذ يُعاد فتح بقية العالم، بما في ذلك نيوزيلندا وأستراليا، اللتان كانتا من قبل غير متسامحتين مُطلَقاً. وتُعَدُّ الصين الآن الدولة الوحيدة التي لا تزال تطارد القضاء الكامل على الفيروس.
وقال مي فنغ، المتحدِّث باسم لجنة الصحة الوطنية الصينية في مؤتمرٍ صحفي يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول: "يجب على كلِّ منطقةٍ أن تلتزم بشدة بسياسة الدفاع خارجياً ضد عودة التفشي. لا يمكن تخفيف تدابير الرقابة الحالية".
تُعتَبَر استراتيجية الحكومة الصارمة هي نتاج مجموعة فريدة من الحسابات الصينية. ساعدت صادراتها المزدهرة في الحفاظ على الاقتصاد واقفاً على قدميه. تمكَّن القبضة المُشدَّدة للحزب الشيوعي الحاكم من إجراء عمليات الإغلاق والاختبار بكفاءة مذهلة. ومن المُقرَّر أن تستضيف بكين دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في فبراير/شباط.
بالنسبة للعديد من الصينيين، أصبحت أعداد الحالات المنخفضة مصدر فخرٍ وطني. أشار الزعيم الصيني شي جين بينغ مراراً إلى نجاح البلاد في احتواء الجائحة كدليلٍ على تفوُّق نموذج الحوكمة الخاص بها.
لكن الخبراء- سواء في الصين أو في الخارج- حذَّروا من أن هذا النهج غير مستدام. قد تجد الصين نفسها معزولةً بشكلٍ متزايد، دبلوماسياً واقتصادياً، في وقتٍ يتشدَّد فيه الرأي العام العالمي ضدها.
وقالت لينيت أونغ، أستاذة العلوم السياسية بجامعة تورنتو: "يعتقد النظام أنه بحاجةٍ إلى الحفاظ على سياسة (صفر حالات كوفيد) للحفاظ على شرعيته، لكن بتكلفةٍ باهظة".
دول العالم تُعيد النظر في تطبيق الاستراتيجية الصينية في التعامل مع كوفيد
في المرحلة المبكِّرة من الجائحة، بدا أن سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على السلطة تتوقَّف على قدرته في السيطرة على تفشي الفيروس. أدَّت المحاولات الأوَّلية للحزب للتستُّر على تفشي الفيروس في ووهان إلى تدفُّقٍ مُذهِل من الغضب العام. غمرت صور المستشفيات المُنهَكة والمرضى الذين يستجدون المساعدة على الإنترنت في الصين.
ومع انتشار الفيروس في بقية العالم، تغيَّرَت تلك الرواية. أصبحت عمليات الإغلاق الصارمة وحملات الاختبارات الجماعية في الصين، التي انتُقِدَت من قبل باعتبارها قاسية، نموذجاً لدولٍ أخرى. ومع تزايد الوفيات في الديمقراطيات الغربية، شدَّد شي جين بينغ مراراً على مدى سرعة الصين في خفض الحالات إلى الصفر. أفسح الغضب بشأن الرد الأوَّلي على ووهان الطريق إلى قوميةٍ متشدِّدةٍ في بعض الأحيان.
تم الترحيب بالبلدان الأخرى التي تبنَّت سياسات "صفر حالات كوفيد" باعتبارها نماذج للحوكمة المختصة التي تعطي الأولوية لإنقاذ الأرواح على النمو الاقتصادي.
ومع دخول الفيروس عامه الثاني، ومع ظهور سلالة دلتا الأكثر عدوى بكثير، تعيد البلدان النظر مرةً أخرى في استراتيجيتها. تلغي أستراليا، التي كانت موطناً لأطول منطقة إغلاق في العالم، مُتطلَّبات الحجر الصحي للمقيمين الذين تم تطعيمهم من الخارج. وتخلَّت نيوزيلندا رسمياً عن سعيها إلى الصفر هذا الشهر، أكتوبر/تشرين الأول. تقدَّم سنغافورة السفر بدون الحجر الصحي للسيَّاح الذين تم تطعيمهم من ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا وعدة دول أخرى.
رفضت الصين تغيير مسارها. وعندما اقترح زانغ وينهونغ، خبير الأمراض المعدية البارز من شنغهاي، هذا الصيف أن الصين تتعلَّم التعايش مع الفيروس تعرَّضَ لهجومٍ شرس عبر الإنترنت باعتباره خادماً للأجانب. وَصَفَ وزير الصحة الصيني السابق هذه العقلية بأنها متهوِّرة.
وقالت البروفيسورة أونغ إن الحكومة تخشى أيَّ تحدٍ لروايتها عن انتصارها على الجائحة. وقالت: "أصبح تفشي الجائحة أمراً شائعاً إلى درجة أنه في الحقيقة ليس حدثاً. لكن السلطات الصينية تريد السيطرة على أيِّ مصدرٍ صغيرٍ مُحتَمَل لعدم الاستقرار".
هناك أيضاً أسبابٌ أكثر عملية لتردُّد الصين. قالت تشانغ جون، الباحثة في الدراسات الحضرية في جامعة مدينة هونغ كونغ، إن الموارد الطبية تتركَّز بشكلٍ كبير في المدن الكبرى، ويمكن أن تحدث زيادةٌ طفيفة في الحالات في المناطق النائية.
بالإضافة إلى ذلك، رغم أن الصين حقَّقَت معدَّل تلقيح كامل مرتفعاً نسبياً، بنسبة 75% من سكَّانها، فقد ظهرت أسئلةٌ حول فاعلية اللقاحات المحلية.
الاستراتيجية الصينية وأزمة سلاسل التوريد
في الوقت نفسه، ذكرت مجلة Foreign Policy الأمريكية أن سلاسل التوريد العالمية مسدودة وسط الطلب المتزايد للمستهلكين- ومن المُتوقَّع أن تظل هذا النحو خلال العطلات- وهناك العديد من الاختناقات في الصين. أبلغت الشركات الصغيرة عن تأخيراتٍ تصل إلى تسعة أشهر في الوفاء بطلبات الواردة من الصين، بينما تكافح الشركات الأكبر للحفاظ على الرفوف ممتلئة بالبضائع في الولايات المتحدة.
أحد أسباب التباطؤ هو المرونة المُفاجِئة لكلٍّ من الاستهلاك الأمريكي والإنتاج الصيني بعد بدء جائحة كوفيد-19. كان الركود الذي أعقب ذلك في الولايات المتحدة قصيراً نسبياً، وينفق الأمريكيون الأكثر ثراءً الآن بشكلٍ كبير. كما تعافى التصنيع الصيني بشكلٍ أسرع من المُتوقَّع من فترة الأزمة في أوائل العام الماضي. لكن شركات الشحن كانت قد قطعت بالفعل جداولها، مِمَّا تسبَّب في اضطراباتٍ لا تزال تتردَّد عبر النظام العالمي المُنهَك.
يساهم النقص الحاد في حاويات الشحن، وهو أمرٌ بالغ الأهمية لسلاسل التوريد الحديثة، في الاضطراب الجاري. تنتشر الحاويات عادةً في جميع أنحاء العالم، لكن العديد منها عالقٌ الآن في أمريكا الشمالية، فمقابل كلِّ 100 حاوية تصل إلى هناك، تُرسَل 40 فقط إلى آسيا أو أوروبا. تتراكم الحاويات الزائدة في لوس أنجلوس وموانئ أمريكية أخرى، بينما يتنافس المورِّدون الصينيون من أجلها. سوف يستغرق الأمر شهوراً قبل أن تكثِّف الشركات المُصنِّعة للحاويات في الصين عملها لتلبية الطلب.
عاملٌ آخر هو خوف الصين من تفشي فيروس كوفيد-19 من جديد. أدَّت القواعد المفروضة لاحتواء الجائحة، مثل عمليات الإغلاق الأخيرة في فيتنام، إلى تعطيل الشحن في جميع أنحاء العالم. لكن المشكلة حادةٌ في الصين بشكلٍ خاص، حيث لا يزال السفر إلى الخارج محظوراً (كانت السلطات الصينية مرنةً نسبياً في قبول الأسباب الوجيهة لرحلات السفر).
تُعَدُّ الموانئ نقاطاً حسَّاسة بشكلٍ خاص، مع إغلاقٍ منتظم للاختبار الشامل في حالة الأفراد المصابين. وفي أغسطس/آب، أُغلِقَ ميناء نينغبو- ثالث أكبر الموانئ ازدحاماً في العالم- بسبب حالة كوفيد-19 واحدة، بعد إغلاق ميناء يانتيان- رابع أكبر الموانئ ازدحاماً في العالم- في مايو/أيَّار ويونيو/حزيران، بسبب 150 حالة. والقيود الصينية هي جزءٌ من أزمة تغيير الطاقم الأوسع التي تركت أطقم السفن عالقةً في جميع أنحاء العالم، مع التخلي عن ما لا يقل عن 1000 بحَّار تجاري بالكامل.
علاوة على ذلك، شهد التصنيع الصيني في عام 2012 معاناةً كبيرة، رغم انتعاشه القوي والمفاجئ العام الماضي. ويُعَدُّ النقص الأخير في الطاقة جزءاً من المشكلة، لكن النقص المتزايد في اليد العاملة قد يمثِّل مشكلةً أكثر ديمومةً. وجعلت قيود كوفيد-19 السفر أصعب بالنسبة للعديد من العمال المهاجرين الذي كانوا يتنقَّلون بانتظامٍ بحثاً عن عمل. لكن الصين تواجه أيضاً أزمةً ديموغرافية، حيث يستمر عدد السكَّان في سنِّ العمل في الانكماش بعد الذروة التي وصل إليها في عام 2011.