تواجه أوروبا شتاءً قاسياً مع تفاقم أزمة الغاز الطبيعي، إذ لا تزال تكلفته مرتفعة في جميع أنحاء القارة، وتسعى الحكومات الأوروبية جاهدةً لحماية مواطنيها والأسر من الشعور بالبرد أو الضيق.
وهناك عدد من العوامل التي تفسر سبب الأزمة، بما في ذلك ارتفاع الطلب مع انتعاش الاقتصادات بعد إغلاقات الجائحة، والشتاء الطويل الذي استنفد الاحتياطيات، وكذلك التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة الذي ترك فجوات في إمدادات الطاقة في أوروبا.
"الابتزاز" الروسي لأوروبا
في الوقت نفسه، تعد روسيا، أكبر مزود للغاز في أوروبا، حيث قدمت نحو 43% من واردات الغاز للاتحاد الأوروبي العام الماضي، وفقاً لبيانات جمعتها وكالة "يوروستات" المسؤولة عن الإحصاءات داخل الاتحاد الأوروبي.
لكن المنتقدين الأوربيين يقولون إن الكرملين يتلاعب بأوروبا ويستخدم الغاز كسلاح ضدها. وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول، ذكرت صحيفة فايننشيال تايمز أن غازبروم، شركة الغاز الحكومية الروسية، اقترحت على مولدوفا تعديل اتفاق التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي مقابل غاز أرخص. ولطالما شعرت أوروبا بعدم الأمان بشأن هذا العرض.
والأسبوع الماضي، قال مستشار الرئيس الأمريكي جو بايدن لأمن الطاقة العالمي عاموس هوشتاين إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقترب من استخدام الغاز الطبيعي كأداة سياسية إذا أوقفت روسيا صادرات الوقود إلى أوروبا حيث تعاني من أزمة طاقة.
وعندما سئل عما إذا كان بوتين يستخدم الغاز كسلاح ضد أوروبا، قال عاموس هوشتاين للصحفيين: "أعتقد أننا نقترب من هذا الخط إذا كان لدى روسيا بالفعل الغاز لتزويده واختارت عدم القيام بذلك، ولن تفعل ذلك إلا إذا استجابت أوروبا لمطالبه فهذا يعني أنها تستخدم الغاز كسلاح ضد أوروبا"، حسبما نقلت عنه وكالة Reuters.
من جانبه ألقى الرئيس الروسي فلادمير بوتين باللوم في الأسعار المرتفعة القياسية على سياسة الطاقة في الاتحاد الأوروبي، وقال إن روسيا يمكنها زيادة الإمدادات إلى أوروبا بمجرد الموافقة على خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، الذي يربط روسيا بألمانيا مباشرة.
ونفى الكرملين مراراً وتكراراً أن تحجب روسيا الإمدادات من أجل ممارسة الضغط للحصول على موافقة تنظيمية سريعة على خط أنابيب الغاز الجديد نورد ستريم 2 عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا. لكن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف قال في وقت سابق إن عملاق الغاز الروسي غازبروم (GAZP.MM) يزود أوروبا بالغاز بأقصى مستوياته بموجب العقود الحالية وإن أي زيادة يجب التفاوض بشأنها مع الشركة.
ولكن ما الذي يتطلبه الأمر لتقليل اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية؟ وكيف تسعى لبناء مصادر بديلة للغاز الروسي، وما العقبات التي تواجهها في هذه المهمة؟
ما مصادر الغاز البديلة التي تسعى لها أوروبا؟
حول ذلك، تقول مجلة The Economist البريطانية إن أمام أوروبا مصادر أخرى للغاز بالفعل، فمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مليئة بالغاز الطبيعي. وشكلت الجزائر وقطر بالفعل 8% و5% على التوالي من واردات أوروبا من الغاز الطبيعي في 2019. لكن أوروبا تواجه منافسة لتأمين إمدادات إضافية.
وتمثل آسيا ما يقرب من ثلاثة أرباع واردات الغاز الطبيعي المسال العالمية (LNG)، وفقاً لشركة AllianceBernstein المالية. وتشتري الصين ودول أخرى شحنات كان من الممكن أن يتم توجيهها إلى أوروبا لولا ذلك. كما أن الطلب في أمريكا اللاتينية تضاعف تقريباً في العام الماضي. ونظراً لأن معظم الغاز الآسيوي لا يزال يتم شراؤه بموجب عقود طويلة الأجل مرتبطة بسعر النفط -وهي ممارسة تخلت عنها أوروبا أثناء تحرير أسواق الغاز- تجد أوروبا نفسها أكثر عرضة لارتفاع الأسعار اليوم.
في الوقت نفسه، فإن الاستهلاك المحلي المتزايد من الغاز الطبيعي في الشرق الأوسط، والذي نما بمتوسط 4.6% سنوياً على مدار العقد الماضي، يترك مجالاً أقل للتصدير، كما تقول المجلة البريطانية.
وكانت أمريكا حريصة على تقديم نفسها كمورد بديل للغاز الطبيعي المسال. عندما وافقت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على صادرات إضافية في عام 2019، تفاخرت بتزويد حلفائها بـ"جزيئات من الحرية الأمريكية".
هل يمكن لأوروبا أن تتدبر أمرها بدون الغاز الروسي؟
زادت أوروبا بالفعل طلباتها من الغاز الطبيعي المسال على مدى العقود القليلة الماضية، ووضعت ألمانيا بالفعل خططاً لبناء محطات إضافية لاستقبال الغاز. لكنها في الوقت الحالي أصبحت بديلاً مكلفاً للإمدادات الروسية. وسوف يتطلب الأمر استثماراً كبيراً في سعة رقعة الصخر الزيتي في أمريكا لخفض الأسعار إلى مستويات مماثلة.
في الوقت نفسه، ركز الاتحاد الأوروبي أيضاً على بناء ممر الغاز الجنوبي، وهو مشروع طاقة عملاق تم تصميمه في بروكسل لتقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، وتم تدشين خط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي، ودخل حيز التشغيل العام الماضي.
وهذا الخط لديه القدرة حالياً على نقل حوالي 10 مليارات متر مكعب من الغاز إلى أوروبا سنوياً من حقل شاه دنيز في أذربيجان.
لكن هذا الخط لا يمثل سوى جزءٍ بسيطٍ من احتياجات القارة الأوروبية، ولكن على نطاق أصغر، فإن المشروع واعد، كما تقول "ذي إيكنومست". إذ إن الإضافات المستقبلية للخط، مثل موصل الغاز بين اليونان وبلغاريا، سيعني أن 33% من الطلب البلغاري على الغاز سيتم تغطيته بالغاز من أذربيجان.
وتشمل المشاريع الأوروبية الأخرى التي يجري التخطيط لها حالياً خط أنابيب بطول 1900 كيلومتر سيربط بين "إسرائيل" وأوروبا، والذي يمكن أن يوفر 20 مليار متر مكعب أخرى من الغاز سنوياً. ومع ذلك، فإن ذلك لن يغذي أوروبا بأكملها.
لماذا لا تستطيع القارة الأوروبية التخلي نهائياً عن الغاز الروسي؟
تقول المجلة البريطانية إن قطع أوروبا الغاز الروسي بالكامل والبحث عن البدائل هو أمر مفرط في الطموح، حتى على المدى الطويل. إذ تستورد القارة العجوز الغالبية العظمى من الغاز الذي تستهلكه من روسيا، وليس لديها سوى عدد محدود من البدائل.
لكنْ هناك مجال لكسر احتكار روسيا في البلدان التي كانت تعتمد تاريخياً على غازها، مثل بلغاريا ودول البلطيق. ويمكن أن تؤدي إضافة مصادر بديلة إلى هذا المزيج -مثل الطاقة النووية التي تفضلها فرنسا- إلى زيادة تنويع إمدادات الطاقة في أوروبا إلى أن تتناسب وعود مصادر الطاقة المتجددة مع الطلب. ولكن في الوقت الحالي، مع تحول الطقس إلى البرودة، لا تستطيع أوروبا تحمل تكلفة الجفاء مع روسيا.