أصبح احتمال إحياء الاتفاق النووي الإيراني، أبعد من أي وقت مضى منذ مجيء الرئيس الأمريكي جو بايدن للسلطة، وباتت الدوائر الأمريكية تتحدث عن خيارات بايدن في التعامل مع إيران وخططه البديلة لوقف برنامج طهران النووي في حال فشل المفاوضات.
تقول مجلة Foreign Affairs الأمريكية في تقرير لها حول خيارات بايدن في التعامل مع إيران "إنه في أي مفاوضات، يُقارن كل من الطرفين بين الصفقة المعروضة أمامه وبين أفضل الخيارات البديلة".
وتدعو المجلة إلى توسيع خيارات بايدن في التعامل مع إيران في ظل تضاؤل احتمال إحياء الاتفاق النووي.
لماذا لا تبدو طهران راغبة في العودة للاتفاق النووي؟
يُشير تعنُّت إيران في محادثات إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني)، التي جرت في فيينا، إلى أنّ حسابات طهران الآن قد اختلفت عن حساباتها في عام 2015- حين رأت أنّ الاتفاق النووي أفضل من استمرار الضغط الاقتصادي.
وهذا يعكس على الأرجح تراجع تقدير حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي المتشددة للاتفاق النووي الموقع عام 2015، ونظرة الحكومة الإيرانية الأكثر تفاؤلاً لبدائل الاتفاق.
ومن المرجح أن إيران توصّلت خلال السنوات الأربع الماضية إلى أنّ تخفيف العقوبات لم يكن الحل المثالي الذي تصوّرته- لأن الشركات الأجنبية كانت مترددةً في العودة إلى إيران إبان سريان الاتفاق النووي ولأنه كان من السهل للغاية على الولايات المتحدة أن تنسحب من الاتفاق أحادياً عام 2018.
ومن المحتمل كذلك أن رئيسي يشك في استعداد إدارة بايدن لفرض عقوبات في غياب الصفقة، بينما يُعلّق أمالاً كبيرة في الوقت ذاته على علاقة إيران المتنامية مع الصين لتكون قوةً مُوازِنة للضغط الاقتصادي الأمريكي.
وبعبارةٍ أخرى، يرى المسؤولون الإيرانيون أن الامتثال من جديد للاتفاق النووي صار خياراً أقل شأناً من البدائل المتاحة. لكن بايدن قد يكون قادراً على حسابات قادة إيران إذا طوّر خطةً بديلة موثوقة تزيد حدة العواقب على إيران- حال مواصلتها رفض المبادرات الدبلوماسية وتوسيع أنشطتها النووية، مع منح إيران في الوقت ذاته عرضاً دبلوماسياً لديه فرصة أفضل في البقاء لفترةٍ تتجاوز فترة رئاسته.
خيارات بايدن في التعامل مع إيران
بينما تدرس إدارة بايدن الخيارات المتاحة أمامها، يجب عليها الاستفادة من التاريخ الطويل لإخفاقات السياسة الأمريكية ونجاحاتها على الصعيد الإيراني.
والدرس المستفاد الأهم من التعاملات الدبلوماسية السابقة هنا هو أنّ الولايات المتحدة حققت أقل قدر من النجاح عند اعتمادها بشكل مكثف على نهجٍ واحد أو أداة سياسية واحدة، بينما حققت أكبر قدرٍ من النجاح عند تطبيق مختلف أدوات السياسة في وقتٍ واحد وبالتنسيق مع أهم شركائنا.
ويجب أن تتعلم إدارة بايدن من هذه التجارب بينما تُحاول إثناء إيران عن اختيار بديلٍ للاتفاق النووي. ويجب أولاً وقبل كل شيء أن تُثبت الولايات المتحدة لإيران أنّ الأخيرة ستواجه عواقب موقفها غير المبرر خلال محادثات فيينا، حين أصرّت على تخفيف العقوبات إلى ما هو أبعد من المنصوص عليه في بنود الاتفاق النووي والحصول على ضمانات بعدم انسحاب الإدارات الأمريكية المستقبلية من الاتفاق- وهي الضمانات التي لا يُمكن لبايدن توفيرها.
تراهن على الصين لتجاوز فرض عقوبات أكثر قسوة
تقول المجلة الأمريكية: "يُحسب للمسؤولين الأمريكيين بالطبع أنهم حذروا من احتمالية فرض عقوبات مشددة، لكن المخاوف من رد الفعل الإيراني وأولويات التنافس في العلاقات الأمريكية-الصينية المشحونة من المرجح أن تزيد صعوبة اتخاذ هذا القرار".
ولكن مهمة اتخاذ هذا القرار ستكون أسهل، وسيجري تضخيم الضغط العام على إيران، في حال تحرّكت الولايات المتحدة بالتنسيق مع شركائها. ففي حال انضمام ثلاثي الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، إلى الولايات المتحدة في انسحابها من الاتفاق النووي على خلفية رفض إيران العودة إلى الامتثال المتبادل؛ سيُؤدي ذلك إلى إعادة فرض عقوبات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
ولهذا قد تكون محاولة إدارة بايدن لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة مفيدة، حتى لو لم يتحقّق هدفها المباشر. ففي أسوأ الأحوال، ستكون المحاولة خير دليل على حسن النوايا الدبلوماسية، كما ستمنح شركات الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا مسوغاً سياسياً أكبر للتنسيق مع واشنطن من جديد.
هل تلجأ إدارة بايدن لتوجيه ضربة عسكرية؟
لكن يجب على إدارة بايدن أيضاً أن تتهيأ لاحتمالية ألا تكون الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية كافيةً لردع القيادة الإيرانية عن سعيها لامتلاك أسلحةٍ نووية. إذ برهن المسؤولون في طهران بالفعل على أنهم مستعدون للسماح لبلادهم بتحمّل مصاعب اقتصادية جمة في سبيل تحقيق التقدم النووي.
وتقول المجلة الأمريكية إنه نتيجةً لذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تبعث برسالةٍ واضحة تبرهن على استعدادها لتجاوز العقوبات وتوجيه ضربةٍ عسكرية في نهاية مساعيها لمنع إيران من حيازة أسلحةٍ نووية.
ومن المفهوم أن تكون إدارة بايدن مترددةً في فعل ذلك؛ إذ لا يرغب الجمهوريون ولا الديمقراطيون في خوض صراعٍ عسكري جديد بالشرق الأوسط على وجه التحديد. لكن الرد العسكري الأمريكي ستكون له ثلاث نتائج تستحق الدراسة، حسب وصف تقرير المجلة الأمريكية.
وأولى هذه المزايا أنّها ستبعث برسالةٍ إلى إيران فحواها أنّ امتلاك سلاحٍ نووي ليس أمراً مكلفاً فقط، بل هو مستحيلٌ أيضاً. وثانيها أنّها ستقدم ضمانةً لشركاء الولايات المتحدة في المنطقة، مثل السعودية وإسرائيل، الذين قد يضطرون للتحرك ضد إيران بأنفسهم أو تطوير قدراتهم النووية الخاصة في غياب الردع. وثالثها أنّه من شبه المؤكد أن أي رئيس أمريكي، بغض النظر عن انتمائه الحزبي، سيفكر في الخيار العسكري إذا وصلته معلومات استخباراتية موثوقة وعاجلة تُفيد بأن إيران قررت إنتاج سلاحها النووي- نظراً للتهديد الذي تُمثله هذه الخطوة على الأمن القومي الأمريكي.
أما التحدي الحقيقي فسيكون ضمان مصداقية التهديد بالخيار العسكري، في الوقت الذي تُنفّذ الولايات المتحدة خلاله استراتيجية طال انتظارها للتحول بعيداً عن الشرق الأوسط وباتجاه آسيا.
التفاوض على اتفاقٍ نووي أفضل
إنّ وضع خطة بديلة للتعامل مع إيران عسكرياً لا يجب أن يعني التخلّي عن الدبلوماسية بالكامل، إذ يجب أن تُركّز إدارة بايدن على استبدال خطة العمل الشاملة المشتركة بدلاً من إحيائها، لأنه من المستبعد الآن أن ترضى الولايات المتحدة أو إيران على المدى البعيد بعودة اتفاق عام 2015.
ومن جانبها، دعت طهران واقعياً إلى التفاوض على اتفاق جديد بالكامل حين طلبت إجراء تعديلات كبيرة على خطة العمل الشاملة المشتركة، والتي من شأنها أن تحول دون انسحاب الولايات المتحدة منها مرةً أخرى. كما أشار بايدن أيضاً إلى أنّ هدفه النهائي هو التفاوض على اتفاقٍ جديد أقوى، بدلاً من استعادة الاتفاق القديم.
وتكمُن المفارقة في أن أبسط الطرق لتعرض إدارة بايدن على إيران اتفاقاً "أفضل" هي تقديمه في صورة اتفاق دبلوماسي يطالب إيران بأشياء أكثر، ويحصد في الوقت ذاته دعماً من الحزبين بما يجعله أكثر استدامة. ويمكن لاتفاقٍ من هذا النوع أن يأخذ صورة "خطة العمل الشاملة المشتركة+"، التي ستهدف إلى زيادة القيود النووية على إيران وفرض حدود أكثر على أنشطتها الصاروخية.
وفي النهاية، قد لا يكون التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران أمراً ضرورياً على وجه الخصوص؛ إذ من المحتمل أن يتم ردع إيران بدون اتفاق في حال كانت تداعيات توسيع برنامجها النووي قويةً وواضحة بما يكفي. ومع ذلك يجب أن يظل التوصل إلى اتفاق عبر التفاوض هو الهدف المفضل للسياسة الأمريكية، لأن الاتفاق القوي يمكنه تقليل عدم الاستقرار والحسابات الخاطئة الناتجة عن الاعتماد على استراتيجية الاحتواء والردع.
وقد بات من شبه المرجح على نحوٍ متزايد أن أي اتفاقٍ جديد بين الولايات المتحدة وإيران لن يكون إحياءً لخطة العمل الشاملة المشتركة. لكن الانتقال مباشرةً إلى التفاوض على اتفاق جديد سيكون خطوةً محفوفةً بالمخاطر على المدى القريب دون شك- لكن إدارة بايدن قادرة على تحقيق نتيجة أكثر نجاحاً واستدامة على المدى البعيد في حال اهتمت بحشد الدعم المحلي والدولي لجهودها.