يبرِز الطريق السريع الجديد، الذي يقطع الأراضي التي استعادتها أذربيجان من أرمينيا قبل أقل من عام، الحضور الاقتصادي المتزايد لـ تركيا في منطقةٍ كان يُنظَر إليها منذ فترةٍ طويلة على أنها جزءٌ من المجال الروسي.
ويعكف العاملون التابعون لشركتين تركيَّتين على صبِّ الأسفلت على طريق "النصر" على مدار الساعة، كما تقول صحيفة Financial Times البريطانية.
يربط الطريق بين أذربيجان ومدينة شوشة التاريخية، وهي الغنيمة الكبرى التي انتزعتها أذربيجان من أرمينيا في حربٍ استمرَّت ستة أسابيع حول منطقة قره باغ المُتنازَع عليها. قُتِلَ الآلاف في الصراع الذي اندلع العام الماضي 2020، والذي زوَّدَت فيه تركيا أذربيجان بالقوة النارية لمساعدتها على إحراز تفوُّقٍ حاسم لاستعادة أراضيها، وخصيصاً بواسطة طائرات "بيرقدار" المسيّرة التي ذاع سيطها في العالم كله بعد هذه المعركة.
والآن يمدُّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يده لعدوه اللدود أرمينيا، بينما يحاول تعزيز نفوذ تركيا في القوقاز، حيث تتنافس مع روسيا وإيران. وأشار إلى إمكانية استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاعٍ دام 30 عاماً. ومن جانبه، قال نيكول باشينيان، رئيس وزراء أرمينيا، إنه مستعدٌ لإجراء محادثاتٍ "بدون شروطٍ مُسبَّقة" مع أنقرة.
إشاراتٌ إيجابية بين تركيا وأرمينيا
أغلقت تركيا حدودها مع أرمينيا عام 1993 احتجاجاً على احتلال أرمينيا إقليم ناغورنو قره باغ ، وهي منطقةٌ مُعتَرَف بها دولياً كجزءٍ من أذربيجان تم توطين الأرمن فيها.
وكانت شروط وقف إطلاق النار، التي توسَّطَت فيها روسيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، قد سلَّمَت أذربيجان معظم الأراضي التي فقدتها من قبل لصالح أرمينيا في صراع التسعينيات. وقالت تركيا إن عودة الأراضي لحليفتها أذربيجان تزيل العقبة الرئيسية التي تعيق العلاقات الرسمية مع أرمينيا. وفي الأسابيع الأخيرة، قال أردوغان إنه يمكن أن يعمل على "تطبيع العلاقات تدريجياً"، بينما تقول أرمينيا إنها مستعدةٌ للأمر ذاته.
وقال أرمين غريغوريان، أمين مجلس الأمن في أرمينيا لصحيفة "فايننشيال تايمز" البريطانية: "نظراً لوجود إيجابية من كلا الجانبين، فإن ذلك يتيح الفرصة في وقتٍ ما في المستقبل القريب لبدء محادثاتٍ حول فتح الحدود وبدء العلاقات الاقتصادية والعلاقات بين الحكومتين".
وسيسمح ذوبان الجليد للتجارة والدبلوماسية بترسيخ جذورهما، لكن المصالحة الكاملة لا تزال بعيدة المنال، كما تقول الصحيفة البريطانية.
أذربيجان تخفِّف معارضتها للتقارب التركي الأرمني
في الوقت نفسه، أصبحت باكو الآن بشكلٍ حاسمٍ أقل مقاومةً للتقدُّم الكبير بين أنقرة ويريفان. وتقول الصحيفة البريطانية إن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف قد أحبط محاولات إصلاح العلاقات في عام 2009، عندما سعى أردوغان لاسترضائه من خلال اشتراط أن تحل أرمينيا نزاع ناغورنو قره باغ أولاً.
وقال حكمت حاجييف، مستشار علييف للسياسة الخارجية لفايننشال تايمز: "تغيَّر الوضع بشكلٍ كبير منذ عام 2009.. يجب أن تكون هناك علاقاتٌ خارجية بين البلدين". وأضاف: "نودُّ أن نشهد عمليةً أشمل. ويجب أن يشارك الجميع إذا كنَّا نتحدَّث عن الأمن والاستقرار على المدى الطويل في المنطقة".
من جانبه، قال ريتشارد جيراغوسيان، مدير مركز الدراسات الإقليمية، وهي مؤسسة فكرية في أرمينيا، إن موسكو تهمِّش أنقرة إلى حدٍّ كبير منذ العام الماضي في دبلوماسية ما بعد الصراع. وأضاف: "لدينا إدارةٌ روسية لهذا المشهد على كلِّ استعادةٍ إقليمية للتجارة والنقل، دون وجود تركيا على الطاولة. أما بالنسبة لتركيا، فالتطبيع مع أرمينيا هو السبيل لاستعادة مقعدها"، حسب وصفه.
وقد يساعد إدخال تركيا في مبادرة سلامٍ إقليمية أذربيجان في موازنة كفة روسيا، التي تحتفظ بقاعدةٍ عسكرية في أرمينيا، في الميزان. وقال جيراغوسيان: "السماح بالتطبيع بين أرمينيا وتركيا وإعادة تركيا إلى المنطقة ضروريٌّ لمواجهة ضعف علييف أمام الروس".
تركيا وروسيا تتقاسمان الفوائد في القوقاز بما يخدم مصالحهما
في الوقت نفسه، قد يخدم دور تركيا المُعزَّز في المنطقة روسيا أيضاً، كما تقول الصحيفة البريطانية. إذ يدعم أردوغان وبوتين الطرفين المتصارعين في سلسلةٍ من النزاعات المُسلَّحة، لكنهما شكَّلا شراكةً أمنية مُعقَّدة، ما أثار قلق الحلفاء الغربيين التقليديين لتركيا. وقال الزعيم التركي، يوم السبت 23 أكتوبر/تشرين الأول، إنه أمر باعتبار سفير الولايات المتحدة مع تسعة مبعوثين أوروبيين، أشخاص غير مرغوب فيهم، مُهدِّداً بتدهور علاقات أنقرة مع العواصم الغربية إلى مستوى متدنٍ غير مسبوق.
وقال توماس دي وال، الباحث في مركز كارنيغي أوروبا، إن عدم الثقة بالغرب الذي يتقاسمه أردوغان وبوتين قد يجبرهما على التعاون في القوقاز لإبقاء الولايات المتحدة وأوروبا على الهامش. وأضاف: "إنهما عدوان يختلفان حول العديد من القضايا، لكنهما يتحدَّثان أيضاً بلغة مشتركة، ولديهما نفس مفهوم القوة العظمى بأنه يجب عليهما ترتيب الأمور فيما بينهما".
تقول الصحيفة البريطانية إن روسيا بدأت تقتنع أيضاً بفرصة إحياء ارتباط مادي مباشر من الحقبة السوفييتية مع تركيا على السكك الحديدية التي تمتلكها بالكامل في أرمينيا، كجزءٍ من سعيها لسيطرةٍ أكبر على الروابط التجارية في المنطقة.
ومن جانبها، تأمل باكو بأن تؤدِّي الوعود التجارية مع جيرانها إلى إغراء أرمينيا لفتح ممرٍ بريٍّ لأذربيجان للوصول إلى ناختشيفان وتركيا. وقال حاجييف: "من مصلحة الأرمن أن يتحوَّلوا من بلدٍ غير ساحلي إلى بلد عبور".
لكن يبدو أن أرمينيا لم تتأثَّر بالإغراءات الاقتصادية، بحجة أن اتفاقية السلام يجب أن تأتي أولاً. قال غريغوريان: "المشكلة بين أرمينيا وأذربيجان ليست اقتصادية. إنه صراعٌ طويل على إقليم قره باغ ".
بينما يقول باشينيان، رئيس الوزراء الأرميني، وعلييف إنهما يريدان عملية سلام، لا يزالان منقسمين كما كان الحال دائماً بشأن مصير بقية قره باغ، التي لا تزال في أيدي العرقية الأرمينية. وتريد يريفان أن تحتفظ العرقية الأرمينية بحقِّ تقرير المصير، بينما ترفض باكو أيَّ حكمٍ ذاتي للمنطقة. فيما يواصل الطرفان تعزيز المواقع على طول خط المواجهة الجديد، وتشتغل المناوشات على الرغم من وجود ألفيّ جندي حفظ سلام روسي.
"تخيَّلوا حين تنهض هذه المدينة من تحت الرماد"
تقول "فايننشيال تايمز": حتى لو لم تكن تركيا على طاولة المفاوضات، فإن شركاتها تستقطب عقوداً في مشاريع إعادة الإعمار يمكن أن يبلغ مجموعها 15 مليار دولار على مدار العقد المقبل.
تعهَّد علييف بأن تستفيد الشركات من الدول التي كانت "صديقة" خلال الحرب، وأثبت أردوغان أنه أقرب حليفٍ له، حيث ترافق أردوغان مع علييف هذا الأسبوع في افتتاح مطارٍ ساعدت الشركات التركية في بنائه بمنطقة قره باغ.
وتعيد أذربيجان بناء شوشة، مركز التصنيع السابق القريب في مدينة أغدام ومناطق أخرى دمَّرتها ثلاثة عقود من العداء مع أرمينيا، لتمهيد الطريق لعودة مئات الآلاف من الأذربيجانيين إلى المناطق التي فروا منها قبل جيلٍ مضى. فيما أدَّت حرب العام الماضي إلى نزوح 35 ألف أرميني.
ويعتقد أمين حسينوف، المسؤول الأذربيجاني المشرِف على خطط مدينة حديثة للغاية لتحل محل مدينة أغدام، التي تحوَّلَت إلى مدينة أشباح، أن الازدهار سيحقِّق السلام في نهاية المطاف.
وقال حسينوف للصحيفة البريطانية: "هذه هي القرى التي يعيش فيها الأرمن في فقر"، مشيراً إلى مجموعةٍ من المنازل التي يمكن رؤيتها عبر خط وقف إطلاق النار الذي تسيطر عليه الدبابات الروسية. وأضاف: "تخيَّلوا حين تنهض هذه المدينة من تحت الرماد. سوف يرون ذلك ويأتون يطرقون الباب من أجل الوظائف ويصبحون أصدقاءً. إنها أفضل سياسة. ليس عليك القتال حتى".