راجعت وكالة المخابرات المركزية هذه الرواية قبل أن تصدر، حتى لا تكشف عن مصادرها أو معلومات أخطر من أن تذاع، إذ تبدو قيمة رواية "محطة دمشق" أكبر من كونها رواية جاسوسية مثيرة، إنها نافذة من الخيال تطل على الواقع المركب والمتناقض لعالم المخابرات.
"احمِ عميلك. هذا كل ما يهم"، هذا ما ذكّر به بطل الرواية سام جوزيف نفسه وسط عاصفة عاتية من الأزمات الشخصية والمهنية فيما يعرّض التهديد الذي يلوح في الأفق حياة الآلاف من الأبرياء للخطر، ولكن هذا الالتزام تجاه عميله يمثل خطيئة كبرى من وجهة نظره رؤسائه.
تصور رواية الجاسوسية المثيرة محطة دمشق "Damascus Station" التي ألفها محلل وكالة المخابرات المركزية السابق ديفيد مكلوسكي، شخصية ضابط مخابرات أمريكي بطلها جوزيف بوضوح كما لو كان شخصاً حقيقياً.
يواجه البطل مشاعره الشخصية، والعراقيل الإدارية الحكومية التي شقت طريقها حتى إلى عالم الجاسوسية، والأشرار المتعددين الذين يحاولون تعقبه والإمساك به، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
رواية محطة دمشق محاولة لنسج تاريخ المنطقة من وجهة نظر استخباراتية
نسج مكلوسكي خيوط ثقافة المنطقة وتاريخها ليجعل العاصمة السورية شخصية بحد ذاتها. إذ يقدم مكلوسكي للقراء مشاهد وروائح وأذواق وروح دمشق التي هي واحدة من أقدم مدن العالم. وأما الخط الزمني فربما تركه غامضاً عن عمد، منذ ضربت موجة الربيع العربي سوريا لأول مرة في مارس/آذار عام 2011. والعنف والاضطراب الذي تبعها دفعا السفارة الأمريكية في دمشق إلى إغلاق أبوابها في فبراير/شباط عام 2012، والعنف المتصاعد بين الحكومة وقوات المعارضة الذي يؤطر الرواية يشتد بعد ذلك في وقت من الأوقات.
وبغض النظر عن الدقة الزمنية، يتمكن مكلوسكي من رسم هذه الأحداث وغيرها من الأحداث الحقيقية، مثل اختطاف وتعذيب ومقتل رئيس مركز وكالة المخابرات المركزية في بيروت وليام باكلي على يد حزب الله عام 1984، وهي عملية كانت تهدف لجمع معلومات استخباراتية وإرسال رسالة مفادها أن القواعد تغيرت. ويُلمّح الكتاب أيضاً إلى اختفاء الصحفي الأمريكي المستقل أوستن تايس، الذي اُختطف في ضواحي دمشق في 13 أغسطس/آب عام 2012، على أيدي القوات الموالية للحكومة على الأرجح.
وبالمثل، يشير مكلوسكي إلى عملية اغتيال عماد مغنية في دمشق يوم 12 فبراير/شباط عام 2008، وهو رئيس عمليات حزب الله الشهير والمسؤول عن مقتل مئات الأمريكيين والإسرائيليين، بتصوير أن عملية أمريكية قانونية لاغتيال "إرهابي".
وتتوافق تفاصيل العملية مع روايات الصحافة الأمريكية التي تزعم أن الموساد، ووكالة المخابرات المركزية كانا متواطئين في مقتل مغنية، وكيف نفذا عمليتهما بتفجير سيارة مفخخة في ضاحية سكنية بدمشق.
وصحيح أن مكلوسكي يدمج العديد من أشرار روايته بدرجة معقولة مع شخصية الرجل السيئ النموذجية الهوليوودية أحادية البعد التي تعتبر ضرورية لأحداث التشويق التي ينسجها ببراعة، لكنه بالمثل يصور الأبطال الرئيسيين الآخرين في هذه القصة، مثل بطل الرواية وشخصيات أخرى في المخابرات الأمريكية، بالإضافة إلى خصمه السوري الرئيسي بصورة حية أشد تعقيداً.
فشخصياته قادرة على ارتكاب فظائع وحشية في وظائفها أو لحماية أحبائها وزملائها، لكنها أيضاً تحب أقرباءها ولديها فلسفة في الحياة بل أحياناً تأتي بتصرفات أخلاقية، حسب المجلة الأمريكية.
الأسد شخصية أساسية في حياة الشعب السوري
استخدام الرئيس السوري بشار الأسد للأسلحة الكيماوية على شعبه في جوهر الرواية. فالأسد، الذي هو أيضاً شخصية في القصة، وإن لم يكن ظاهراً بدرجة كبيرة، موصوف باقتدار. والأكثر دقة تصوير الكاتب لقوة ارتباط الأسد بحياة جميع السوريين، سواء تقيدهم به وبنظامه القمعي للنجاة بحياتهم، بغض النظر عن بوصلاتهم الأخلاقية، أو قتالهم معه حتى الموت سعياً لإزاحته.
ولأنها عمل أدبي خيالي، تقدم رواية مكلوسكي بديلاً لتخلي الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن "الخط الأحمر" الذي حددته الولايات المتحدة، والذي كان يهدد باستخدام القوة العسكرية إذا استخدم الأسد أسلحة كيماوية.
وسبف أن قال رئيس منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أمام الأمم المتحدة، في يونيو/حزيران 2021، إن نظام بشار الأسد استخدم الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً فيما لا يقل عن 17 مرة خلال الحرب الأهلية في سوريا.
وقال فرناندو آرياس، المدير العام للمنظمة، إن الخبراء حققوا في 77 ادعاء وخرجوا بنتائج أكدت تلك "الحقيقة المزعجة" التي تأتي على الرغم من انضمام سوريا لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية عام 2013.
من يأملون في أخذ نظرة أكثر واقعية على الطريقة التي يعمل بها جواسيس وكالة المخابرات المركزية، فلن تخيب رواية محطة دمشق أملهم .
صحيح أنك ربما تجد عدداً من الأوصاف المصطنعة أو غير الدقيقة أو غير الواقعية، فستشعر بالامتنان لقدرة مكلوسكي على دمج ما يكفي من الأحداث الواقعية. ومن باب الإنصاف، يشرح المؤلف حرصه على حماية المصادر والأساليب فضلاً عن مراجعة وكالة المخابرات المركزية التي تضمن عدم الكشف عن معلومات أكثر مما ينبغي.
رجال الاستخبارات مدمنون للكحول
وما ينجح مكلوسكي في نقله بدقة- وربما ما هو أهم من طريقة تصويره لآليات تنفيذ اجتماع سري- هو المشاعر. فضباط الحالة في رواية ماكلوسكي متحمسون ومندفعون، وفي بعض الحالات، مهووسون بمهمتهم ومهارتهم. فهي ليست مهمة وإنما حياة. ولا تتوقف حين تذهب إلى المنزل، لا سيما في بيئة ميدانية أجنبية، حيث يكون كل ما تفعله محسوباً ومخططاً بدقة لتقدم الشخصية ونمط الحياة المطلوبين لأداء مهمة التجسس كما ينبغي.
فبافتراض أن شخصاً ما، في مكان ما، لا يتوقف عن مراقبة تحركاتك أو تتبعها، تغيب "أيام راحة". ولكن رغم هذه التحديات والأعباء- ونعم، الزيجات الفاشلة، وإدمان الكحول في بعض الأحيان، وغيرها من المخاطر المهنية الشخصية- يراودك شعور مذهل بالقوة. فتسير في طريق لاكتشاف أي مراقبة وتختفي دون أن يعرف أحد. وأنت فريد في هدفك، وتعمل بمفردك وتسير على حبل مشدود دون شبكة إنقاذ أو مهرب، ناهيك عن أي إرشادات لطريق نجاة. لكنك تملك الليل والشوارع، ولتوفير الوقت اللازم لسرقة أثمن أسرار خصومك من تحت أنوفهم، لا تترك لهم أي أدلة ليعرفوا. وعميلك بأمان، وينقل إليك الأسرار، وأنت قناة المعرفة التي قد تغير التاريخ.
لا تقع في حب عميلك
لكن بطل رواية Damascus Station، مثله مثل خصومه، بشر. والبشر، حتى ضباط الحالة البارعين المدربين تدريباً عالياً، يرتكبون أخطاء. وشعار المخابرات الأمريكية الشهير "لا تقع في حب عميلك" هو في الغالب تذكير بالحفاظ على الموضوعية بل التشكيك في دوافع عميلك ومعلوماته لتقييم مدى صدقه وتعاونه وتحرره من سيطرة الأعداء أو النوايا الخادعة باستمرار. ولا بد من تجديد تقييم العميل وتجنيده في كل اجتماع لأن الحياة متقلبة.
يفترض ضباط الحالة، على مسؤوليتهم، أن العميل لم يفقد وظيفته، أو غير رأيه، أو تم القبض عليه، وتهديده، وتحوّل منذ آخر مرة التقيا فيها. إن الحياة المزدوجة للعميل موحشة ومخيفة. ولكن ثمة درجة من الانفصال مطلوبة من ضابط الحالة رغم ما يتوجب عليه إظهاره دوماً للعميل: بأنه مركز الكون بالنسبة له وصديق عزيز. ويبرع مكلوسكي في تصوير جوزيف بالجاسوس الواثق الخبير، وبالتالي، الإنسان الضعيف الحقيقي الذي يتعين عليه في نهاية المطاف اتخاذ القرار الصحيح.
إن رواية Damascus Station رواية مشوقة مؤلفة ببراعة وتجمع بين الغموض والرومانسية وأعمال الجاسوسية والأحداث التاريخية فيما يخص سوريا والربيع العربي. وأي عنصر من هذه العناصر بمفرده يجعلها جديرة بالقراءة؛ والمزج بينها يدفعك دفعاً لقراءتها.