ثمة أمر طبيعي تطبقه دول العالم أجمع وهو تعزيز النمو بتشجيع الشركات الأجنبية على إنشاء مرافق جديدة على أراضيها أو شراء شركات محلية، وهي مشروعات تُعرف باسم الاستثمار الأجنبي المباشر الوافد إلى الداخل، لكن غير العادي أنه هناك دولة في العالم لا ترفض هذا النوع من الاستثمار.
الدولة الاستثناء في هذا الأمر هي اليابان التي قالت "لا، شكراً" لهذه العوائد؛ ففي عام 2019، صنّف مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية 196 دولة من حيث الاستثمار الأجنبي المباشر الوافد التراكمي بصفته يمثل نسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وجاءت اليابان في ذيل القائمة، خلف كوريا الشمالية مباشرة، بحسب تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
تشير النتائج في بلدان أخرى إلى أنَّ زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر يمكن أن تحفز النمو الاقتصادي لليابان تحفيزاً كبيراً. والدول التي تستفيد أكثر من غيرها من زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر هي تلك التي تتخلف أكثر عن معايير الكفاءة العالمية. وإذا كانت اليابان تأمل في عكس نموها الاقتصادي الراكد، فإنَّ زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر عنصر أساسي في الوصفة.
تكمُن جذور نضالات اليابان في عقبات رسمية وغير رسمية عمرها عقود من الزمن تعترض طريق جهود الشركات الأجنبية للاستحواذ على الشركات المحلية. لكن لحسن الحظ، هناك بعض الدلائل على أنَّ البلاد تنفتح على فوائد الاستثمار الأجنبي المباشر، على الرغم من أنها تتطلب على الأرجح جهوداً حازمة من القادة السياسيين ورجال الأعمال حتى تبدأ اليابان في الصعود في تصنيفات الأونكتاد.
لماذا فشلت جهود اليابان في جذب استثمارات أجنبية مباشرة؟
شهدت دول أخرى ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر بمجرد تحولها من مقاومة الاستثمار الأجنبي إلى الترحيب به. في كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، قفزت نسبة الاستثمار الأجنبي المباشر الوافد إلى الناتج المحلي الإجمالي من 2% في أواخر التسعينيات إلى 14% اليوم. وقدَّر الباحثان تاكيو هوشي وكوزو كيوتا أنه إذا كان أداء اليابان مثل البلدان الأخرى ذات الخصائص المتشابهة، لكانت نسبتها قد وصلت إلى 35% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2015.
من الواضح أيضاً أنَّ السوق اليابانية جذابة للشركات الأجنبية. في دراسة استقصائية تلو الأخرى، أدرجت الشركات متعددة الجنسيات اليابان ضمن أفضل أماكن الاستثمار نظراً لسوقها الكبيرة والثرية، والقوة العاملة جيدة التعليم وقاعدة العملاء، والقدرة التكنولوجية العالية بين الموردين والشركاء المحتملين.
بَيد أنَّ العقبة الرئيسية أمام زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر الوافد هي أنَّ الشركات الأجنبية تواجه مشكلة في شراء الشركات اليابانية السليمة. في أي بلد غني نموذجي، يتخذ 80% من الاستثمار الأجنبي المباشر الوافد شكل عمليات اندماج وشراء (اندماج واستحواذ متجه للداخل)، لكن في اليابان، تبلغ هذه النسبة 14% فقط؛ مما يجعل نسبة إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر الوافد هزيلة.
هذا العائق هو إرث من الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرةً، عندما قيّدت طوكيو الاستثمار الأجنبي المباشر خوفاً من هيمنة الشركات الأجنبية. وفي الستينيات، عندما اضطرت اليابان إلى تحرير قيودها رسمياً من أجل الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ابتكرت الحكومة ما أسمته "إجراءات التحرير المضادة" لإنشاء عوائق غير مباشرة أمام عمليات الدمج والاستحواذ الواردة. وتراوحت هذه من إحياء الحيازة المشتركة عبر الشركات العملاقة ومموليها، إلى دعم مجموعات الشركات الأفقية والعمودية، المعروفة باسم "keiretsu" إلى القواعد المُرهِقة حول المعاملات عبر الحدود.
تميل وسائل الإعلام إلى تغطية الحالات المذهلة التي تنقذ فيها الشركات الأجنبية إخفاقات العمالقة مثل نيسان وشارب وتوشيبا، لكن معظم المستثمرين الأجانب يرغبون في شراء شركات جيدة من شأنها تعزيز التوسع العالمي للشركة الأم. لكن لسوء الحظ، الأهداف الأكثر جاذبية- سواء كانت كبيرة أو متوسطة الحجم- بعيدة المنال إلى حد كبير لأنها تنتمي إلى شبكة keiretsu. وجرت العادة، ألا يبيع أعضاء keiretsu أنفسهم أبداً لأعضاء آخرين من نفس الشبكة، ناهيك عن الشركات الأجنبية. وبرغم أنَّ المتاعب الاقتصادية لليابان قلَّلت إلى حد ما من مقاومة عمليات الاندماج والاستحواذ بين أعضاء هذه الشبكة، لكن يظل معظمهم معارضين بشدة عمليات الاستحواذ من مشترٍ أجنبي.
والأسوأ من ذلك، أنَّ المواقف التي عفا عليها الزمن من الماضي لا تزال باقية بين الكثير من صانعي السياسة. على سبيل المثال، جادلت مسودة ورقة عام 2020 الصادرة عن مجلس تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو هيئة استشارية حكومية، بأنَّ عمليات الاندماج والاستحواذ الواردة يمكن أن تساعد كثيراً في التعامل مع أزمة الخلافة الضخمة في الشركات اليابانية الصغيرة والمتوسطة. وأشار التقرير إلى أنَّ 600 ألف شركة صغيرة ومتوسطة مربحة قد تضطر إلى الإغلاق بحلول عام 2025 لأنَّ أصحابها سيكونون بحلول ذلك الوقت أكبر من 70 عاماً وليس لديهم خلفاء؛ مما يعرض ستة ملايين وظيفة للخطر. وضمن الجهود المبذولة لمنع هذه الكارثة التي تلوح في الأفق، دعا التقرير إلى تبني "بعض الآليات" لمساعدة هذه الشركات الصغيرة والمتوسطة في العثور على شركاء أجانب مناسبين و"تسهيل نقل الأعمال بين أطراف ثلاثة (الدمج والاستحواذ)".
محركات التغيير
لحسن الحظ، هناك بعض القوى الجديدة التي توفر إمكانية التغيير. الأول هو تحول كبير في المزاج العام؛ إذ تُظهِر استطلاعات الرأي أنَّ عدداً أكبر بكثير من الناس يرون الآن تأثيراً إيجابياً من الشركات الأجنبية أكثر من السلبي. وهناك أيضاً تحول في مجتمع الأعمال: ففي حين أنَّ اتحاد الأعمال Keidanren القوي لا يزال يقاوم عمليات الاندماج والاستحواذ الواردة، تدعمها مجموعة أضعف سياسياً من المديرين التنفيذيين تسمى Keizai Doyukai.
المحرك الثاني المحتمل هو أزمة الخلافة في الشركات الصغيرة والمتوسطة. ضع في اعتبارك جميع أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة البالغين من العمر 70 عاماً والذين يقلقون حقاً بشأن مستقبل موظفيهم بمجرد تنحّيهم عن منصبهم. كم عدد الذين سيرفضون البيع لطرف أجنبي إذا طرحت الحكومة أو البنوك اليابانية الكبرى والشركات التجارية هذا الخيار؟
يُمكن للبنية التحتية البيروقراطية الحالية في اليابان أن تتحول بسهولة لإنجاز هذه المهمة. من جانبها، تلاحق منظمة التجارة الخارجية اليابانية بنشاط الشركات الأجنبية لبدء عمليات جديدة في اليابان، لكنها لا تبذل أي جهد لتجنيد شركات أجنبية لشراء شركات يابانية. يجب تضمين البحث عن مشترين أجانب للشركات الصغيرة والمتوسطة المعرضة للخطر في ولاية منظمة التجارة الخارجية اليابانية. وستجد الشركات التجارية العملاقة والمصارف الضخمة في اليابان، بمهاراتها وشبكاتها الواسعة داخل اليابان وخارجها، أنه من المربح للغاية أن تعمل بمثابة جهات اتصال.
أما المحرك الثالث فهو الدفع نحو إصلاح الشركات، كما يتضح في قانون الإشراف لعام 2014 الصادر عن وكالة الخدمات المالية وقانون حوكمة الشركات لعام 2015 الذي اعتمدته بورصة طوكيو للأوراق المالية استجابةً لضغوط الحكومة. ويضغط قانون الإشراف على المستثمرين المؤسسيين لاستخدام حيازاتهم من الأسهم لدفع الشركات إلى تعزيز قيمة حقوق المساهمين. يضغط قانون حوكمة الشركات على الشركات المُدرجة في البورصة لزيادة شفافيتها واستجابتها للمساهمين، مع إيلاء المزيد من الاهتمام للربحية وليس فقط الحجم أو الحصة السوقية.
قد يؤتي هذا المنطق ثماره في النهاية، لكن حتى الآن، لم تظهر الطفرة المُتوقَعة بعد. منذ عام 2004، كان هناك ما يقرب من 10 إلى 20 عملية تصفية محلية (أو نقل ملكية الأصول) بقيمة تزيد على 100 مليون دولار أمريكي لشركات الأسهم الخاصة كل عام، وهو رقم لم يرتفع بمرور الوقت. وعلقت شركة Bain الأمريكية للاستشارات الإدارية في تقرير عام 2018 على أنَّ التعطيل سببه أنَّ "مجالس الإدارة والمساهمين لا يضغطون بعد من أجل التصفية الإستراتيجية".
وبغض النظر عن التأثير النهائي لهذه المحركات الثلاثة، فإنَّ الاحتمال الأكبر هو أنَّ قفزة في الاستثمار الأجنبي المباشر لن تحدث إلا بعد جهود سياسية مُنسَّقة من جانب الحكومة وقادة الأعمال لتعزيز عمليات الاندماج والاستحواذ الواردة. وما لم يحدث ذلك، يحتمل أنَّ اليابان ستظل في مؤخرة تصنيفات الاستثمار الأجنبي المباشر، وسيبقى النمو فاتراً كما هو الحال اليوم.