نقص في كل السلع.. قصة أزمة سلاسل التوريد من الألف للياء، كيف بدأت ومتى تنتهي؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/10/14 الساعة 17:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/14 الساعة 17:36 بتوقيت غرينتش
أزمة في الموانئ العالمية تفاقم مشاكل سلاسل التوريد/رويترز

"لا يوجد غاز ولا سيارات ولا حتى أحذية رياضية"، نقص غير مسبوق في السلع تسببت به أزمة سلاسل التوريد، نقص يهدد بموجة من التضخم واضطراب الإنتاج في بعض الحالات، ولكنه في حالات أخرى قد يهدد دولاً متقدمة بتمضيةة هذا الشتاء في ظروف صقيع لم تعرفها منذ قرون.

وراء هذا النقص في السلع، تأتي كلمة سلاسل التوريد، وهي الكلمة التي كانت تمثل أحد إنجازات العولمة، ولكنها تحولت فجأة إلى لعنة تحاول كل الدول، بلا نجاح تقريباً، تجنب تأثيراتها.

ماذا تعني كلمة سلاسل التوريد؟

يمكن تعريف سلسلة التوريد (SCM) بأنها تدفق السلع والبيانات والأموال المتعلقة بمنتجات أو خدمات، بدءاً من شراء المواد الخام وحتى تسليم المنتج إلى وجهته النهائية.

مثَّلت "سلاسل التوريد" أحد الإفرازات الأساسية للعولمة الاقتصادية؛ فهي إحدى الآليات التي لجأ إليها المُنتِجُون والشركات الكبرى للاستفادة من العولمة عبر الاستفادة من المزايا النسبية المتاحة في كل دولة لإنتاج مكون/مكونات محددة في إطار عملية إنتاج السلعة النهائية، ما أدى إلى اعتماد المُنتَج النهائي، على مستوى كل شركة، على مجموعة من الموردين من دول مختلفة لتوريد مجموعة من المنتجات الأولية أو الوسيطة التي تدخل في إنتاج هذا المُنتَج.

وقد نجحت الصين في الاستحواذ على نسبة كبيرة من سلاسل التوريد، لعوامل عدة، أبرزها رخص تكلفة الأيدي العاملة، والخدمات اللوجيستية المرتبطة بعمليات الإنتاج والتوريد والنقل، وحتى إن منافسي الصين البارزين أغلبهم من آسيا أيضاً.

وأدى نجاح تنظيم سلاسل التوريد إلى اعتماد الشركات والمستهلكين في الغرب تحديداً، بشكل متزايد، على إدارة أنظمة المخزونات في الوقت المناسب لطلب البضائع، التي تقوم على تخفيض المخزونات، مما يقلل من التكاليف على الشركات وسمحت موثوقية سلاسل التوريد في السابق بتلبية احتياجات المستهلكين في الوقت المناسب بدون تخزين كميات كبيرة من السلع قبل الشركات.

يتطلب ذلك دقة وتنظيماً كبيرين في عمليات استخراج الخامات والتصنيع والنقل والتخزين، وعندما يحدث أي خطأ أو تأخير في السلسلة ينتقل إلى حلقاتها جميعاً.

أسباب أزمة سلاسل التوريد، وهل كانت متوقعة؟

أسباب أزمة سلاسل التوريد متعددة، وأهمها بطبيعة الحال جائحة كورونا، ولكن جاء حجم مشكلات سلاسل التوريد أكثر مما كان متوقعاً في بداية الجائحة، حسبما ورد في تقرير لموقع بلومبيرغ الشرق.

وقعت أزمة "كوفيد-19" في الصين، خلال الفترة من ديسمبر/كانون الأول 2019 وحتى فبراير/شباط 2020، فتوقّف العديد من هذه السلاسل عن العمل، ما أدى إلى توقف عدد من الشركات الكبرى -سواء داخل الصين أو خارجها- عن الإنتاج، الأمر الذي أثار حينها تساؤلات حول جدوى الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية.

لكن مع اتساع رقعة انتشار الفيروس وانتقاله إلى أوروبا والولايات المتحدة ومعظم الأقاليم الأخرى، اتخذت مشكلة سلاسل التوريد طابعاً عالمياً أكثر من كونها مشكلة صينية، ومن ثمّ انتقل السؤال من جدوى الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية إلى مناقشة مشكلة سلاسل التوريد بشكل عام.

في الفترة السابقة، تسببت إغلاقات كورونا في نقص الإنتاج، ولكن اليوم مع التعافي أصبحت المشكلة في كثرة الطلب الذي لا يستطيع الإنتاج تلبيته.

ولكن ليست كورونا وحدها هي المسؤولة عن الأزمة، فلقد تعرضت بعض المراكز الحيوية والهامة في الاقتصاد العالمي، ربما لمزيج مكون من "وباء كوفيد"، و"سوء الحظ"، خصوصاً فيما يتعلق بالفترة الأخيرة من العام الجاري.

سرعة التعافي من الركود فاجأت الجميع

القشة التي قصمت ظهر البعير وأوصلت أزمة سلاسل التوريد إلى الذروة هي سرعة التعافي من الركود الذي سببته جائحة كورونا، خاصة بعد توسع الدول المتقدمة والمتوسطة في اللقاحات وإنهائها مرحلة الإغلاقات المشددة مع تقديم الحكومات دفعات مالية للأسواق في ذروة الأزمة لتحفيز الاقتصاد.

المفارقة أنه خلال إغلاقات كورونا ادخر المستهلكون الأمريكيون والأوروبيون مبالغ كبيرة من الأموال خلال عام 2020 وأوائل عام 2021، وهم يعمدون إلى إنفاقها في الوقت الحالي، مما يزيد الاستهلاك.

وفي الوقت ذاته مع تعافي الاقتصاد وزيادة الطلب، لم تتمكن الشركات بعد من إعادة المخزونات بالكامل إلى مستويات ما قبل الوباء؛ مما تسبب في انخفاض نسب المخزون إلى المبيعات.

نقص العمالة يهدد الشركات

رغم أن النمو خبر سارٌّ للشركات والعاملين، فإنه يخلق أيضاً تحديات، وأفادت بعض الشركات بأنها لم تكن قادرة على التوظيف بالسرعة الكافية لمواكبة حاجتها المتزايدة للعمال بعد التعافي.

في كثير من دول العالم تم فرض إجراءات صارمة على التنقل بسبب الجائحة، والآن مع عودة النشاط الاقتصادي، تمثل هذه كارثة، بريطانيا على سبيل المثال لا تجد أعداد السائقين الكافية لنقل الوقود للمحطات، وقيل إنها ستلجأ إلى الجيش للقيام بهذه المهمة، بالطبع الأزمة البريطانية فاقمها خروجها من  الاتحاد الأوروبي.

الطلب على النقل.. أكبر أزمة في التاريخ الحديث لهذه الصناعة

تواجه الموانئ أكبر أزمة منذ بدء عملية شحن الحاويات، حسب وصف صحيفة Times  Financial البريطانية.

مع انتشار فيروس كورونا كانت بعض الموانئ الصينية خاملة أو تعمل بطاقة استيعابية جرى خفضها بسبب الوباء.

ولكن انتعاش التجارة في مجال السلع المعمرة خلق ضغوطاً هائلة على الطلب على الحاويات والسفن وأعمال الموانئ في كل أنحاء العالم. صعدت أسعار حاويات الشحن بطريقة فائقة السرعة، وربما تكون قد بلغت مستوى أعلى بعشر مرات، ما سجلته قبل عامين فقط.

سلاسل التوريد
صناعة السيارات تأثرت بمشكلة سلاسل التوريد/رويترز

إلى جانب ذلك، يحتاج كثير من الأعمال في الموانئ ووسائل النقل المحلية المرتبطة بها، وجود عمالة كثيفة، في حين تعاني مناطق كثيرة حول العالم من عجز في أعداد العمال، وذلك عائد إلى أن الناس غير واثقين بطريقة إعادة رسم مستقبل العمل الخاص بهم عقب انتهاء الجائحة، أو بالنسبة إلى بعض الحالات، فإن الإعانات المقدمة من الحكومات ربما تُعطل عودتهم إلى العمل. كل ذلك، يزيد من عمليات التأخير الخاصة بشبكات التجارة.

لماذا ازدحمت الموانئ فجأة؟

لم تكن أعمال الشحن على مدار العقد الماضي مربحة جداً، وهذا يعني أنه كان هناك قليل من الاستثمار في السفن الجديدة.

كانت سلسلة التوريد العالمية قبل الجائحة، لا سيما الجزء الذي يربط آسيا بالولايات المتحدة، تعمل بطاقتها كاملة دون هامش للخطأ أو تحمُّل زيادة في الشحن.

ومع زيادة التجارة العالمية، ونمو اقتصاد التجارة الإلكترونية، لم تواكب استثمارات البنية التحتية هذا النمو، ثم جاءت الجائحة فعززت التحفظ في مثل هذه الاستثمارات.

ثم بدأ الطلب الذي كان مكبوتاً أثناء الفترة الأولى للجائحة، في الخروج للسطح، مع انحسار موجة الخوف من المجهول والتحوط من المستقبل، فحدث ارتفاع كبير في الطلب على السلع أكبر من القدرة على استيعابه ومعالجته.

كما أثرت قيود السفر على الطواقم العاملة بالسفن، كما أنه في فترات سابقة، خضعت كثير من سفن الشحن أو الموانئ للحجر الصحي، وبالتالي متوقفة عن العمل.

وتوالت الأزمات على صناعة الشحن العالمية خلال الفترة الماضية، بشكل خلق تأثيراً سلبياً متراكماً، بداية من النقص الحاد في حاويات الشحن بسبب الوباء، ثم انسداد قناة السويس بعد جنوح السفينة "إيفرغيفن"، مما عطّل عمليات الشحن العالمية، أعقبه انتشار للوباء بمناطق صينية، حيث تحركت السلطات لإغلاق المناطق والشركات لمنع انتشار الفيروس بسرعة، وتسبب الإغلاق في تأخيرات هائلة في الشحن بالموانئ الصينية الرئيسية.

وتظهر البيانات الواردة من "وكالة المعلومات البحرية-ApS" ومقرها الدنمارك، أنه في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، تأخرت مئات السفن عن الجدول الزمني المحدد لها بمقدار مضاعف مقارنة بالسنوات الثماني السابقة لأزمة الجائحة بين عام 2012 وعام 2020.

في الشهر الجاري (أكتوبر/تشرين الأول 2021)، بلغ متوسط ​​تكلفة شحن الحاويات من الصين إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة رقماً قياسياً يعادل ضعف ما كانت تكلفه في يوليو/تموز الماضي.

وذكرت مجلة Popular Science، الشهر الماضي، أن "88 سفينة كانت تجلس في انتظار دخول ميناء لوس أنجلوس أكبر موانئ أمريكا، مكونةً خطاً من السفن يمتد جنوباً لمسافة تزيد على 40 ميلاً من مدخل ميناء لوس أنجلوس وصولاً إلى منطقة دانا بوينت"، من حسن تراجع هذا الخط إلى 65 سفينة، ووعد الرئيس الأمريكي جو بايدن بحل الأزمة.

أزمة الطاقة.. كورونا وبوتين

يمكن القول إن أزمة الطاقة لها أسباب أكثر تعقيداً رغم أن كورونا والتعافي لهما دور كبير فيها بطبيعة الحال.

ولكن هناك عوامل أخرى، منها توجه العديد من الدول للاقتصاد الأخضر، مما أدى إلى تقليل الاستثمارات في مجال الوقود الأحفوري، وفي الوقت ذاته فإن الصين تحاول تقليل استهلاكها من الفحم لصالح الغاز الأقل تلويثاً للبيئة، والشتاء البارد العام الماضي في أوروبا وروسيا والذي قلل مخزونات الغاز وتراجع الإنتاج في النرويج، والأعاصير التي ضربت منشآت استخراج النفط والغاز الأمريكية في خليج المكسيك، والرياح الضعيفة التي قللت من إنتاج الطاقة المتجددة في أوروبا.

وبطبيعة الحال، التعافي السريع من كورونا يتحمل جزءاً من المسؤولية إلى جانب رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سرعة اعتماد الاتحاد الأوروبي خط غازه الجديد "السيل الشمالي" الواصل إلى ألمانيا بعيداً عن أوكرانيا وبولندا.

أزمة الرقائق الإلكترونية.. الصين بريئة

تعتبر الرقائق الإلكترونية واحدة من الأزمات الخطيرة التي سببتها أزمة سلاسل التوريد.

كان الاقتصاد العالمي يعتمد بالفعل بطريقة كبيرة على بلدين لتوفير الإمدادات من الرقائق الإلكترونية، هما تايوان وكوريا الجنوبية.

ثم وقعت ثلاثة أمور: توقف العمل في مصانع الرقائق الإلكترونية أثناء عمليات الإغلاق الناجمة عن الجائحة؛ وأسفرت سلسلة من الكوارث الطبيعية عن حدوث أضرار لإمدادات الرقائق الإلكترونية؛ كما ارتفع الطلب عليها مع تزايد طلب المستهلكين على السلع المعمرة مثل السيارات والأجهزة المنزلية بعد التعافي من كورونا وخروج المدخرات المالية من مخابئها.

احتكارات الملكية الفكرية

بينما أدى اعتماد العالم على الصين في أزمة سلاسل التوريد في كثير من السلع، فإن مركزية دور تايوان تحديداً وحقوق الملكية الفكرية في هذه الصناعة، ساعدتا على تفاقم أزمة الرقائق الإلكترونية، حسبما ورد في تقرير لمركز الإمارات للسياسية.

تستحوذ تايوان على 22% من القدرات الإنتاجية العالمية للدوائر المتكاملة من أشباه الموصلات، كما تتركز 67% من هذه النسبة في يد شركة واحدة بتايوان هي "شركة تصنيع أشباه الموصِلَاتْ" [(TSMC).

وتعتمد شركة آبل، على سبيل المثال، اعتماداً كاملاً على هذه الشركة للحصول على الرقائق الإلكترونية اللازمة لتصنيع منتجاتها، وهذه الشركة تعتمد  بدورها على شركة وحيدة في هولندا لتوريد "أنظمة الطباعة الحجرية"، وهي "شركة أشباه الموصلات المتقدمة الدولية" (ASMI). كما تعتمد الأخيرة بدورها على شركة ألمانية لتوريد "المحركات البصرية "optical engine ، وهكذا.

وفي ظل المستويات الحالية، جرى تقليص حجم إنتاج السيارات على نحو خطير، بسبب ضعف الإمدادات المتاحة من الرقائق الإلكترونية، وهو ما يُعدّ من بين أسباب مواصلة أسعار السيارات الجديدة والمستعملة ارتفاعها.

وقال تقرير لموقع بلومبيرغ الشرق:  "يبدو أنه لا يوجد علاج واضح يُنهي أزمة سلاسل التوريد، أما النبأ الأسوأ فهو أنه ما من أحد يمكنه أن يعرف بالفعل، متى سيتحسن الموقف".

تحميل المزيد