كشفت وثائق باندورا عن دور مركزي لكل من لندن ودبي في عملية إخفاء الأموال والثروات، وكذلك في غسيل الأموال، بحيث يمكن القول إن المدينتين تتنافسان على لقب عاصمة الأموال المريبة.
وتحتوي ذاكرة التخزين المؤقت التي تحمل علامة "Pandora" المسربة بواسطة الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين على 11.9 مليون ملف من الشركات التي استأجرها العملاء الأثرياء، لإنشاء هياكل خارجية وصناديق ائتمانية في الملاذات الضريبية، مثل بنما ودبي وموناكو وسويسرا وجزر كايمان، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
ولكن تُظهر نظرة فاحصة أن لندن تلعب دور المركزي العصبي لشبكة إخفاء الثروات الهائلة هذه.
كما تشمل الملفات إفصاحات عن مانحين رئيسيين لحزب المحافظين البريطاني، ما أثار أسئلةً صعبةً على رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بينما كان يجتمع حزبه في مؤتمره السنوي، حسب وصف The Guardian.
نيكولاس شاكسون الكاتب في مؤسسة Tax Justice Network البريطانية، عرض في مقال نشرته صحيفة New York Times الأمريكية للدور الكبير لمدينة لندن كعاصمة لغسيل الأموال ومركز للملاذات الضريبة، والضرر الذي يسببه هذا الدور للعالم وبريطانيا نفسها.
بريطانيا عاصمة غسيل الأموال
لعبت بريطانيا دوراً محورياً في إخفاء الأموال والأصول حول العالم، بفضل الأقاليم التي تُسيطر عليها جزئياً فيما وراء البحار. وبالتالي فهي "عاصمة غسيل الأموال في العالم"، على حد وصف أحد أعضاء حزب المحافظين الحاكم الأسبوع الماضي، ما يجعل مدينة لندن، مركزها المالي العتيد، في قلب هذه المنظومة، كما ظهر من تسريبات باندورا.
النظام البريطاني القائم فيما وراء البحار له تصميمٌ معقدٌ للغاية، إذ تتضافر العديد من الأدوات المعقدة والمبهمة -التي تتضمن صناديق الاستثمار الخارجية والثغرات الضريبية والشركات الوهمية- مع سرية التعاملات المصرفية وإهمال التنظيم المالي، لتحجب الرؤية عن أصول الأثرياء خلف ستارٍ من الضباب القانوني.
وتلعب الملاذات الضريبية مثل جزر كوك وجزر فيرجن البريطانية وجيرسي دوراً مركزياً في هذه المنظومة، حيث تُعتبر بمثابة برّ الأمان للكثير من المتهربين، إذ ينقل الأثرياء والمجرمون أموالهم إلى تلك الملاذات لحمايتها، والتهرب من القوانين والقواعد والضرائب التي لا تُعجبهم.
حجم الثروات المخفاة يتراوح بين 6 تريليونات إلى 36 تريلوناً
حجم الثروة الموجودة في تلك الملاذات الضريبية هائل: حيث تُشير التقديرات إلى أنّها تتراوح بين 6 تريليونات و36 تريليون دولار. والكثير من تلك الملاذات الضريبية مرتبط بأمريكا أو داخلها، كما تُقدّم العديد من الدول الأوروبية، مثل لوكسمبورغ وأيرلندا وسويسرا، قائمةً أخرى من مسارات الهروب. إضافة إلى هونغ كونغ وسنغافورة في آسيا.
لكن الشبكة البريطانية هي الأكبر دون شك، إذ يُشير مؤشر السرية المالية الخاص بمؤسسة Tax Justice Network البريطانية إلى أنّ بريطانيا وشبكتها الخارجية، التي تُشبه "شبكة العنكبوت"، تحتل المرتبة الأولى في تصنيف الملاذات الضريبية حول العالم. حيث إنّ أكثر من ثلثي الشركات الـ956، التي كشفت وثائق باندورا ارتباطها بمسؤولين حكوميين، قد تأسست في جزر فيرجن البريطانية.
ضرائب مفقودة تصل إلى 600 مليار دولار سنوياً
وتسبّب ذلك العمل في أضرار هائلة، فحجم الإيرادات الضريبية المفقودة هائلٌ للغاية، إذ تستخدم الشركات الملاذات الضريبية للتهرّب من سداد ما يتراوح بين 245 و600 مليار دولار أمريكي سنويا.
كما يُخفي الأفراد مبالغ مالية طائلة في حساباتهم الشخصية أيضاً.
لكن شاكسون يقول أنّ الضرائب هي مجرد جانبٍ واحد من جوانب القصة، إذ إنّ لعبة الخداع العالمية التي مارسها الأثرياء وعملاؤهم في المدينة قد تسبّبت في تآكل سيادة القانون، وجرّدت المواطنين البريطانيين من ثقتهم في النظام.
محاولة السيطرة على ثغرات لندن المالية تتوقف بعد البريكست
وقد ظهرت بعض جهود الإصلاح بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي كشفت عن حجم الإسراف الهائل في النظام المالي، إذ تمت السيطرة على "ثغرة لندن القانونية"، على حد وصف رئيس إحدى الهيئات التنظيمية الأمريكية غاري غينسلر، ولكن مع تلاشي ذكريات الأزمة وبدء عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست).
ترغب الحكومة البريطانية الآن في إعادة إحياء دورها المالي، حيث لمّحت وثيقة التوجيهات الأساسية "فصلٌ جديد للخدمات المالية"، التي نشرتها الحكومة البريطانية في يوليو/تموز، بوضوح إلى عودة عصور التساهل. حيث ورد ذكر "التنافسية" و"المنافسة"، وهي كلمات تُستخدم -بحسب شاكسون- للكناية عن انخفاض الضرائب وضعف التنظيم والتراخي في تطبيق القانون، أكثر من 15 مرة.
كيف تضررت بريطانيا نفسها من هذا الدور الخطير؟
تسبب تسهيل بريطانيا إخفاء الأموال المنهوبة في أضرار كبيرة على البلاد نفسها.
فمركز لندن المالي "التنافسي" هو بمثابة لعنة لها الكثير من العواقب، مثل: عدم المساواة بين الأقاليم البريطانية، وانعدام التوازن الاقتصادي، وتراجع الإنتاجية، وتعطيل الاستثمار، وتضخم أسعار الأصول، والفساد السياسي. ولم تعُد بريطانيا قادرةً على تحمل تكاليف مدينة مبالغ في حجمها، بعد سنوات من التقشّف وفي خضم نقص الغذاء والوقود، حسب شاكسون.
لكن العالم هو صاحب نصيب الأسد من المعاناة، حيث يمنح النظام البيئي فيما وراء البحار لرجال الأعمال المشبوهين والزعماء السياسيين القدامى القدرة على الإفلات من العقاب، وإخفاء رؤوس أموالهم، وحماية ثرواتهم. وتضمن هذه المنظومة، التي لا تخضع للمساءلة ولا يُمكن تعقبها، بقاء الثروات حكراً على القلة.
دبي جنة غسيل الأموال
أصدرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، العام الماضي، تقريراً بعنوان "دبي أصبحت جنة غسيل الأموال".
ويشير التقرير إلى سلالة جديدة ومخيفة إلى حد ما من الملاذات الضريبية، فقبل ذلك كانت الملاذات الضريبية تقليدياً صغيرة ومنفتحة وديمقراطية -فكر في أماكن مثل جيرسي أو لوكسمبورغ- التي يمكن إخراجها من العمل في هذا المجال، بمزيج مستدام من القوة الدبلوماسية والغضب السياسي المحلي.
ويكشف التقرير أن دبي ليس لديها أي من تلك الثغرات، إنها دولة استبدادية مع عدم وجود سياسة داخلية تقلق بشأنها، والضغط الدبلوماسي ضئيل للغاية عليها، وذلك بفضل صداقة الإمارات الوثيقة مع الدول الغربية الكبرى".
يقول التقرير "تم إجبار الملاذات الضريبية الأخرى على التوقف عن العمل، ولكن دبي ازدهرت، وأصبحت نقطة جذب للكثير من الأموال والأشخاص الأكثر ظلمة في العالم، بالإضافة إلى الألماس والذهب، ومن المستحيل التأثير عليها بالطرق القديمة".
وقال مؤلفا التقرير، جودي فيتوري وماثيو بيج "يواصل القادة الإماراتيون والمجتمع الدولي غضّ الطرف عن السلوكيات الإشكالية والثغرات الإدارية وممارسات الإنفاذ الضعيفة التي تجعل دبي وجهة عالمية جذابة للأموال القذرة".
ويلفت التقرير إلى أن جزءاً مما يدعم ازدهار دبي هو التدفق المستمر للعائدات غير المشروعة الناتجة عن الفساد والجريمة.
ويقول تقرير كارنيغي "تعمل الجهات الفاعلة الفاسدة والإجرامية من جميع أنحاء العالم من خلال دبي أو منها": أمراء الحرب الأفغان، ورجال العصابات الروس، والفاسدون النيجيريون، وغاسلو الأموال الأوروبيون، ومنتهكو العقوبات الإيرانية، ومهربو الذهب من شرق إفريقيا، كلهم يجدون دبي مكاناً مناسباً للعمل.
وتعد دبي الآن واحدة من أكبر مراكز الذهب في العالم، وهي أيضاً مكان لغسل الذهب المستخرج يدوياً، وخاصة من الأجزاء المعرضة للصراعات في شرق ووسط إفريقيا. تسمح الممارسات التجارية غير الشفافة والثغرات التنظيمية لهذا الذهب المغسول بدخول الأسواق العالمية على نطاق واسع.
مع ما يقرب من 30 منطقة تجارة حرة، تعد دبي ملاذاً لغسيل الأموال على أساس التجارة.
ويلفت التقرير إلى أن الحكومة المركزية ومسؤولو دبي ووكالات إنفاذ القانون الإماراتية، يمتلكون إلى حد كبير، المعرفة التقنية والقدرة على مواجهة هذه التحديات.
ويرى التقرير أن ما يحدث في دبي -والإمارات- مهم للغرب، لأن كلاهما له أهمية استراتيجية للولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول غربية أخرى. فالإمارات هي واحدة من الشركاء التجاريين والأمنيين الرئيسيين لواشنطن ولندن في المنطقة. وتتمتع دبي، على وجه الخصوص، بعلاقات تاريخية وتجارية وثيقة مع إيران المجاورة. علاوة على ذلك، فإن العديد من الأنشطة غير المشروعة الموضحة في هذا التقرير لها عواقب استراتيجية على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بقدر ما تؤدي إلى تفاقم الصراع والجريمة المنظمة عبر الوطنية والإرهاب، وسوء الإدارة في البلدان في جميع أنحاء العالم.
الفارق بين لندن ودبي
وبينما تتنافس لندن ودبي على لقب عاصمة الأموال المريبة، يبدو أن هناك اختلافاً بين المدينتين، تتركز الأنشطة في لندن على عملية إخفاء الثروات، كما تعمل لندن كمركز لشبكة من الملاذات الضريبية المرتبطة إلى حد كبير بأملاك بريطانيا ما وراء البحار، أما دبي فبالإضافة إلى نشاط إخفاء الثروات ترتبط سمعة الإمارة أكثر بعمليات غسل الأموال، وهي مسألة بدأت تكتسب أهمية لدى الغرب بسبب الخوف من تمويل الإرهاب.
وفي هذا الإطار اتهم تقرير دولي، صدر العام الماضي، دولة الإمارات العربية المتحدة بأنها لا تتخذ ما يكفي من الإجراءات لمنع غسيل الأموال، وهو ما يثير مخاوف بشأن قدرة الدولة الخليجية على مكافحة تمويل الإرهاب، فماذا يعني هذا ولماذا الآن؟
إذ أصدرت مجموعة العمل المالي (فاتف)، في أبريل/نيسان 2020، تقريراً اتهم دولة الإمارات العربية المتحدة بأنها لا تفعل ما يكفي لمنع غسيل الأموال، رغم تحقيقها تقدماً في الآونة الأخيرة، وهو ما يثير مخاوف بشأن قدرتها على مكافحة تمويل الإرهاب.
وقالت الهيئة العالمية المعنية بمراقبة الأموال غير القانونية إنها وضعت الدولة الخليجية المتحالفة مع الولايات المتحدة تحت المراقبة الآن ولمدة عام، بحسب تقرير لرويترز.
الفارق بين المدينتين قد يكون مرتبطاً بالفارق بين النظامين السياسيين، بريطانيا ديمقراطية عريقة، لديها طبقة وسطى مستقلة نسبياً، وطبقة كادحة متذمرة، ويسار عالي الصوت، ما يجعل ممارسة دورها كعاصمة للأموال المريبة يحتاج إلى تغطية من شبكة معقدة من التمويهات والصيغ القانونية لضمان الملائمة الشكلية، على العكس لا تواجه دبي أو الإمارات كل هذه التعقيدات المحلية، حيث يوجد واحد من أكثر الأنظمة سيطرة على شعبه، ولكن القيد الوحيد الذي يواجه دبي هو البعد الدولي، ولكن الإمارات برمتها تتمتع بشبكة علاقات خارجية قوية ومتشعبة، كفيلة بتخفيف وتأثر وطأة الضغوط الدولية.
ويرى شاكسون أنه من أجل القضاء على مشكلات الظلم وعدم المساواة في عالمنا، التي تجلّت بفضل الجائحة؛ فيجب أن نقضي أولاً على الملاذات الضريبية وأصحاب المصالح الخاصة.