بينما تم التركيز على ثروة العاهل الأردني الملك عبد الله في تسريبات وثائق باندورا، ولكن الواقع أن الوثائق تظهر أن الولايات المتحدة أكبر ملاذ للثروات المخفاة.
نشر فريقٌ من الصحفيين مؤخراً تحقيقاً مُذهِلاً عن العالم الخفي للتمويل الخارجي. كشفت الوثائق التي أُطلِقَ عليها اسم "أوراق باندورا"، والتي جاءت في أعقاب "أوراق بنما" لعام 2016 وأوراق الجنة لعام 2017- مجموعة من الحيل المصرفية الخارجية والحماية من الضرائب، بما في ذلك مشتريات الملك الأردني لعقارات بالمليارات، والاستثمارات البريطانية للرئيس الأذربيجاني، والشبكة العنكبوتية للتمويل المرتبط بالكرملين، وكلها قامت على شبكاتٍ من الغموض المالي.
تُعَدُّ أوراق باندورا أكبر مجموعةٍ من الاكتشافات حتى الآن، بما في ذلك تفاصيل من ما يقرب من 12 مليون شركة وسجلات مالية. وبالإضافة إلى النطاق غير المسبوق للأوراق المُسرَّبة، كان لها فرقٌ رئيسي آخر.
في حين أن المعلومات السابقة تركَّزَت على شركاتٍ مجهولة الهوية في أمريكا الوسطى أو الولايات القضائية الكاريبية التي ترفض وقف الخدمات إلى الخارج، فإن تقارير الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ورَّطَت عملاقاً نجا إلى حدٍّ كبيرٍ في السابق من مستوى التدقيق الذي يستحقه: الولايات المتحدة، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Atlantic الأمريكية.
كيف أصبحت الولايات المتحدة أكبر ملاذ للثروات المخفاة؟
كانت كلمة "الخارج" تعني من قبل جزراً نائيةً بعيدةً عن مُتناوَل الاقتصادات الكبرى، لكن الولايات المتحدة أعادت تلك الخدمات نفسها إلى الداخل -وبذلك أصبحت واحداً من أكبر ملاذات السرية المالية في العالم، حسب وصف المجلة الأمريكية.
هذه حقيقةٌ واتجاهٌ ظلَّ يتطوّر منذ عقود. أمضت ولايات ديلاوير ونيفادا ووايومنغ جميعاً سنواتٍ في تسويق أنفسهم في جميع أنحاء العالم باعتبارها مَواطن ترحيب لشركاتٍ وهمية مجهولة المصدر، مِمَّا وفَّرَ السرية القانونية والحماية لأيِّ شخصٍ يتطلَّع إلى دفن أمواله بعيداً عن المحقِّقين والسلطات. ولكن، كما أوضحت أوراق باندورا، قدَّمَت ولايةٌ أخرى، وهي ولاية ساوث داكوتا، أداةً جديدة تماماً لجذب القليل من الاهتمام والانتقاد.
حدَّدَ الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، الذي تلقَّى البيانات المُسرَّبة وعقد شراكةً مع منافذ إخبارية في جميع أنحاء العالم لنشرها، أكثر من 200 صندوق ائتماني أُنشِئ في الولايات المتحدة، وتمتلك هذه الصناديق ما مجموعه 1 مليار دولار من الأصول. وكان أكثر من 80 من هذه الصناديق في ولاية ساوث داكوتا -وهذا أكثر مِمَّا في أيِّ ولايةٍ أخرى.
قصة الرئيس الذي أخفى أمواله في ولاية ساوث داكوتا
بفضل هذا التسريب، أصبح لدينا أخيراً فكرةٌ عمَّن كان يستفيد من البنية التحتية القانونية للدولة لتوفير السرية المالية. تكشف الوثائق أنه في عام 2017، قام الرئيس الإكوادوري غويلرمو لاسو، المصرفي السابق، بحماية الأصول في اثنين من الصناديق الائتمانية في ولاية ساوث داكوتا – بعد ثلاثة أشهر من إصدار الأكوادور تشريع يمنع السياسيين من استخدام الملاذات الضريبية.
وفي مثالٍ آخر، قام أفراد عائلة كارلوس مواليس ترونكوسو، نائب الرئيس السابق لجمهورية الدومينيكان، بنقل الملايين من الأصول إلى صناديق الائتمان بولاية ساوث داكوتا، جنباً إلى جنبٍ مع الأسهم التي تتحكَّم في أكبر مرافق إنتاج السكر في البلاد (وأكثرها إثارةً للجدل).
وكما كُتِبَ في صحيفة The Guardian البريطانية، تُظهِر أوراق باندورا أن ولاية ساوث داكوتا "تحمي مليارات الدولارات من الثروة المرتبطة بأفرادٍ مُتَّهمين سابقاً بارتكاب جرائم مالية خطيرة". ليست كلُّ الأموال مرتبطةً بحكَّامٍ فاسدين وأوليغارشية وساسة مشبوهين. لكن من الواضح أن الصناديق الائتمانية في ولاية ساوث داكوتا هي نقطة جذبٍ لهذا النوع من الأموال القذرة التي قضى القادة الفاسدون حول العالم سنواتٍ في محاولة إخفائها.
ثروات مخفاة في الولاية بقيمة تريليون دولار
ومع ذلك، فإن الصناديق الـ200 المُفصَّلة في تقارير الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ليست سوى قطرة في محيطٍ أكبر بكثيرٍ من الأموال المُتدفِّقة في المؤسسات المالية في ولاية ساوث داكوتا. وتُقدِّر أوراق باندورا أن صناديق ولاية ساوث داكوتا تستضيف الآن حوالي 360 مليار دولار من الأصول المجهولة التي لا يمكن تعقُّبها. وتشير تقديراتٌ أخرى إلى أن الرقم يقارب تريليون دولار.
وفقاً لقانون ولاية ساوث داكوتا، فإن هذه الصناديق الائتمانية، التي تشكَّلَت نتيجةً لتطلُّع قادة الولاية للاستفادة من الطلب العالمي المتزايد على إخفاء الهوية المالية وخلق فرص العمل وتوليد الإيرادات، منظمةٌ وقانونية. ينطبق هذا الوصف أيضاً على الشركات الوهمية في ولاية ديلاوير، والشركات المجهولة في نيفادا، والعقارات المجهولة واستثمارات الأسهم الخاصة.
توفِّر صناديق ساوث داكوتا الائتمانية على وجه التحديد نوع إخفاء الهوية الذي يبحث عن العملاء. ولا يقتصر الأمر على قيام أولئك الذين يؤسِّسون الصناديق الائتمانية بإدراج أنفسهم كمستفيدين -بما يتعارض مع الغرض الأصلي للائتمان، وهو حماية الأصول للآخرين- بل إنهم لا يحتاجون حتى زيارة الولاية لإنشاء صندوق ائتماني.
وتحظر الولاية مشاركة المعلومات حول هذه الصناديق مع الحكومات الأخرى، وتحتفظ كلُّ الوثائق القضائية التي تتعلَّق بصناديق ساوث داكوتا بالخصوصية إلى الأبد. والأهم من ذلك هو أن ولاية ساوث داكوتا كانت رائدةً في اللوائح التي تسمح للصناديق الائتمانية (التي تنتهي عادةً بعد قرنٍ أو نحو ذلك) بالبقاء في مكانها إلى الأبد، وتشكِّل حجر الأساس لثروة الأسر الحاكمة المثيرة للجدل.
يقول مسؤولو الولاية إنهم يراقبون عن كثبٍ أيَّ إشاراتٍ لأرقامٍ مشكوكٍ فيها أو تمويلٍ يتدفَّق إلى الولاية. ويقول توم سيمونز، الخبير الجامعي في قانون الثقة من ولاية ساوث داكوتا، والعضو في فريق عمل الثقة بالولاية الذي ساعَدَ في توجيه تشريعات الولاية المؤيِّدة لإخفاء الهوية: "نحن بالتأكيد قلقون دائماً بشأن جرائم غسل الأموال، والتي بطريقةٍ ما استخدمت الثقة لدينا لارتكاب أفعال غير مشروعة". وأضاف: "إنه ليس الغرب المتوحش".
ورغم ذلك، هذا هو بالضبط ما عليه الأمر. كان "الغرب المتوحش" من الناحية الفنية لديه لوائح في سجلاته أيضاً -ولا يعني ذلك أنهم منعوا أباطرة السكك الحديدية والمصرفيين المحتالين من تحريف القوانين المحلية لصالحهم، مِمَّا أدَّى إلى تدمير المجتمعات.
العقارات والأسهم وسيلة لإخفاء الأموال في أمريكا
رغم أن الولايات المتحدة قد أحرزت تقدُّماً كبيراً في الأشهر الأخيرة فيما يخص الشفافية الصورية للشركات، فقد استمرَّت في تجاهل شفافية الكيانات المالية الأخرى.
وتشمل هذه الكيانات الصناديق المجهولة والدائمة التي تتصدَّرها ساوث داكوتا، ولكن هذا بالكاد القطاع الوحيد الذي يستفيد من تطوُّر الولايات المتحدة كأكبر ملاذٍ خارجيٍّ في العالم.
لا تزال العقارات تشكِّل أكبر إسفنجة تمتص الثروة المجهولة وغير المشروعة في البلاد، في حين تضخَّمَت صناديق التحوُّط والأسهم الخاصة في السنوات الأخيرة إلى وجهاتٍ خارجية خاصة.
تقول مجلة The Atlantic "لقد تأخَّرَت الولايات المتحدة منذ فترةٍ طويلة في إجراء إصلاحٍ شامل لنهجها الكامل لوقف غسيل الأموال".
وكما تكشف أوراق باندورا، فإن تقرير الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين يمثِّل شريحةً ضيِّقة من الثروة التي تتدفَّق مباشرةً إلى قلب النظام المالي الأمريكي -وكلها تتطلَّع إلى الإخفاء عن أعين المتطفِّلين، وفي كثيرٍ من الحالات تكون أموال مغسولة، هنا في ولايات التجهيل وعدم الشفافية الأمريكية.