منذ رحيل الحكومة البريطانية عن الاتحاد الأوروبي، سعت إلى تعزيز صورتها في الداخل والخارج بسلسلة من الحملات الدعائية، مثل الحملة الإعلانية "بريطانيا عظيمة"، التي تهدف إلى "الترويج للإبداع والابتكار البريطانيَّين للمستثمرين الأجانب".
لكن ما لم تأتِ على ذكره هو الموهبة العظيمة التي طورتها المملكة المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي أن تصبح مركزاً لـ غسيل الأموال، وملاذاً ضريبياً، وميسّراً للتمويل العالمي. وهي مكانة عززتها بريطانيا والدول الخاضعة لسيطرتها، منذ تدهور البلاد في أعقاب الانهيار الفوضوي للإمبراطورية، كما يقول موقع Middle East Eye البريطاني.
شبكة عنكبوتية من الأموال القذرة.. لماذا لندن؟
تقول ريتشل إيتر فويا، الباحثة البارزة بشبكة العدالة الضريبية (TJN) ومقرها المملكة المتحدة، لموقع MEE البريطاني: "مدينة لندن لديها مجموعة قواعد مختلفة بالكامل عن المملكة المتحدة، ولديها شبكة عنكبوتية تمتد من جزر كايمان وحتى جيرسي تغذيها. إنها إمبراطورية بريطانيا الثانية".
وبعد انتهاء الاستعمار البريطاني الرسمي، ظلت بريطانيا لاعباً رئيسياً في تمكين الأموال القذرة- أو الأموال التي كان ينبغي فرض ضرائب عليها في مكان آخر- من التدفق من خلالها.
تقول ريتشل: "من باب النفاق أن تدعو بريطانيا إلى الحكم الرشيد، وتقدم مساعدات إنمائية للشرق الأوسط، لكنها في الوقت نفسه تمكّن تلك البلدان وغيرها من نقل الأموال إلى الخارج، لاسيما النخب السياسية، التي أشارت إليها وثائق باندورا".
والمستعمرات والدول التابعة سابقاً للمملكة المتحدة، لها دور حيوي في الطريقة التي تعمل بها هذه الشبكة العنكبوتية، حيث تستقر بريطانيا في مركز الشبكة، وتنتشر بؤرها حول العالم في أماكن كانت ذات يوم جزءاً من إمبراطوريتها.
ووفقاً لشبكة العدالة الضريبية، تمثل المملكة المتحدة 16% من السوق العالمية للخدمات المالية الخارجية. وإذا أضيفت نقاط الأراضي البريطانية في مؤشر ملاذ ضرائب الشركات CTH التابع لشبكة العدالة الضريبية لعام 2021- التي قُيمت على أنها مساهمة تقدمها في إجمالي السرية المالية العالمية- فإنها تمثل 22% من الإجمالي العالمي.
بريطانيا وتوابعها مسؤولة عن نحو 49% من التهرب الضريبي بالعالم سنوياً
وعلاوة على ذلك، وفقاً لتقرير حالة العدالة الضريبية لعام 2020، فهذه الشبكة العنكبوتية في المملكة المتحدة مسؤولة عن أكثر من 49% من الضرائب التي يخسرها العالم بسبب التهرب الضريبي الخارجي الخاص كل عام والتي تبلغ قيمتها 182 مليار دولار، أي ما يكلف العالم ضرائب مفقودة تصل إلى 90 مليار دولار.
وسبعة من أول 15 ولاية قضائية في مؤشر ملاذ ضرائب الشركات، ومن بينها لندن، أقاليم بريطانية خارجية أو تابعة للتاج البريطاني، حيث تكون الملكة على رأس الدولة، وخمسة منها مستعمرات سابقة.
وصحيح أن هونغ كونغ وسنغافورة والإمارات وإيرلندا وقبرص كلها مستقلة، إلا أن أنظمتها المالية ولوائحها التنظيمية لاتزال مرتبطة بلندن ارتباطاً وثيقاً، كما يقول الموقع البريطاني.
في مؤشر السرية المالية TJN، ترتبط أول خمسة أماكن من أصل 10 ببريطانيا أيضاً: جزر كايمان وهونغ كونغ وسنغافورة وجزر فيرجن البريطانية (BVI) والإمارات.
يقول لاكشمي كومار، مدير السياسات في النزاهة المالية العالمية (GFI): "جميع هذه المراكز المالية تستنسخ القانون العام البريطاني، ونموذج دبي مأخوذ من نموذج المملكة المتحدة".
وهذه المراكز المالية المرتبطة بالمملكة المتحدة عُرفت غير مرة بأنها ملاذات لغسيل الأموال والتهرب الضريبي وإخفاء المكاسب غير المشروعة للحكام الفاسدين، مثلما هو مذكور في وثائق بنما وباندورا، التي تضم عدداً كبيراً من الساسة العرب والأفراد الأثرياء الذين استغلوا هذه الملاذات الضريبية.
وجزر فيرجن البريطانية تحديداً كان لها دور بارز. يقول كومار: "ترتبط جزر فيرجن البريطانية وجيرسي وجميع هذه الأقاليم وراء البحار مرة أخرى بلندن. ودائماً ما نجد حالة بجزر فيرجن البريطانية في وثائق باندورا. وأينما كنت في هذا العالم، دائماً ما تكون جزر فيرجن البريطانية وجهة الوسطاء".
وجميع قادة الشرق الأوسط المشار إليهم في وثائق باندورا لديهم شركات بجزر فيرجن البريطانية: أمراء خليجيون، ورؤساء وزراء لبنانيون، وملك الأردن عبد الله الثاني وزعيم أذربيجان. يقول كومار: "وهذا يخبرنا بالكثير عن سمعتها، ومدى انتشارها".
هكذا أصبحت لندن مركزاً مالياً لحكام الخليج وأثرياء العرب
بعد انهيار الإمبراطورية البريطانية، ركزت لندن على ممالك الخليج الغنية بالنفط؛ لكونها منطقة يمكن أن تواصل فيها ممارسة نفوذها وحشد الأعمال التجارية.
ورغم أن السعودية تأسست عام 1932، حصلت الإمارات المتصالحة- الإمارات وقطر والبحرين- على استقلالها بعد ذلك بوقت طويل، عام 1971، العام نفسه الذي كانت فيه الكويت، التي استقلت عام 1961، قد سيطرت على شؤونها الخارجية، التي كانت حتى ذلك الحين خاضعة لإشراف لندن.
يقول أندرو فاينستين، المدير التنفيذي لمؤسسة Shadow World Investigation: "كانت البنوك البريطانية حاضرة هناك من وقت مبكر جداً، ولديها بعض الرصيد بفضل مدينة لندن".
وفي إطار انتقال دول الخليج إلى الاستقلال، ستتكفل لندن بأمنها مقابل صادرات النفط وتدفق أموال النفط إلى مدينة لندن، فضلاً عن صفقات الأسلحة الكبرى، التي كثيراً ما كانت مشبوهة، مثل صفقة اليمامة.
وتَشجَّعَ المستثمرون والنخب العرب على الاستثمار في العقارات بلندن، والاستفادة من النظام المالي والصناديق الاستئمانية في العاصمة البريطانية.
يقول فاينستين: "معظم قادة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لديهم ممتلكات بالمملكة المتحدة، وكانت سلطات المملكة المتحدة شديدة البراعة في تجاهلها".
وبعد ثورة الربيع العربي عام 2011، تبين أن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك كان يمتلك عقارات فاخرة في لندن، وأن الساعدي نجل الزعيم الليبي معمر القذافي يمتلك منزلاً بقيمة 10 ملايين جنيه إسترليني (نحو 13 مليون دولار) في هامبستيد.
ما علاقة دبي بذلك؟
رغم احتفاظ بريطانيا بجاذبيتها ملاذاً آمناً لتخزين الثروة وشراء العقارات دون الكشف عن هوية أصحابها، أوجدت دبي لنفسها مكانة استفادت بشكل مباشر وغير مباشر من علاقاتها التاريخية مع لندن.
يقول فاينستين: "دبي ولندن في تنافس وتعاون، وبطريقة أو بأخرى يستفيد كل منهما من الآخر. فالمؤسسات المالية لها حضور كبير بالمدينتين، وتؤدي أنشطة غير لائقة في أفضل مكان لهذا النشاط. الفارق الأساسي هو أن دبي جديدة في اللعبة نسبياً".
وفي الوقت الذي تستنسخ فيه دبي نموذج لندن، تحذو دول أخرى حذوها بمساعدة بريطانية. إذ تحاول كازاخستان، وهي دولة أخرى غنية بالنفط، تحويل العاصمة أستانا إلى مركز مالي لغسيل الأموال والتهرب الضريبي.
يقول كومار: "وهي تستقدم محامين وقضاة بريطانيين سابقين لإنشاء هذا المركز، وتحويل أستانا إلى دبي المنطقة. ومثل الإمارات، فهي مركز للأعمال التجارية ولكنها أيضاً مركز لهجرة الأموال ورأس المال المشكوك فيهما".