أثار إصدار مجلس النواب الليبي قانون الانتخابات البرلمانية، الإثنين الماضي، زوبعة من الانتقادات، تجاوزت تلك التي خلفها إصدار قانون انتخابات الرئيس قبل أقل من شهر، ما يؤشر إلى إمكانية إجراء انتخابات معيبة ومطعون فيها تشبه تلك التي نُظمت في 2014.
أكثر تلك الانتقادات تتعلق بتأجيل الانتخابات البرلمانية، وحرمان الأحزاب من دخول الانتخابات بقوائمها، ناهيك عن عدم حصول جلسة تصويت البرلمان على النصاب القانوني، وعدم استشارة مجلس النواب للمجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري).
قانون الانتخابات الليبية وغياب النصاب القانوني
يقول تقرير لوكالة الأناضول، إنه في جلسة غاب عنها معظم النواب بمن فيهم رئيس البرلمان عقيلة صالح، أعلن عبد الله بليحق، المتحدث باسم مجلس النواب، مصادقة المجلس على قانون الانتخابات التشريعية، دون أن يقدم تفاصيل عن عدد النواب الذين حضروا جلسة المصادقة، وكم حاز القانون من أصوات.
لكن بمتابعة فيديو لجلسة النواب، فإن عددهم كان قليلاً وفي قاعة صغيرة غير تلك التي اعتاد النواب الاجتماع بها في مقرهم بأحد فنادق مدينة طبرق (شرق)، ما يؤكد عدم بلوغ الاجتماع النصاب القانوني (الأغلبية الموصوفة) والمقدر بـ120 نائباً، بحسب الإعلان الدستوري.
ويقول المحلل السياسي عبد السلام الراجحي، في تصريح تلفزيوني، إن الجلسة "لم يحضرها سوى 34 نائباً"، وهي أقل بكثير من النصاب القانوني، ما قد يجعل الطعن في القانون أو حتى في الانتخابات بعد إجرائها أمراً محتملاً مثلما حدث في انتخابات مجلس النواب في 2014، والتي أبطلتها المحكمة العليا، ورفض المجلس الاعتراف بحكمها.
وهذا التجاوز يذكرنا بقانون انتخابات الرئيس الذي أقره عقيلة صالح حتى دون تصويت النواب، ورفعه إلى المفوضية العليا للانتخابات، التي اعترفت به، رغم رفض عشرات النواب له ممن حضروا جلسات المناقشة.
تأجيل البرلمانيات في ليبيا "خرق جديد"
إحدى النقاط الخلافية التي أثارت استياء ورفض أطراف ليبية، قرار مجلس النواب تأجيل الانتخابات البرلمانية بعد شهر من اعتماد نتائج الانتخابات الرئاسية، بحسب ما أعلنه المتحدث باسم مجلس النواب.
رغم أن الأطراف الليبية اتفقت أن تكون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية متزامنة، بل فيهم من كان يطالب بإجراء الانتخابات البرلمانية أولاً وتأجيل الرئاسية؛ نظراً للخلافات العميقة بشأن الأخيرة، خاصة ما تعلق بترشح شخصيات جدلية مثل: خليفة حفتر، و"سيف الإسلام"، نجل معمر القذافي، زعيم ليبيا الراحل.
كما أن الرئيس المنتخب يُفترض أن يؤدي اليمين الدستورية أمام البرلمان؛ لذلك كان الطرح أن تكون الانتخابات البرلمانية والرئاسية متزامنة، أو أن تسبق الأولى الثانية إذا تعذر تنظيمهما معاً لضيق الوقت.
غير أن سعي عقيلة لتأجيل الانتخابات البرلمانية شهراً كاملاً بعد اعتماد نتائج الانتخابات الرئاسية، لا يمثل فقط خرقاً للالتزامات المتفق عليها، بل يهدف بالأساس إلى تمديد عمل البرلمان الحالي أطول مدة ممكنة.
فعقيلة، نجح طيلة 7 سنوات في البقاء على رأس مجلس النواب، رغم أن ولايته لا تتجاوز عاماً واحداً فقط غير قابل للتجديد، طبقاً للإعلان الدستوري (دستور مؤقت)، وحتى بعد حل المحكمة العليا لمجلس النواب نهاية 2014، استمر في منصبه تحت سلطة الأمر الواقع.
ثم أخذ عقيلة صالح شرعية جديدة بعد اتفاق الصخيرات نهاية 2015، الذي مدد له عاماً آخر، وحتى بعد أن انفض عنه معظم النواب في 2019، بسبب دعمه لهجوم حفتر على العاصمة طرابلس، حافظ على منصبه بدعم مجموعة صغيرة من النواب.
وكان من المفروض أن يترك عقيلة رئاسة مجلس النواب لأحد نواب المنطقة الجنوبية، في إطار تقسيم السلطات بين الأقاليم الثلاثة (رئاسة المجلس الرئاسي للشرق، ورئاسة الحكومة للغرب، ورئاسة البرلمان للجنوب)، لكن هذا لم يحدث وتمسّك عقيلة برئاسة البرلمان بعد إخفاقه في "انتخابات" رئاسة المجلس الرئاسي.
مجلس النواب والرهان على الخلافات بين أطراف الأزمة
وتقول الأناضول إن تأجيل الانتخابات البرلمانية شهراً واحداً، مناورة لعقيلة ومجموعته، بهدف إطالة ولايتهم النيابية أكثر مدة ممكنة، خاصة إذا جرت الانتخابات الرئاسية في دورتين، أو حدثت طعون أخّرت اعتماد نتائج الرئاسيات، ما سيؤجل تنظيم الانتخابات البرلمانية بدل الشهر أشهراً.
لكن الأهم من ذلك جعل الانتخابات البرلمانية رهينة في يد عقيلة صالح، لإجبار الأطراف الرافضة لقانون انتخابات الرئيس على عدم الطعن في قانونيته أو دستوريته، وإلا لن يتم تنظيم الانتخابات البرلمانية.
إذ إن خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري)، قال بوضوح إنه لن يقبل بوصول حفتر إلى رئاسة ليبيا، وكذلك عدد من قادة الكتائب والثوار السابقين الذين قاتلوا ميليشيات حفتر لسنوات.
وفي جميع الحالات، سيضمن مجلس النواب، وعلى رأسه عقيلة، كسب مزيد من الوقت، والرهان على الخلافات بين أطراف الأزمة، للتمديد لولايته أطول فترة ممكنة.
رغم أن المظاهرات التي خرجت في طرابلس وعدة مدن ليبية مؤخراً، طالبت برحيل مجلس النواب، باعتباره أولوية، لدوره في عرقلة المسار السياسي، وفشله في إنهاء المراحل الانتقالية، وإخفاقه في إصدار قوانين الانتخابات طيلة 7 سنوات، قبل أن يكتفي بتعديل مادتين فقط من قانون الانتخابات البرلمانية.
إقصاء الأحزاب ومنعها من الترشح بالقوائم
إحدى المفارقات الذي أثارت غضب الأحزاب الليبية، قرار مجلس النواب اعتماد النظام الفردي في الانتخابات بدل نظام القوائم الحزبية، ما يعني إقصاء ضمنياً للأحزاب من المشاركة بشكل مباشر في الانتخابات.
ففي انتخابات المؤتمر الوطني العام (المجلس التأسيسي) في 2012، تم اعتماد النظام المختلط (120 مقعداً فردياً و80 مقعد قوائم حزبية)، لكن في 2014، قبلت الأحزاب أن لا تشارك في الانتخابات لعام واحد وتم تطبيق النظام الفردي.
وبدل أن يتم الاستجابة للأحزاب برفع حصة القوائم في النظام المختلط من 80 إلى 100 أو أكثر، فإن مجلس النواب، أو 34 نائباً فقط (من إجمالي نحو 175)، قرروا إلغاء النظام المختلط والاكتفاء بالنظام الفردي؛ ما أثار اعتراض الأحزاب الليبية، وعلى رأسها حزب العدالة والبناء (إسلامي)، والجبهة الوطنية (ليبرالي).
وإن كان المتحدث باسم مجلس النواب أوضح أن النظام الفردي لا يحرم مناضلي الأحزاب من الترشح، إلا أن الأخيرة رفضت هذا التبرير، واعتبرت أن النظام الفردي يكرّس القبلية والجهوية والفساد، "وسيُنتج برلماناً كارثياً على غرار مجلس النواب الحالي".
عدم الرجوع إلى مجلس الدولة الليبي
مقترحات قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والقاعدة الدستورية التي أعدها المجلس الأعلى للدولة، في 19 سبتمبر/أيلول الماضي، ورفعها لمجلس النواب، لم يأخذها الأخير محمل الجد، وتجاهلها بشكل تام.
وأكثر من ذلك، أعدّ مجلس النواب قانوني الانتخابات البرلمانية والرئاسية دون استشارة المجلس الأعلى للدولة، مخالفاً بذلك الاتفاق السياسي.
وحتى بعدما اجتمع وفدان من مجلس النواب ومجلس الدولة بالمغرب، مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري، فإنه لم يخرج بأي نتيجة ذات أهمية، بحسب عبد القادر الحويلي، عضو مجلس الدولة، خاصة مع تمسك مجلس النواب باحتكار صلاحية التشريع، دون الحاجة إلى استشارة مجلس الدولة.
ويبدو مجلس الدولة، فاقداً لسلطة فعلية على الأرض، بسبب "انحياز نسبي" للبعثة الأممية لمجلس النواب، وكذلك مفوضية الانتخابات، والدول الغربية الكبرى (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا).
كما أن تأييد فتحي باشاغا، المرشح المحتمل للرئاسيات، الرجل القوي في المنطقة الغربية، لقانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أضعف قليلاً موقف مجلس الدولة، خاصة بعدما انضم إليه المرشح المحتمل الآخر أحمد معيتيق، النائب السابق لرئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق (2016-2021).
إلا أن مجلس الدولة تلقى دعماً سياسياً من رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، الذي شدد، في حوار صحفي مع رويترز، على أن "الأساس القانوني للانتخابات يجب أن يوافق عليه كل من البرلمان ومجلس الدولة".
وحذر المنفي، بأنه "سيحثُّ المرشحين في الانتخابات، المقرر إجراؤها في ديسمبر، على عدم المشاركة، ما لم يكن هناك توافق بينهم على الإطار القانوني للتصويت".
بينما هدد أعضاء في المجلس الأعلى للدولة بالعودة إلى المربع الأول، وإعادة المؤتمر الوطني العام، والاعتراف بقرار المحكمة العليا حل مجلس النواب.
واللجوء إلى هذا الخيار، لا يمكن تنفيذه إلا بدعم من كتائب المنطقة الغربية، والشخصيات النافذة فيها، وأيضاً رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، الذي اكتسب في الفترة الأخيرة مشروعية شعبية، بعد فشل البرلمان في إسقاط حكومته، بالإضافة إلى المجلس الرئاسي، بقيادة المنفي.
العقوبات الدولية من ستطال؟
يحاول عقيلة صالح، والنواب الموالون له، من خلال إصدار قوانين الانتخابات، وضع خصومهم في زاوية ضيقة وإظهارهم للرأي العام الدولي بأنهم يعارضون الانتخابات ويعرقلون إجراءها.
بينما يعتبر مجلس الدولة والعديد من الأحزاب وقادة الوحدات العسكرية في المنطقة الغربية، ما يصدره مجلس النواب من قوانين معيبة قانونياً وسياسياً، دون حصولها على النصاب أو حتى التصويت عليها وعدم التوافق بشأنها، عرقلة لإجراء الانتخابات.
وأمام هذا التباين في المواقف بين أطراف الصراع، يرفع المجتمع الدولي عصا العقوبات الدولية في وجه من يعتبرهم معرقلين للانتخابات.
وفي هذا الصدد، صادق مجلس النواب الأمريكي على "قانون استقرار ليبيا"، والذي يتضمن فرض عقوبات على الأشخاص والكيانات التي تعرقل الانتخابات أو تزعزع الأمن في البلاد.
والمسار الذي يتبعه عقيلة صالح، سيؤدي إما لفرض الأمر الواقع على خصومه، أو إلى تأجيل الانتخابات، بحيث تُلقى المسؤولية على الطرف الآخر في المنطقة الغربية، ووضع رموزه تحت طائلة العقوبات الدولية، بينما يستمر رئيس مجلس النواب مدة أطول في الحكم.
وهذا المسار سيُدخل البلاد مجدداً متاهة الفوضى الأمنية، وهو ما حذر منه وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، الذي عبر عن مخاوف بلاده من اندلاع أعمال عنف جديدة في ليبيا.
فخلال لقائه بوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في مدينة بوردو الفرنسية، الأربعاء، شدد دي مايو على أن إيطاليا لا يمكنها تحمل ما ستنتجه (أعمال العنف في ليبيا) من آثار متوقّعة على بلاده، بسبب تدفقات الهجرة الجديدة غير المنضبطة.
لذلك تسعى الدول الغربية لإجراء انتخابات بأي ثمن في ليبيا، لكنها قد تضيع في متاهة المناورات السياسية لعقيلة صالح ومن حوله.