نجت منطقة المغرب العربي نسبياً باستثناء ليبيا من مصير المشرق الذي تدهورت أحواله بشكل غير مسبوق منذ عقود بعد انهيار الربيع العربي.
كانت نجاة المغرب العربي نتيجة خليط من العوامل المرتبطة بالمنطقة بأكملها أو بكل دولة على حدة، تونس بدا أنها نجت من خلال حرص الجيش على النأي بنفسه عن السياسة، أو تجنبه إغراء الاستيلاء على الحكم، واستمرار الخلافات بين الإسلاميين والعلمانيين وقوى النظام القديم، داخل الإطار الدستوري، أو على الأقل بدا الأمر هكذا حتى رحيل الرئيس السابق القايد السبسي، وتولي الرئيس الحالي قيس سعيد السلطة.
والجزائر، لم تحدث فيها تحولات كبيرة، بالنظر إلى أن تجربة العشرية السوداء منعت انفجاراً ضد النظام، الذي ترك بدوره رغم كل عثراته وأخطائه مساحة محدودة للمعارضة، كما استطاع تحويل دفة الحراك ضد ترشيح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وهو على فراش المرض لصالحه، فعزل بوتفليقة وأجريت انتخابات رئاسية قوبلت بانتقادات ومقاطعة من المعارضة، ولكنها على الأقل جددت شرعية النظام جزئياً، ثم ساعدته الجائحة في تهدئة الحراك.
وفي المغرب، كان الملك محمد السادس أذكى مَن تعامل مع الربيع العربي، حيث أجرى تعديلات دستورية، امتصت حمأة النسخة المغربية من الربيع العربي عبر السماح بتولي الحزب الفائز بالانتخابات عملية قيادة الحكومة ليشكل حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعارض حكومتين في العقد الماضي، حققت بعض النجاحات الاقتصادية، ولكنها أيضاً مرّرت بضغطٍ ملكي قرارات صعبة ومخالفة لمرجعية الإسلاميين مثل التطبيع، وهو ما أفضى في النهاية لهزيمة الإسلاميين وفوز حزب التجمع الوطني للأحرار المقرب للملك بالانتخابات وتكليفه بتشكيل الحكومة وتهميش حزب العدالة الذي تعرض لهزيمة مدوية.
وعلى مدار العقد الماضي، بدا أن الخلافات المغربية الجزائرية التقليدية، خاصة بشأن الصحراء، مسيطر عليها في إطارها التقليدي الذي يجعلها قائمة دون تصعيد.
تجنب تأثيرات الثلاثي المعادي للربيع العربي
خلال العقد الماضي، حاولت دول المغرب العربي الثلاث الرئيسية تجنب التأثيرات السلبية للثلاثي المعادي للربيع العربي السعودية والإمارات ومصر، والتي تدخلت بالفعل في ليبيا، ولكن كان هناك حرص نسبي من القوى السياسية في تونس والجزائر والمغرب على تجنب أي تدخل خارجي في النزاع التقليدي بين الإسلاميين من جهة والقوى العلمانية واليسارية وقوى الدولة من جهة أخرى، وهو النزاع الذي كان قائماً في هذه الدول كنزاع سياسي وليس حرباً أهلية أو عملية إقصائية كما حدث في كثير من دول المشرق.
فقيل إن أحد أسباب الأزمة في العلاقات الإماراتية السعودية المغربية، رفض الرباط أي محاولة تدخل من قبل البلدين الخليجيين في وضع حزب العدالة والتنمية الإسلامي ومحاولة إقصائه بشكل غير ديمقراطي، كان للقصر الملكي المغربي خلافه الخاص مع الحزب ورغبته في تحجيمه، ولكن القصر أراد أن يفعل ذلك بطريقة سياسية ودون تدخل خارجي، وقد تحقق له ذلك دون خسائر تقريباً، بل بمكسب كبير هو فوز الأحزاب المقربة مثل التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة بأعلى الأصوات.
والجزائر التي لها تاريخ دموي في الحروب الأهلية كانت حريصة على إبقاء الخلاف بين النظام والمعارضة وعلى رأسها الإسلاميون في إطار داخلي، بل كانت متحفظة على النهج المصري الإماراتي لمحاولة إقصاء الإسلاميين في ليبيا وتونس.
وفي تونس كانت القوى الليبرالية والعلمانية وفلول النظام حريصة على الحد من تأثير التدخل الإماراتي ضد النهضة، أو لم تتسق معها كثيراً، وقيل إن الرئيس الراحل القايد السبسي رفض عرضاً إماراتياً مغرياً للإطاحة بالإسلاميين وحزب قلب تونس، الذي أسسه المرشح الرئاسي السابق نبيل القروي لمواجهة الإسلاميين، تحالف معهم فعلياً في البرلمان، وكان التأثير الإماراتي في تونس محدوداً، وجاء بالأساس عبر زعيمة الحزب الدستوري الحر عبير موسى، الذي ظل دعائياً إلى حد كبير.
ولكن كل شيء بدأ يتغير هذا العام في منطقة المغرب العربي الكبير، كما ظهر في تونس، التي جاءت ضربة الديمقراطية لها من جهة غير متوقعة، من رئيس مستقل، يتبنى خطاباً ثورياً وقومياً أحياناً.
فيما تصاعدت التوترات بشكل غير مسبوق بين الجزائر والمغرب بشأن الصحراء وقضايا أخرى، إضافة إلى توتر مغربي إسباني وأخيراً استفزاز فرنسي وقح للجزائر.
وباتت الأزمات الأخيرة في منطقة المغرب العربي تهدد استقرار المنطقة، خاصة أنها أخذت أبعاداً سياسية وأمنية واقتصادية، مع دخول أطراف خارجية على غرار فرنسا في الصراعات القائمة بالمنطقة، ما من شأنه تعميق حدة هذه الأزمات.
وإذا استبعدنا ليبيا وموريتانيا، لخصوصيتهما، وركزنا على الجزائر والمغرب وتونس فإن المنطقة مُقبلة على سيناريوهات مفتوحة، بعضها يهدد بزعزعة استقرار دولها، إن لم يتم احتواء أزماتها قبل انفلات عقالها.
الصحراء معضلة منطقة المغرب العربي التي تبدو بلا حل
أزمة إقليم الصحراء تعتبر من أهم الملفات الشائكة بين المغرب من جهة، وجبهة "البوليساريو" والجزائر التي تستضيف لاجئين من الإقليم من جهة أخرى.
ويشهد إقليم الصحراء منذ 1975 نزاعاً بين المغرب و"البوليساريو"، منذ إنهاء الاحتلال الإسباني وجوده بالمنطقة؛ حيث تعرِض الرباط حكماً موسعاً تحت سيادتها، فيما تدعو الجبهة إلى استفتاء لتقرير المصير، وهو طرح تدعمه الجزائر.
ومع إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على إقليم الصحراء، فتح ذلك باباً جديداً من المناوشات بين الرباط و"البوليساريو".
وإن كانت هذه المناوشات تبدو محدودة، ولم تصل إلى مرحلة "الحرب الشاملة"، إلا أن استمرارها يهدد باستقرار المنطقة.
ملف إقليم الصحراء تسبب أيضاً في تعقيد الأزمة بين الجزائر والمغرب بشكل غير مسبوق، مع تصريحات متبادلة حين طرح وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، الملف خلال اجتماع "دول عدم الانحياز الافتراضي" بأذربيجان، في 13 و14 يوليو/تموز الماضي، ليرد مندوب المغرب لدى الأمم المتحدة عمر هلال، بالدعوة إلى "استقلال شعب القبائل" بالجزائر.
بعد تداعيات ذلك، شرعت الجزائر في سلسلة إجراءات ضد الرباط بدءاً من استدعاء السفير، وقطع العلاقات الدبلوماسية، وعدم تجديد عقد نقل الغاز الجزائري إلى إسبانيا عبر أنبوب يمر بالأراضي المغربية، ثم غلق الأجواء الجزائرية أمام الطيران المغربي.
إسبانيا والمغرب.. توتر تعقبه تهدئة
وغير بعيد عن شمال إفريقيا، تبقى العلاقات بين إسبانيا والمغرب تعرف حالة من المد والجزر.
فالعلاقة بين البلدين شهدت أزمة على خلفية استضافة مدريد بين 21 أبريل/نيسان ومطلع يونيو/حزيران الماضيين، رئيس جبهة "البوليساريو" إبراهيم غالي بـ"هوية مزيفة" بدعوى تلقي العلاج من كورونا، وهو ما أغضب الرباط، التي تتهمه بارتكاب "جرائم حرب".
وازدادت حدة الأزمة بعد تدفق نحو 8 آلاف مهاجر غير نظامي منتصف مايو/أيار الماضي، بينهم قاصرون، من المغرب إلى سبتة (تابعة لإدارة إسبانيا)، وهو ما اعتبره مسؤولون إسبان وأوروبيون محاولة من الرباط للضغط على مدريد، بعد استقبالها "غالي".
وفي يوليو/تموز الماضي، عيّن رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، خوسيه مانويل وزيراً للخارجية، بدلاً من أرانشا غونزاليس لايا؛ لتحسين العلاقات مع المغرب، حسب وسائل إعلام البلدين.
وفي 20 أغسطس/آب الماضي، قال العاهل المغربي الملك محمد السادس، في خطاب متلفز إن بلاده تتطلع لتدشين مرحلة "جديدة وغير مسبوقة" في العلاقات مع إسبانيا.
وأضاف: "صحيح أن هذه العلاقات مرت في الفترة الأخيرة بأزمة غير مسبوقة هزت بشكل قوي الثقة المتبادلة، وطرحت تساؤلات كثيرة حول مصيرها، غير أننا اشتغلنا مع الطرف الإسباني بكامل الهدوء والوضوح والمسؤولية".
استفزاز الجزائر أقصر طريق للإليزيه
بشكل مفاجئ، أقحم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الجزائر في حملته الانتخابية المقررة ربيع 2022، عندما طعن في تصريحات الشهر الجاري في وجود "أمة جزائرية" قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد عام 1830، وتساءل مستنكراً "هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟".
وجاء الرد الجزائري سريعاً باستدعاء سفيرها لدى باريس وغلق أجوائها أمام الطائرات العسكرية المتجهة إلى مالي.
كما صدر بيان من الرئاسة الجزائرية ندد بتصريحات ماكرون، التي وصفها بـ"اللامسؤولة"، والتي تمثل "مساساً غير مقبول بذاكرة 5 ملايين و630 ألف شهيد ضحوا بأنفسهم عبر مقاومة شجاعة ضد الاستعمار الفرنسي (1830-1962)".
فماكرون، الذي وصف الاستعمار الفرنسي خلال حملته الانتخابية في 2017، بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، واعتبره حينها وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة بأنه "صديق" لبلاده، غير ملعبه هذه المرة، وتوجه نحو مغازلة اليمين المتطرف.
فمع تصاعد التيار اليميني في فرنسا، يراهن ماكرون عليه للفوز بولاية رئاسية ثانية، وأقرب طريق إلى أصوات اليمينيين هو التضييق على المهاجرين خاصة المغاربة.
وجاء قرار ماكرون بتقليص التأشيرات لكل من الجزائر والمغرب وتونس، في إطار التقرب من الناخبين اليمينيين المعادين للمهاجرين، رغم أن الناخبين الفرنسيين من أصل جزائري يبلغ عددهم أكثر من مليون صوت، ناهيك عن الناخبين المغربيين والتونسيين، الذين كان دورهم حاسماً في صعود ماكرون للدور الثاني من رئاسيات 2017.
وكلما اقتربنا من موعد الرئاسيات الفرنسية في أبريل/نيسان المقبل، زاد الاحتقان بين باريس والجزائر، خاصة أن الأخيرة في عهد الرئيس عبد المجيد تبون، أصبحت أقل تسامحاً مع التجاوزات الفرنسية، ومن المتوقع أن تلغي الاجتماعات الثنائية رفيعة المستوى المتعلقة بـ"الذاكرة المشتركة" للبلدين.
ومن المرتقب أن نشهد في المرحلة المقبلة تحالف الجزائر مع روسيا في مالي، لتقليص النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي.
لكن الاحتقان بين الجزائر وباريس قد يتراجع بعد انتخاب فرنسا رئيساً جديداً، بالنظر إلى حجم المصالح المشتركة بين الطرفين، التي لا يريد أي منهما التفريط فيها.
تونس على خطى لبنان
ولم تنجُ تونس من الوضع المتأزم في شمال إفريقيا، فالمعقل الأول للربيع العربي يشهد نكوصاً عن الإنجازات التي حققتها ثورة الياسمين التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي في 2011.
فتعليق الرئيس قيس سعيد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب، وإقالة حكومة هشام المشيشي، ثم تعيينه رئيسة وزراء جديدة بعد تمديد الإجراءات الاستثنائية، وعزمه تغيير قانون الانتخابات وفق رؤية جديدة "تمهد لإلغاء الأحزاب تلقائياً".
لكن هذه الإجراءات الاستثنائية لا تلقى إجماعاً من الشعب التونسي، بل قسمته إلى طائفتين، الأولى مع الرئيس والثانية ضد إجراءاته، تجلت من خلال المظاهرات الأخيرة في شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة.
وتتزامن هذه الإجراءات مع أزمة مالية خانقة بحسب محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي، تهدد البلاد بالإفلاس، خاصة بعد بلوغ ديون البلاد 90% من الناتج الداخلي نهاية 2020، بينما لم تكن تتجاوز 43% في 2009.
بينما يحتاج الرئيس سعيد لتأمين 2.82 مليار دولار، لتجنب عجز الميزانية، بحسب مجلة "جون أفريك" الفرنسية، في حين مازالت المؤسسات المالية الدولية تتلكأ في منح تونس قرضاً جديداً بضمان أمريكي، في ظل الوضع السياسي الضبابي، وضغوط واشنطن من أجل عودة البلاد إلى وضعها الطبيعي.
وفي ظل اجتماع أزمة سياسية حادة مع أخرى اقتصادية خانقة تتجه تونس في ظل مخاوف من تخلفها عن سداد ديونها لتصبح "لبنان المغرب العربي"، خاصة مع تداعيات جائحة كورونا صحياً واقتصادياً واجتماعياً.
هذا الغليان السياسي في كل من الجزائر والمغرب وتونس إما أن يتم احتواؤه بشكل ثنائي أو داخلي، وتجنب التصعيد والبحث عن خيارات للتهدئة والحلول العقلانية، أو أن المنطقة قد تنزلق إلى متاهات أكثر تعقيداً مما هي عليه الآن.