كان اغتيال محب الله نتيجة حتمية لنهجه الفريد في الدفاع عن قضايا الروهينغا.
فلقد قُتِل محب الله، زعيم من أقلية الروهينغا كان يؤمن بقوة البيانات لمواجهة وحشية التطهير العرقي الذي تمارسه حكومة ميانمار، الأربعاء 29 سبتمبر/أيلول، برصاص مسلحين في ملجأ مبني من أخشاب الخيزران والقنب بمخيم كوتوبالونغ في بنغلاديش، واالذي يعد أكبر مخيم للاجئين في العالم.
محب الله، الذي عمل مسؤولاً إدارياً ومعلماً في ميانمار وكان عمره 46 سنة، برز بصفته قيادياً في مستوطنات اللاجئين المترامية الأطراف بجنوب شرقي بنغلاديش، التي تضم نحو مليون نازح من الروهينغا، والعديد منهم مصابون باضطراب ما بعد الصدمة، يسبب هروبهم من حملة القتل والاغتصاب وحرق قراهم على يد جيش ميانمار، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
محب الله فر من قريته المحروقة إلى بنغلاديش
وكان محب الله قد فر من ميانمار في عام 2017، عندما أحرق جيش ميانمار قريته؛ مثل مئات آخرين، في حملة عنيفة قال محققو الأمم المتحدة إنها تحمل بصمات الإبادة الجماعية. ولم يكَد يستقر في الملجأ الخاص به حتى بدأ في مساعي توثيق جرائم جنود ميانمار.
وظل على مدار عدة سنوات يطرق بشق الأنفس أبواب اللاجئين، ويجمع قائمة بالموتى، ويفحص ويراجع كل روح فُقِدَت. وكان الهدف هو تقديم أدلة للمحاكم الدولية لمقاضاة جيش ميانمار في يوم من الأيام على جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، حسب الصحيفة الأمريكية.
عندما أراد الروهينغا إحياء ذكرى مذابح أغسطس/آب 2017 التي حفّزت أكبر هجرة جماعية لهم إلى بنغلاديش، تناول محب الله الجوانب اللوجستية لتنظيم التجمعات التي جرت ضد رغبات قوات الأمن البنغلاديشية. وتحدث بقوة ناعمة.
وبفضل مهاراته في اللغة الإنجليزية وابتسامته السريعة، أصبح محب الله حليفاً للعاملين في المنظمات غير الحكومية البنغلاديشية والدولية، الذين كانوا يحاولون إدارة تدفق الروهينغا إلى البلاد.
ودشّن محب الله منظمة غير حكومية تسمى "Arakan Rohingya Society for Peace and Human Rights- جمعية أراكان للروهينغا للسلام وحقوق الإنسان"- وهو اسم آخر لولاية راخين، موطن الروهينغا في غرب ميانمار.
مسؤولة أممية تقول: لا يمكننا شرح مقدار تفانيه
وقالت يانغي لي، المقررة الخاصة السابقة للأمم المتحدة في ميانمار: "ليس لدي ما يكفي من الصفات لشرح مدى تفانيه لقضية إخوانه وأخواته من الروهينغا".
سافر محب الله إلى أوروبا والولايات المتحدة لرفع مستوى الوعي بمحنة مسلمي الروهينغا، الذين عانوا عقوداً من اضطهاد الدولة في ميانمار. إذ جُرِّد العديد من جنسيتهم، لاسيما بعدما استهدفت ديكتاتورية عسكرية معادية للأجانب الأقليات العرقية.
وبحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استُنزِفَت مجتمعات الروهينغا التي كانت نابضة بالحياة في يوم من الأيام، فقد حدّت السلطات من عبادتهم وتعليمهم ورعايتهم الصحية. وأمرت سلطات ميانمار بأن تتحكم نساء الروهينغا في عدد الأطفال الذين ينجبون؛ حتى لا يتنافس السكان المسلمون مع البوذيين في ولاية راخين.
بعد أن بدأت حكومة مدنية في تقاسم السلطة مع الجيش في عام 2015، اشتدت المذابح ضد الروهينغا. وأكد القادة المنتخبون والضباط العسكريون على حد سواء، أنه لا توجد مجموعة تسمى الروهينغا، مشيرين إليهم بدلاً من ذلك على أنهم بنغاليون، للإشارة إلى أنهم متطفلون من بنغلاديش وليسوا مجموعة عرقية تنتمي لميانمار.
"جردونا حتى من أسمائنا"
وفي خطاب ألقاه محب الله أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف في عام 2019، حاول وصف جميع الطرق التي حُرم بها الروهينغا من إنسانيتهم وجنسيتهم وحتى اسمهم.
وقال: "تخيل أنك لا تملك هوية، ولا عرقاً، ولا بلداً، ولا أحد يريدك. ماذا سيكون شعورك؟ هذا ما نشعر به اليوم بصفتنا من الروهينغا".
لكن قُطِع حديثه بعد دقيقتين من بدايته، بموجب قواعد المجلس.
كان يمكنه اللجوء لأمريكا
وزار البيت الأبيض في العام نفسه، حيث التقى الرئيسَ الأمريكي السابق دونالد ترامب ضمن تجمع للأقليات الدينية المضطهدة من جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أنه كان من الممكن أن يحاول طلب اللجوء أثناء وجوده في الولايات المتحدة أو أوروبا، عاد محب الله بدلاً من ذلك إلى مخيم اللاجئين، بمراحيضه القذرة وملاجئه المزدحمة والانهيارات الأرضية والحرائق القاتلة.
في أغسطس/آب 2017، هاجم مسلحون من الروهينغا من جماعة "جيش إنقاذ الروهينغا أراكان" مواقع للشرطة وقاعدة عسكرية في ولاية راخين؛ مما أسفر عن مقتل نحو 12 من قوات الأمن.
كان الرد شرساً نتيجة زيادة القوات في راخين قبل أسابيع. فقد اقتحم الجنود -في بعض الأحيان بتحريض من الغوغاء المدنيين- قرى الروهينغا، وأطلقوا النار على الأطفال واغتصبوا النساء، وحُرِقَت بعض المجتمعات بأكملها. ووصف أحد مسؤولي حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ما حدث بأنها "حالة نموذجية من التطهير العرقي".
وفي غضون أشهر، فر أكثر من 750 ألفاً من الروهينغا من ديارهم متدفقين إلى بنغلاديش. وكان من بينهم محب الله وزوجته نسيمة بيجوم وأطفالهما التسعة (الذين لا يزالون على قيد الحياة). ومع فشل خطة تلو الأخرى للعودة إلى الوطن، استمر محب الله في دعوة كل من بنغلاديش وميانمار والأمم المتحدة إلى بذل جهود أكبر. فقد كان يفتقد ميانمار.
وقال محب الله: "نريد العودة إلى الوطن، لكن بكرامة وأمان".
وفي مخيمات اللاجئين، ساد الاستياء. فقد ارتفعت معدلات البطالة؛ ومضت الحكومة البنغلاديشية في تنفيذ خطة لنقل بعض الروهينغا إلى جزيرة طينية معرضة للأعاصير، يعتبرها البعض غير صالحة للسكن.
ومدّت قوات الأمن بَكرات من الأسلاك الشائكة لحصر المعسكرات. فيما بحث مسلحو "جيش إنقاذ الروهينغا أراكان" عن مجندين جدد. وجمعت عصابات المخدرات راغبين في العمل بالتهريب. بينما كانت العائلات قلقة من تعرض فتياتها أو أولادها الصغار للاختطاف بغرض استغلالهم في زواج الأطفال أو الخدمة.
رفض تشدد مقاتلي الروهينغا
وتحدث محب الله ضد تشدد جيش الإنقاذ، والشبكات غير المشروعة والمعاملة اللاإنسانية من جانب المسؤولين البنغلاديشيين. ومن أجل سلامته، اضطر أحياناً إلى الاختباء في منازل آمنة في كوكس بازار، أقرب مدينة إلى المخيمات.
وقال أفراد من عائلته إنَّ محب الله تلقى في الأيام الأخيرة من حياته المزيد من التهديدات بالقتل. واتهم شقيقه حبيب الله "جيش إنقاذ الروهينغا أراكان" بتدبير عملية الاغتيال. وقال إنه يعرف بعض المسلحين وروى كيف قالوا إنَّ محب الله لم يكن زعيم الروهينغا بل هم. وفي بيان، قال جيش الدفاع عن حقوق الإنسان إنَّ "مجرمين عابرين للحدود" هم المسؤولون عن القتل.
ويفر قادة المخيم المعتدلون خائفين. معظمهم غير مستعدين للحديث علناً، وأغلقوا هواتفهم. ولو كان محب الله حياً، لما كان خاف من التحدث. كان هذا أسلوبه. وهذا ما يقول أصدقاؤه إنه تسبب بموته.