الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين تحصَّل على نحو 12 مليون وثيقة ومستند تكشف النقاب عن ثروات ومعاملات مالية لقادة عالميين وسياسيين، منهم ملك الأردن، في واحد من أكبر تسريبات الوثائق المالية سموها "باندورا".
الوثائق الجديدة جاءت ضمن سلسلة من التسريبات جرى نشرها على مدار السنوات السبع الماضية حملت أسماء مختلفة مثل "ملفات فنسين" و"وثائق بارادايس"، و"وثائق بنما" و"لوكس ليكس".
وتضم "وثائق باندورا" تسريباً لحوالي 11.9 مليون مستند وملف، حصل عليها أكثر من 600 صحفي شاركوا في التحقيق الاستقصائي، من 14 شركة خدمات مالية تقدم خدمات خارجية في "الملاذات الضريبية" حول العالم، من بينها جزر العذراء البريطانية (فيرجين آيلاندز) وبنما وقبرص وسنغافورة والإمارات ودولة بليز وقبرص وسويسرا، بحسب ما نشره موقع الاتحاد العالمي للصحفيين الاستقصائيين.
عقارات ملك الأردن
أوراق باندورا كشفت عن وجود أسماء حوالي 35 من القادة الحاليين والسابقين وأكثر من 300 مسؤول حكومي في ملفات الشركات التي تتخذ من "الملاذات الضريبية" مقراً لها، ومن بين هؤلاء الملك عبدالله بن الحسين العاهل الأردني، الذي قال التحقيق الاستقصائي إنه يمتلك "سراً" عدداً من العقارات في بريطانيا والولايات المتحدة تبلغ قيمتها 70 مليون جنيه إسترليني (106 ملايين دولار).
وأجرى التحقيق الاستقصائي برنامج بانوراما التابع لهيئة الإذاعة البريطانية و"بي بي سي عربي"، بالاشتراك مع صحيفة الغارديان البريطانية وشركاء إعلاميين آخرين، واستمر التحقيق على مدى عامين وشارك فيه أكثر من 600 صحفي من 117 دولة يمثلون 150 مؤسسة إخبارية.
وكشفت تلك المستندات والوثائق، بحسب القائمين عليها، تفاصيل ما سمّته BBC "الإمبراطورية العقارية لملك الأردن"، التي تم تكوينها من خلال "شبكة من الشركات المملوكة سراً استخدمها الملك عبدالله لشراء 15 عقاراً، منذ توليه السلطة في عام 1999″، وتشمل القائمة "ثلاثة منازل مطلة على المحيط في ماليبو بولاية كاليفورنيا الأمريكية بقيمة 50 مليون جنيه إسترليني، وممتلكات في لندن وأسكوت في المملكة المتحدة".
وتسبب نشر التحقيق في غضب شديد في أروقة الديوان الملكي الأردني، وتم إصدار بيان جاء فيه أن التقارير الصحفية -التي نشرتها وسائل إعلام عالمية حول الوثائق المسربة- "احتوى بعضها على معلومات غير دقيقة، وتم توظيف بعض آخر من المعلومات بشكل مغلوط، شوَّه الحقيقة وقدم مبالغات وتفسيرات غير صحيحة لها".
وأضاف البيان أن الملك "يمتلك عدداً من الشقق والبيوت في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وهذا ليس بأمر جديد أو مخفيّ"، لافتاً إلى أن الملك يستخدم هذه العقارات لاستقبال ضيوف رسميين، فضلاً عن استخدامها من قِبَل أفراد عائلته.
كما اعتبر البيان أن عدم الإعلان عن العقارات الخاصة بالملك "يأتي من باب الخصوصية وليس من باب السرية أو بقصد إخفائها، كما ادعت هذه التقارير"، وأضاف أن "إجراءات الحفاظ على الخصوصية أمر أساسي لرأس دولة بموقع جلالة الملك"، لافتاً إلى أن إبقاء السرية حول العقارات يعود إلى "اعتبارات أمنية أساسية في ضوء تنامي المخاطر الأمنية".
وكان محامو العاهل الأردني قد أكدوا فحوى بيان الديوان الملكي في ردهم على "بي بي سي"، إذ قالوا إن "المعلومات المتعلقة بممتلكات الملك ليست دقيقة أو حديثة، وإن جميع ممتلكاته في الخارج تم شراؤها بثروته الشخصية، والتي يستخدمها أيضاً لتمويل مشاريع تعود بالنفع على المواطنين الأردنيين".
وأضاف محامو الملك أنه لم تُستخدم شركات تتخذ من الملاذات الضريبية مقرات لها لإخفاء ثروة الملك، وأنه من الشائع امتلاك الشخصيات الهامة والشركات الكبيرة أصولاً، والاحتفاظ بها من خلال هذه الشركات لأسباب تتعلق بالخصوصية والأمن، وقالوا إن إدارة هذه الشركات "تجري من قِبَل مختصين لضمان التشغيل السلس للعمليات اليومية، والامتثال لجميع الالتزامات القانونية والمالية الخاصة بالمنطقة التي تخضع هذه الشركات لولايتها القضائية".
هل باندورا تخص ملك الأردن فقط؟
الإجابة لا بالطبع، فنحو 12 مليون مستند كشفت التعاملات المالية لمئات الشخصيات السياسية والزعماء حول العالم، إضافة إلى مشاهير وشخصيات عامة، منها -بحسب مصدر أوراق باندورا- ما يتعلق بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأسرة الرئيس الأذربيجاني ورؤساء أفارقة ومن أمريكا اللاتينية ومسؤولين سياسيين من أوروبا.
فالتسريبات ربطت أيضاً بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبين أصول سرية في موناكو، وكشفت كذلك عن تعامل رئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيس سراً مع شركة استثمار تتخذ من ملاذ ضريبي مقراً لها، لشراء فيلتين مقابل 12 مليون جنيه إسترليني في جنوب فرنسا.
كما وجد التحقيق أن أسرة إلهام علييف، الرئيس الأذربيجاني، وشركاءهم المقربين "متورطون سراً في صفقات عقارية في بريطانيا، تبلغ قيمتها أكثر من 400 مليون جنيه إسترليني"، بحسب "بي بي سي".
الوثائق أوضحت أيضاً كيف تمكَّن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وزوجته من التهرب من دفع 312 ألف جنيه إسترليني، من رسوم الدمغة عندما اشتريا مكتباً في لندن. فقد اشترى الزوجان شركة تتخذ من ملاذ ضريبي مقراً لها، وتلك الشركة تملك المبنى، بحسب نفس المصدر.
الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، بحسب وثائق باندورا، تمكَّن من امتلاك عقارات في بريطانيا وهونغ كونغ، تزيد قيمتها عن 30 مليون دولار عبر شركات ملاذ ضريبي، وأضاف التحقيق: "كينياتا يرتبط بمؤسسة في بنما، بينما أنشأت والدته وإخوته ستة أعمال ومؤسسات خارجية أخرى على الأقل لإدارة أصولهم، وتم إنشاء معظم شركات العائلة قبل انتخاب كينياتا رئيساً".
وتظهر الوثائق أيضاً أن رئيس الإكوادور غييرمو لاسو أودع أموالاً في صندوقين مقرهما في ولاية داكوتا الجنوبية في أمريكا. وإلى جانب هذه الشخصيات السياسية جاء اسم المغنية الكولومبية شاكيرا، في الوثائق، ونجم الكريكت الهندي ساين تندولكار، وعارضة الأزياء الألمانية كلوديا شيفر، وزعيم عصابة إيطالي يعرف باسم "Lell the Fat One".
كما أعلن الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، ناشر الوثائق، أنه لا يستبعد ظهور أسماء جديدة في تحقيق "أوراق باندورا" خلال الأيام والشهور والسنوات المقبلة. وقال متحدث باسم الاتحاد لموقع سبوتنيك الروسي: "نعتزم مواصلة نشر الوثائق. ننوي فعل ذلك خلال الأيام والشهور وربما السنوات المقبلة (…) أنا متأكد من أنه سيكون هناك قصص جديدة".
وعلى الرغم من إقرار القائمين على إعداد التحقيق الاستقصائي بأن الكثير مما تم الكشف عنه من المعاملات الواردة في الوثائق "لا تنطوي على مخالفات قانونية"، فإن فيرغوس شيل، من الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، قال لـ"بي بي سي": "لم يكن هناك أي كشف بهذا الحجم على الإطلاق، ويظهر حقيقة ما يمكن أن تقوم به الشركات التي تتخذ من الملاذات الضريبية مقراً لها، لمساعدة أناس على إخفاء الأموال المشبوهة أو تجنب الضرائب".
ويبدو للوهلة الأولى أن سر تركيز التغطية الإعلامية الغربية على "عقارات ملك الأردن" يكمن في حقيقة أن العاهل الأردني يمتلك بالفعل تلك العقارات، وهو ما لم ينكره بيان الديوان الملكي ولا رد المحامين، كما أن الأمر لا ينطوي على مخالفات قانونية، لكن الملك يعتبر أن "طريقة عرض المعلومات" تحمل نوعاً من التشويه ولذلك هدد بمقاضاة تلك الوسائل الإعلامية.
ماذا يعني "الملاذ الضريبي"؟
الملاذ الضريبي هو منطقة يتمحور النشاط الاقتصادي فيها حول إنشاء شركات تجارية توفر مزايا ضخمة لمواطني البلدان الأخرى الساعين إلى تقليص أعبائهم الضريبية أو التهرب منها (الضرائب المرتبطة بنشاط هذه الكيانات في الملاذ الضريبي إما تكون صفراً أو معدلاً رمزياً)، وتحافظ على سرية هوياتهم، مع قيود قانونية صارمة تجعل من الصعوبة بمكان تحديد المستفيدين الحقيقيين من إيداعات شركة معينة، بحسب تقرير لموقع صحيفة El País الإسبانية.
وعلى مدى السنوات الأخيرة، أصبح العامل الأساسي لتحديد منطقة أو دولة ما على أنها ملاذ ضريبي هو امتناعها أو ميلها الضئيل إلى مشاركة المعلومات مع سلطات البلدان الأخرى. ومع ذلك، لا توجد قائمة دولية أو رسمية تحصر هذه الملاذات، ويتوقف الأمر على كل بلد أن يقرر بنفسه مع من سيوقع اتفاقيات ضريبية أو يشارك معلومات. غير أن هذه الاتفاقيات أتاحت لـ"منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD) تعيين 30 دولة أو نحو ذلك من الدول التي لا تتعاون في المسائل الضريبية.
في عام 2015، نشرت المفوضية الأوروبية تقريرها الخاص عن 30 دولة تعتبرها ملاذات ضريبية. ورداً على ذلك، أبدت بعض هذه الدول "التزامها" التعاون مع الولايات القضائية الأخرى، ونتيجة لذلك تقلصت القائمة إلى 12 منطقة ودولة غير متعاونة، هي: ساموا الأمريكية، وجزيرة أنغويلا البريطانية، ودومينيكا، وجمهورية جزر فيجي، وجزيرة غوام، وجمهورية بالاو، وجمهورية بنما، ودولة ساموا المستقلة، وجمهورية ترينيداد وتوباغو، وجزر فيجي الأمريكية، وجمهورية فانواتو، وجمهورية سيشل.
من يمكنه فتح شركة في ملاذ ضريبي؟
نشأ نشاط اقتصادي يدور بأكمله حول إدارة الخطوات اللازمة لكي يتمكن أي شخص من أي منطقة في العالم من إنشاء شركة سرية في أحد الملاذات الضريبية. وبات بإمكان العميل أن يعتمد على هذه الشركات لإخفاء أي أثر لهويته في الوثائق الرسمية، مثل وثائق تأسيس الشركة وقوائم المساهمين فيها. وتضم وثائق باندورا أسماء مجموعة من أبرز مكاتب الخدمات القانونية والخدمات المالية العاملة في هذا القطاع، مثل Alemán, Cordero, Galindo y Lee (Alcogal) وشركة Trident Trust وشركة Trident Trust.
أن يتملك المرء شركةً في ملاذ ضريبي لا يعد أمراً مخالفاً للقانون بشرط الإعلان عن الأصول والدخل الناتج عن نشاطها لسلطات البلد التي يقيم فيه المستفيد عادةً. وفي واقع الأمر، جرت العادة أن تلجأ الشركات الكبرى التي تعمل في السوق العالمية إلى هيكلة وجودها الدولي بتعيين مواقع مختلفة لشركات تابعة لها في بعض المناطق لتخفيف أعبائها الضريبية بين بلد وآخر.
إذا كان الأمر قانونياً، فلمَ تحظى باندورا بهذه الأهمية؟
تبدأ المشكلة عندما تُخفى هذه الشركات وأرباحها عمداً في هذه الولايات القضائية [الملاذات]، دون الإفصاح عن وجودها للسلطات التي يقيم فيها المالك الحقيقي لأغراض التهرب من الضرائب.
وهو الأمر الذي ينطبق على كثير من الحالات الواردة في وثائق باندورا. وتتخفى خلف تلك الطبقة من السرية تدفقات الأموال غير المشروعة، ما يفتح الباب لعديد من الأنشطة المرتبطة بها، مثل الرشوة وغسل الأموال والتهرب الضريبي وتمويل الإرهاب.
ووفقاً لتقدير المفوضية الأوروبية، يستخدم مواطنو الاتحاد الأوروبي وسائل مختلفة للتهرب الضريبي لتحويل ما يعادل 9.7% من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة إلى هذه الملاذات. وهذا يعني خسارة نحو 53 مليار دولار من عائدات الضرائب كل عام. وتشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى 13.2 تريليون دولار على الأقل مخفية في خارج دولها على نطاق عالمي.
بفضل المعلومات التي أوردتها التسريبات المماثلة لوثائق باندورا، زادت فاعلية الجهود المنصبة على مكافحة الاحتيال الضريبي وغسل الأموال. وظهرت اللوائح التي تحمي المبلِّغين عن المخالفات في الاتحاد الأوروبي، وتعزز تبادل المعلومات المالية بين البلدان.
تعد شركة Alemán, Cordero, Galindo y Lee (Alcogal) البنمية إحدى أبرز الشركات العاملة في هذا المجال، فقائمة المتعاملين معها تضم ما لا يقل عن 253 شركة مرتبطة بدول. ولديها مكاتب في عشرات البلدان، مثل نيوزيلندا وأوروغواي والإمارات ودول أخرى. كما أوردت الوثائق أسماء شخصيات معروفة، مثل الملك عبدالله الثاني ملك الأردن، بين عملاء هذه الشركة.
ورداً على الأسئلة التي طرحها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين في تقريره، أصدرت شركة Alcogal بياناً ذكرت فيه أنها تلبي المتطلبات القانونية للمناطق التي تعمل فيها. وهذا هو الموقف العام للشركات الأخرى الواردة أسماؤها في أوراق باندورا.