يثير صعود القوة النووية الصينية المتسارع، إضافة إلى الأنظمة النووية الروسية الجديدة "المدهشة"، قلقاً كبيراً في الولايات المتحدة الأمريكية، فبالرغم من أن ترسانة الصين النووية أصغر من ترسانة أمريكا أو روسيا، لكنها تزداد تقدماً وبسرعة كبيرة. وفي التقرير التالي نستعرض أسباب قلق واشنطن وذعر البنتاغون من تطور هذه القوة المدمرة لدى كلا الخصمين.
الصينيون في طريقهم نحو نشر قوة نووية مُوسعة جداً
أولاً، يقول تقرير مجلة The National Interest الأمريكية إن اكتشاف الأقمار الصناعية التجارية مؤخراً لثلاثة مواقع بناء صينية لصوامع كبيرة، أدى إلى "إفشاء السر"، ما سمح لكبار مسؤولي الحكومة الأمريكية النوويين بكشف تفاصيل النشاط السري الصيني علناً.
ثانياً، وفقاً لبيل شنايدر، الرئيس السابق لمجلس العلوم الدفاعية، من الممكن أن يكون الصينيون في طريقهم نحو نشر قوة نووية مُوسَّعة جداً. وفي رأيه، يمكن نشر ما يصل إلى 250 صاروخاً صينياً جديداً من طراز Dongfeng-41 كلٍّ منها مُزوَّد بعشرة رؤوس حربية، وهو حشد أكبر بكثير من التضاعف المفترض الذي حذَّرت منه أجهزة الاستخبارات الأمريكية في وقتٍ سابق من هذا العام، 2021.
ثالثاً، يعتقد قائد عسكري نووي أمريكي كبير سابق أنَّ الصينيين بإمكانهم خلال عامين إلى أربعة نشر عدد أكبر من الرؤوس الحربية– بما يصل إلى 3500 رأس- في وقتٍ من المقرر أن يبدأ فيه التحديث النووي الأمريكي في عام 2028 /2029، وسيصل حينها إلى 1550 رأساً حربياً فقط.
رابعاً، يجادل نائب رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة جون هايتن بأنَّ الولايات المتحدة تظل ضمن هيكل "بطيء" (للحصول على الأسلحة النووية) لا يسمح للولايات المتحدة بالرد بصورة أسرع على التهديدات الناشئة تجاه أمنها.
لذا، في حين تبدأ الخطوط العريضة للتهديد النووي الصيني الجديد في الظهور، فإنَّ الخطط والقوة النووية الصينية واتساعها ببساطة غير معروفين بصورة كاملة. إضافة إلى ذلك، لا تخضع تلك القوات لأي تفتيش أو تدقيق من الممكن أن ينتج عن اتفاق ضبط تسلح أو تقديم صيني لمعلومات نووية.
الصينيون يسعون لتشكيل قوة ردع مشابهة لروسيا
وبالتالي يؤدي كل هذا إلى معضلة؛ فبما أنَّ الولايات المتحدة لا تملك تصوراً واضحاً للقوات النووية المستقبلية المتأهبة ضدها، فكيف تخطط إذاً لقوتها النووية المستقبلية ولاتفاق ضبط التسلح المناسب، إن كانت ستبرم اتفاقاً كهذا بالأساس؟ يظل الأمر مرتبطاً بروسيا، وضعاً في الاعتبار ما هو معروف تقريباً عن التهديد الذي تُشكِّله. لكنَّها لا تملك فهماً كاملاً للتهديد الذي تُشكِّله الصين.
فكما أوضح قائد القيادة الاستراتيجية الأمريكية، الأدميرال تشارلز ريتشارد، لا يسعى الصينيون للحصول على قوة ردع محدودة أو صغيرة فحسب، بل قوة ردع مشابهة لروسيا.
من ناحية أخرى، تُعَد القوات النووية الأمريكية محدودة بـ1550 رأساً حربياً رسمياً بموجب الالتزامات التعاهدية، ولو أنَّ الأرقام الرسمية من الحكومة الأمريكية تشير إلى أنها تحتفظ بقوة نووية تتألف من رؤوس حربية أقل بقليل بصفة يومية، كما تقول المجلة الأمريكية. وذلك بسبب حقيقة أنَّ القاذفات الأمريكية ليست في حالة تأهب وليست مُسلَّحة نووياً بصفة يومية.
وتُجري الحكومة الأمريكية مراجعة للوضع النووي مثلما فعلت كل إدارة منذ نهاية الإمبراطورية السوفييتية. لكن فيما يتعزز التهديد النووي النامي، تدفع بعض العناصر في المجتمع الأمريكي، لا سيما في دوائر نزع السلاح، الولايات المتحدة لتقليص دور الأسلحة النووية في سياسة ردعها وتقليص الأسلحة النووية التي تنشرها الولايات المتحدة من جانب واحد.
قد يؤدي هذا إلى مبدأ "الاستخدام الوحيد"؛ إذ ستكون الأسلحة النووية مخصصة فقط لردع استخدام الأسلحة النووية ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وليس رداً على هجوم إلكتروني أو ضربة كهرومغناطيسية كبيرين. وربما تعني مبدأ "عدم الاستخدام الأول"، بحيث لا تبادر الولايات المتحدة أبداً باستخدام الأسلحة النووية.
الصين ليست مستعدة للتفاوض على الحد من قوتها النووية
يجري الدفع بهذه التغييرات في الاستراتيجية جنباً إلى جنب مع تقليصات أحادية في نشر القوة النووية الأمريكية، ربما تتم بصورة غير رسمية بالتنسيق أو بالتوازي مع روسيا.
وقد تلقى أفكار المسار المزدوج- السعي لتقليص الخيارات الأمريكية لاستخدام الأسلحة النووية والسعي لتقليص الرؤوس الحربية الأمريكية لما لا يزيد عن 1000 رأس- رياحاً معاكسة. إذ لم تُظهِر روسيا والصين أي اهتمام بكلا الناتجين. وهددت الصين مؤخراً اليابان وأستراليا بضربات نووية مع أنَّهما بلدان لا يملكان أسلحة نووية ومُوقّعان على معاهدة حظر الانتشار النووي منذ أمد طويل. وربما تكون الصين في طريقها لإنتاج 2500 – 3500 رأس حربي نووي من بنائها للصوامع الجديدة. وليس لدى البلاد حافز كبير للتفاوض على اتفاق يحد من قوتها النووية بدرجة كبيرة.
وفي الغالب لن يكون اتفاق جديد مُقتَرَح مع روسيا أفضل حالاً. إذ تتبنى روسيا سياسة يصفها كبار الخبراء العسكريين والمدنيين الأمريكيين بأنَّها استراتيجية "تصعيد لخفض التصعيد"، أي استخدام عدد محدود من الأسلحة النووية في صراع تقليدي بهدف إجبار الولايات المتحدة على التراجع في حال نشوب أزمة. ومن شأن هذا أن يمنح روسيا سياسة "الانتصار بحكم الأمر الواقع" لتكون سياسة تؤشر على توسيع، وليس تقليص، موسكو لدور أسلحتها النووية في عقيدتها الدفاعية الشاملة.
وبالنسبة لعدد الرؤوس الحربية النووية المنشورة، في حين تُقيِّد معاهدة "ستارت الجديد"- التي مُدِّدَت الآن لخمس سنوات- روسيا رسمياً بـ1550 رأساً حربياً، لا توجد قيود على أسلحة روسيا النووية غير الاستراتيجية قصيرة المدى. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد قيود على عدد من الأنظمة الاستراتيجية المدهشة الجديدة التي تستخدمها روسيا.
أمريكا لم تخُض من قبل صراعاً تقليدياً مع عدو يملك سلاحاً نووياً
قد يؤدي تقليص دور الأسلحة النووية الأمريكية والردع الأمريكي إلى زعزعة ثقة بعض حلفاء أمريكا الذين قاموا تقليدياً بقوة الاقتراحات الأمريكية بتبنّي ما يشبه استراتيجية عدم الاستخدام الأول.
ففي كوريا الجنوبية، يتحدث حزب المعارضة، القلق حيال المظلة النووية الأمريكية أو الردع الموسع، علانيةً عن السعي لحصول كوريا الجنوبية على رادع نووي للتعامل مع كوريا الشمالية المُسلَّحة نووياً والصين التي تزداد عدائيتها.
وفي حين لا توجد دولة جديدة داخل حلف شمال الأطلسي "الناتو" تسعى لتصبح قوة نووية، تبقى المظلة النووية الأمريكية الموسعة جزءاً بالغ الأهمية من تماسك حلف الناتو، وربما تؤدي استراتيجية عدم الاستخدام الأول إلى تقويض ذلك.
كل هذه التطورات بالغة الأهمية أيضاً للردع التقليدي. فواحد من مباعث القلق الرئيسية للجيش الأمريكي هو كيفية الحفاظ على الحاجز بين الصراع التقليدي والنووي. إذ لم تخُض الولايات المتحدة قط صراعاً تقليدياً مع عدو يملك سلاحاً نووياً. لكن الآن لدى الولايات المتحدة خصمان ناشئان يُعدَّان ندّين لها من الناحية التقليدية، روسيا والصين. وكلا البلدين يملكان سلاحاً نووياً.
وبالتالي، في حين ينجح الحفاظ على الردع التقليدي فقط في حال لم يستخدم الطرف الآخر الأسلحة النووية، فإنَّ ضمان الحفاظ على الحاجز بين الصراع التقليدي والنووي قد يصبح صعباً أكثر فأكثر.
أي سياسات جديدة قد تتبعها الولايات المتحدة؟
تقول "ناشيونال إنترست" إن الاقتراحات الأمريكية تتضمن تطوير قدرات لشن ضربة تقليدية بعيدة المدى للتعويض عن دفع روسيا والصين باتجاه استخدام القوات النووية بصورة قهرية. تسعى الولايات المتحدة بالفعل للحصول على هذه التكنولوجيا، لكن علينا أن نفهم أنَّ روسيا والصين تحتجان بهذه التكنولوجيا تحديداً التي يجري تطويرها من جانب الولايات المتحدة كمبرر لتوسيع جهودهما النووية.
يمكن أيضاً السعي للحصول على دفاعات صاروخية أمريكية أفضل وأوسع، لكنَّ الكونغرس قد يبقى متردداً في استخدام الدفاعات الصاروخية الأمريكية ضد أي شيء باستثناء الضربات المحدودة من الدول المارقة مثل كوريا الشمالية أو إيران.
وفي حين تُوضَع احتياجات الردع الأمريكية في كثير من الأحيان استناداً إلى التوازن الثنائي بين الولايات المتحدة وروسيا، فإنَّ القوة الصينية الناشئة التي قد تتجاوز حتى حدود معاهدة ستارت الجديدة، التي تعمل بموجبها الولايات المتحدة وروسيا، تثير تساؤلات حول ما إن كانت قوة الردع الأمريكية المُزمعة من صواريخ GBSD والغواصات من طراز Columbia وقاذفات B-21 ذات القدرات النووية ستكون كافية للحفاظ على الردع.
لقد عملت الولايات المتحدة على مدار الثلاثين عاماً الماضية في إطار حقيقة أنَّ القوات الأمريكية-الروسية تراجعت بصورة كبيرة بموجب المعاهدات النووية المختلفة. في الواقع، تراجعت القوات النووية المنتشرة الخاضعة للمعاهدات بنسبة 90% منذ نهاية الحرب الباردة في عام 1991.
هل يمكن لأمريكا الاعتماد على نموذج مستمر؟
ماذا لو فكَّر المخططون العسكريون الأمريكيون في روسيا والصين باعتبارهما تعملان سويةً بدلاً من موازنة التهديدات النووية التي تفرضها الدولتان بشكل منفصل؟
يشير الرأي السائد إلى أنَّ روسيا والصين لن تتحدا على الولايات المتحدة وتهدداها بشكل متضافر بالقوة النووية. لكن يقول خبراء إن روسيا والصين تعملان معاً في المسائل العسكرية بصورة متزايدة. بل اعترف بعض خبراء نزع السلاح بأنَّه مثلاً في حال اندلع صراع في المحيط الهادئ حول تايوان بين الولايات المتحدة والصين، فإنَّ توصل روسيا إلى قرار بأنَّ العدوان على البلطيق قد يكون من بين الأوراق المطروحة إذا كانت الولايات المتحدة مُشتَّتة أو مشغولة بالرد على العدوان الواقع في منطقة المحيط الهادئ، لن يكون مجرد تكهنات.
فيما تبدأ مراجعة الوضع النووي، تواجه الولايات المتحدة معضلات جدية. ولا بد أن يتساءل مسؤولوها العسكريون حول ما إن كانت الاستراتيجية التي تقوم عليها سياسة الردع النووي الأمريكي الحالية تفترض استمرار معاهدة ستارت الجديدة مع روسيا وأنَّ هيكل القوة المطلوب لا يحتاج إلى أكبر من الهيكل الموجود بالفعل. ولا بد أيضاً من التفكير في ما إذا كان هيكل القوة الذي تبنيه الولايات المتحدة ونظام ضبط التسلح الذي تتوقع تطبيقه سيكونان ملائمين للعاصفة النووية المقبلة أم لا.