أجبرت حرب غزة الأخيرة الرئيس الأمريكي جو بايدن على التركيز على القضية الفلسطينية بشكل مؤقت، فهل يؤدي تجاهل واشنطن لما تقوم به إسرائيل نحو الفلسطينيين إلى تفجير الأوضاع مرة أخرى؟
منذ تولي إدارة بايدن المسؤولية كان واضحاً أن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لا يمثل أولوية لدى واشنطن، ولا حتى القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، لكن انتصار المقاومة على إسرائيل في حرب غزة أجبر الجميع على الاشتباك مع أهم قضية في الشرق الأوسط والعالم.
وكانت تلك الحرب التي استمرت 11 يوماً قد تسبب فيها من الأصل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، من خلال خطط تهجير فلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، وإعطاء الضوء الأخضر للمستوطنين المتطرفين، لتكثيف اعتداءاتهم على المسجد الأقصى، ما أجبر فصائل المقاومة الفلسطينية -وعلى رأسها حماس- على التدخل، في وقت بدا فيه أن إجراءات حكومة نتنياهو اليمينية بحق الفلسطينيين، التي تنتهك القانون الدولي ليلَ نهار، قد أصبحت أمراً لا يأبه له أحد.
وعندما اشتعل الحريق الذي أراده نتنياهو أملاً في البقاء بالمنصب والهروب من محاكمته جنائياً بتهم الفساد، وجدت إدارة بايدن نفسَها في موقف المتفرج، واضطرت إلى الاعتماد على مصر للوساطة لدى الفصائل الفلسطينية وإسرائيل لوقف إطلاق النار، وهو ما تحقّق بالفعل يوم 21 مايو/أيار الماضي.
إدارة بايدن وقضايا الشرق الأوسط
بدا وقتها أن أبرز تداعيات حرب غزة خارجياً هي أن إدارة بايدن بدأت تُبدل أولوياتها، وعادت إلى التركيز على القضية الأهم في الشرق الأوسط، وهي قضية فلسطين، فقام وزير الخارجية أنتوني بلينكن بزيارته الأولى إلى المنطقة، وأجرى بايدن عدداً من الاتصالات الهاتفية مع قادتها، ومنهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وحتى ذلك الوقت لم تكن إدارة بايدن قد عيّنت سفيراً لها لدى إسرائيل ولا لدى السلطة الفلسطينية، كما لم تُعيّن مبعوثاً خاصاً بالصراع العربي-الفلسطيني، وبالتالي أجمع الخبراء والمحللون داخل وخارج واشنطن على أن إدارة بايدن فوجئت بالحريق المتمثل في حرب غزة.
وعنصر المفاجأة بالأساس يرجع إلى حقيقة أن اهتمام الإدارة الجديدة كان مُنصبّاً بشكل جوهري على الأوضاع الداخلية شبه المنهارة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وأن أي ملف في السياسة الخارجية لا ترى الإدارة أنه يصب بشكل مباشر في صالح أحد الملفات الداخلية ليس على رادار الإدارة، على الأقل في عامها الأول.
وفيما يخص قضايا الشرق الأوسط، لم يكن هناك على أجندة بايدن سوى الاتفاق النووي الإيراني، والسعي لإعادة إحيائه، بعد أن كان الرئيس السابق دونالد ترامب قد انسحب منه بشكل أحادي في مايو/أيار 2018.
وبعد أن أجبرت صلابة فصائل المقاومة الفلسطينية وقدرتها على توجيه ضربات موجعة للعمق الإسرائيلي جميع الأطراف على السعي بشكل بدا جاداً -وقتها- لحل أسباب الصراع هذه المرة، وليس فقط إدارته، وكانت إدارة بايدن أحد تلك الأطراف التي بدا أنها أعادت ترتيب أجندتها لتضع القضية الفلسطينية في مكانة متقدمة منها.
لكن مع مرور الوقت بدأت الأمور تعود تدريجياً إلى ما كانت عليه قبل حرب غزة الأخيرة، فتراجعت إدارة بايدن عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وبدا التركيز منصبّاً من جانب إسرائيل والقوى الإقليمية، خصوصاً مصر والأردن، على "تثبيت الهدوء" في قطاع غزة، مع استمرار خطط تل أبيب لتهويد القدس والتوسع في الاعتداءات المتكررة من جانب قوات الاحتلال والمستوطنين على الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وداخل أراضي الخط الأخضر.
بايدن رفض لقاء عباس
رغم تكثيف إدارة بايدن تواصلها مع السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، في أعقاب وقف إطلاق النار في غزة، في مايو/أيار الماضي، وتقديم وعود سخية بمساعدات اقتصادية بهدف تقوية السلطة كبديل عن حركة حماس في المفاوضات مع إسرائيل، فإن رفض الرئيس الأمريكي عقد لقاء مع محمود عباس بناء على طلب الأخير يُظهر أن القضية الفلسطينية لم تعُد على أجندة واشنطن مرة أخرى.
وجاء الكشف عن موقف بايدن من عباس من جانب تقرير لموقع Axios الأمريكي، رصد كيف رفض البيت الأبيض طلباً من رئيس السلطة الفلسطينية للقاء مع نظيره الأمريكي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وهو تصرّف غير معتاد أن يرفض رئيس أمريكي عقد لقاء مع مسؤولي السلطة الفلسطينية، بحسب قراءة الموقع.
وقال مسؤولو البيت الأبيض للفلسطينيين إن بايدن لن يجري أي لقاءات ثنائية على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، كما أن جدوله مزدحم للغاية، ولن يسمح بلقاء مع عباس في واشنطن عقب العودة من نيويورك، بحسب أكسيوس.
ورغم أن بايدن لم يقضِ وقتاً طويلاً في نيويورك بالفعل، وعاد إلى واشنطن بعد إلقاء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن الرئيس الأمريكي عقد بالفعل ثلاثة لقاءات ثنائية، وهو ما يؤكد أن الرئيس الأمريكي لا يرى أن العمل على حل سياسي للقضية الفلسطينية "أمر ملح".
وفي خطابه أمام الأمم المتحدة، الثلاثاء 21 سبتمبر/أيلول، أكد بايدن على أنه "يؤيد حل الدولتين، لكنه أضاف "نحن في هذه اللحظة بعيدين جداً عن تحقيق هذا الهدف". أما عباس، الذي لم يتوجه إلى نيويورك من الأساس وأرسل كلمة مسجلة بُثت في الأمم المتحدة، فقد وجّه "إنذاراً" مدته عام واحد لتحقيق هدف الفلسطينيين، وتأسيس دولتهم المستقلة، طبقاً للقرارات الدولية.
ووجّه عباس انتقادات لإدارة بايدن بطريقة غير مباشرة، إذ قال إن "بعض الدول ترفض الاعتراف بحقيقة كون إسرائيل قوة احتلال، تمارس الفصل العنصري والتطهير العرقي"، مضيفاً أن "تلك الدول تعلن بفخر أنها تتشارك نفس القيم مع إسرائيل. أيّ قيم مشتركة تقصدون؟ لقد شجّع موقفكم هذا إسرائيل على أن تتمادى في غيها، وسمح لها بانتهاك جميع قرارات الأمم المتحدة".
ماذا يعني ذلك للأوضاع في الأراضي المحتلة؟
نفتالي بينيت، رئيس وزراء إسرائيل، لم يتطرق للقضية الفلسطينية من الأساس في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي ركزت على إيران وبرنامجها النووي، وكيف تخطت طهران جميع الخطوط الحمراء، واستعداد تل أبيب لمهاجمة طهران منفردة، حسب ما قاله.
المعطيات الحالية تشير إلى أن حلاً سياسياً للقضية الفلسطينية ليس على أجندة أي من الأطراف، باستثناء أصحاب القضية أنفسهم بالطبع، وهو ما يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل اشتعال الحريق الأخير، أي حرب غزة التي خرجت منها حركات المقاومة الفلسطينية بانتصار لم يتوقعه أحد، ما يجعل سؤال "هل تتفجر الأوضاع مرة أخرى" غير دقيق، وإنما الأدق هو "متى تنفجر الأوضاع مرة أخرى؟".
فإسرائيل من جانبها تُواصل اعتداءاتها المتكررة في القدس الشرقية المحتلة، سواء من حيث تهجير الفلسطينيين من ديارهم أو الانتهاكات المتكررة، من جانب المستوطنين المتطرفين للمسجد الأقصى في حماية قوات الاحتلال، وهي نفس الاعتداءات التي أوصلت الأمور إلى عملية "سيف القدس" الأخيرة أو حرب غزة.
وفي هذا السياق، قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، الأربعاء 29 سبتمبر/أيلول، إن بايدن وبينيت "لا يقبلان بأي حلّ سياسي حتى ولو كان دولة فلسطينية على حدود عام 1967".
وأضاف هنية بلقاء تلفزيوني على قناة "A HAABER" التركية، بحسب بيان نشره الموقع الإلكتروني للحركة: "بايدن وبينيت لا يقبلان بأي حلّ سياسي للقضية (الفلسطينية)، حتى ولو كان دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وانتخابهما لن يغير كثيراً في مسار الاحتلال".
وأكد رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة التي تدير قطاع غزة أن "الحكومة الإسرائيلية ماضية في سياسة الاحتلال واغتصاب الأراضي والانتهاكات بحق شعبنا الفلسطيني في الضفة وغزة".
وتابع هنية: "لا نعتقد أن أي شيء سيتغير في سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، لأن هناك عدداً من المصالح العليا المتوقعة بين الطرفين، وكل هذه المصالح مرتبطة ببعضها البعض".
وحول "اتفاقيات السلام" التي حصلت بين دول عربية و"إسرائيل"، شدّد هنية على أنّ حركته "تنظر بعين الأسف لهذا التقارب".
وأردف أن "بعض الدول العربية ترى أن شرعيتها مرتبطة بالولايات المتحدة، وهذه الدول تعتقد كذلك أن الطريق إلى الولايات المتحدة يمر أيضاً عبر تل أبيب، لكن هذا لا يعكس الواقع". وتابع رئيس "حماس" أنّ "علاقات الحكومات العربية بالاحتلال لا تعني قبول تلك الشعوب العربية للكيان الإسرائيلي، ولا لاتفاقيات التطبيع الموقّعة مؤخراً".
فرغم أن قطار التطبيع مع إسرائيل قد بدا أنه تعرض لحادث أخرجه عن مساره أثناء حرب غزة الأخيرة، فإن ذلك القطار يبدو وكأنه قد عاد للسير مرة أخرى، رغم استمرار الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين دون تغيير، وإن حدث تغيير فهو للأسوأ، بحسب مسار الأحداث على الأرض.
الخلاصة هنا هي أن الأجواء التي تسود الأراضي الفلسطينية المحتلة حالياً تذكّر بالأجواء التي أدّت إلى اندلاع الانتفاضة الثانية قبل 21 عاماً، ومع تجاهل بايدن للسلطة الفلسطينية يبدو أن انفجار الأوضاع في فلسطين مسألة وقت، بحسب أغلب المحللين.