بعد تجارب مبكرة اختبرت فيها برامج العلاج النفسي، العقاقير المُخِلَّة بالنفس (التي يشيع تعريفها باسم المهلوسات أو العقاقير السايكدلية psychedelics) في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي أعقبها عقود من الحظر- تأثرت في جزء منها بالحملات العنيفة على ثقافة "الهيبي" المضادة لقيم المجتمعات الغربية- ها هي المهلوسات تعود فيما يشبه البعث الجديد. فقد عادت موجة جديدة من الدراسات إلى توصيف عقاقير الهلوسة كترشيحات محتملة لعلاج الحالات النفسية المستعصية.
يقول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، إن كثيراً من الأشخاص اليائسين من عجز الأدوية المعروفة عن علاجهم، بدأوا البحث عن العقاقير غير المشروعة. في المقابل، سارع الخبراء إلى التحذير من مخاطر العلاج الذاتي للأمراض النفسية باستخدام العقاقير المخدرة.
عقاقير الهلوسة تشهد عودة بعد عقود من التجريم والتحريم
ومع ذلك، فإن الاستخدامات العلاجية للعقاقير والمواد غير القانونية- مثل المادة المعروفة باسم "إكستاسي" (MDMA)، ومادة الـ"دي إم تي" (DMT)، وفطر السيلوسيبين (psilocybin) المعروفة باسم الفطر السحري- يجري اختبارها الآن في دراسات إكلينيكية طبية.
ويقول الدكتور مارتن ويليامز، المدير التنفيذي لقسم البحوث الخاصة بالعقاقير السايكدلية في دورية Science & Medicine، إن عقاقير الهلوسة تشهد عودة بعد عقود من وصم أي طبيب يُقدم على ترشيحها بالإتيان بفعل أقرب إلى "الانتحار الوظيفي".
الدكتور ويليامز، وهو أيضاً الباحث في جامعة موناش الأسترالية، يشارك حالياً في قيادة دراسة إكلينيكية تُجرى في مستشفى سانت فنسنت ملبورن للعلاج النفسي، ويُستخدم فيها فطر السيلوسيبين لعلاج القلق والاكتئاب في أشخاص يعانون الإصابة بأمراض عضال.
تشمل الدراسة، التي من المقرر أن تستمر حتى عام 2023، 40 شخصاً يعانون أمراضاً مزمنة مثل داء الانسداد الرئوي المزمن (COPD) وداء العصبون الحركي، وتنطوي على تلقي جرعة واحدة أو جرعتين مكونتين من 25 ملليغراماً من السيلوسيبين بالتزامن مع العلاج المعتاد.
"تغييرات إيجابية"
تأتي تلك التجربة بعد دراسات أمريكية ناجحة لهذا العقار في مرضى يعانون القلق والاكتئاب المرتبطين بأمراض السرطان المهددة للحياة. وفي دراسات شملت متابعة طبية لمدة 4 سنوات ونصف، عزا المشاركون "فيضاً من التغييرات الإيجابية التي شعروا بها إلى تجربة العلاج بمساعدة السيلوسيبين وأفصحوا عن تأثيرات إيجابية شخصية وروحية في حياتهم بفضل العقار". كما وجدت تجربة أخرى شبيهة تأثيرات مفيدة للعقار المهلوس المعروف باسم "إل إس دي" (LSD).
هذه النتائج دفعت الدكتور ويليامز إلى القول إن "استخدام العقاقير المهلوسة.. تحت أي آلية، يبدو أنه يدفع باتجاه تحسنٍ كبير عن العلاجات القياسية المعروفة".
التأثير في كيمياء الدماغ
تعمل العقاقير المهلوسة التقليدية- مثل الـ"دي إم تي" والـ"إل إس دي" والـ"ميسكالين" والـ"سيلوسيبين"- عملها في الدماغ عن طريق الارتباط بأنواع معينة من مستقبلات السيروتونين المعروفة باسم مستقبلات "إتش تي 2 إيه- 5" HT2A-5. ويُعتقد أن تأثيرها في تحفيز هذه المستقبلات يؤدي إلى تأثيرات الهلوسة التي تطلقها العقاقير، بالإضافة إلى تحويرات في الإدراك والشعور بانحلال الهوية والانفصال عن النفس.
يُعتقد أيضاً أن تلك العقاقير تثبط ما يُعرف في العلوم الطبية العصبية باسم "شبكة الوضع الافتراضي"، وهي شبكة دماغية واسعة النطاق التي تنشط في حالات الراحة اليقظة، مثل أحلام اليقظة والشرود الذهني، كما يُعتقد أنها منطقة دماغية مهمة في تكوين إحساسنا بذواتِنا، تنشط أحياناً بكثافة في الأشخاص الذين يعانون أمراض القلق والاكتئاب.
من جانبه، يقول البروفيسور جيروم ساريس، أحد مديري معهد الدراسات النفسية الذي أُنشئ في مدينة ملبورن الأسترالية، إن الإمكانات التي تنطوي عليها عقاقير السايكدليك أشبه بـ"المنعطف الفارق في تاريخ الطب النفسي التقليدي". يأتي ذلك فيما يخطط معهده البحثي لإجراء تجارب إكلينيكية في عام 2022 على مزيج الآياهوسكا لعلاج الاكتئاب واضطرابات إدمان الكحول.
أحد العقاقير التي أظهرت نتائج واعدة في علاج اضطراب ما بعد الصدمة، عند استخدامه مع العلاج التقليدي، هو عقار الإكستاسي الشهير. وفي الولايات المتحدة، وجدت تجربة إكلينيكية وصلت إلى المرحلة الثالثة- المرحلة الأخيرة للدراسة قبل التفكير في طرحه للموافقة عليه كعقار جديد- أنه "شديد الفاعلية" وآمن الاستخدام مع الأشخاص الذين يعانون اضطراب ما بعد الصدمة من النوع الحاد.
المتطلبات التنظيمية
على الرغم من تلك النتائج الواعدة للدراسات، فإن أياً من تلك المهلوسات لم ينجح في الوصول إلى المستوى المطلوب من الأدلة الإكلينيكية التي تكفي للسماح بإدراجه للاستخدام بطريقة قانونية في إدارة السلع العلاجية الأسترالية (TGA).
ويشدد البروفيسور دانييل بيركنز، الذي كان يتولى مدير المكتب المختص بدراسة الاستخدامات الطبية للقنب في وزارة الصحة الأسترالية، على أن المهلوسات لا تشكل سوى جزء من العلاج، والأساس هو العلاج النفسي، وأن أي موافقة على الدواء ستكون مشروطة باتباع بروتوكولات العلاج التي اجتازت الفحص عن طريق التجارب الإكلينيكية.
في فبراير/شباط، اتخذت إدارة السلع العلاجية الأسترالية قراراً مؤقتاً برفض اقتراح إعادة تصنيف الـ"إم دي إم إيه" والـ"سيلوسيبين" من العقاقير المحظورة إلى مواد خاضعة للرقابة. وقد أرجأت اتخاذ قرار نهائي إلى حين صدور تقرير مستقل حول المخاطر والفوائد العلاجية لتلك العقاقير، وهو تقرير من المنتظر طرحه الأسبوع المقبل.
"لا حلول سحرية"
في السياق، يقول أحد المرضى الذي يدعى مايكل ريموند، بعد معاناته لسنوات من "اضطراب ما بعد الصدمة" (PTSD) والقلق والاكتئاب بسبب خدمته العسكرية ومروره بتجارب الاقتراب من الموت في الحرب، إن الأطباء وصفوا له مضادات الاكتئاب وخضعَ لعلاجات نفسية مختلفة، لكن دون جدوى، ويضيف: "كدت أقتل نفسي في مرحلة ما. كنت عاجزاً عن الاستمرار".
إلا أنه بدأ في تناول مشروب الـ"آياهواسكا"، الذي يحتوي على مادة "ثنائي ميثيل التريبتامين" N,N-Dimethyltryptamine، أو الـ"دي إم تي" (DMT) المهلوسة وعصارة صبار "سان بيدرو" المخدرة، أشبه بالملاذ الأخير بالنسبة له.
ويقول ريموند لصحيفة الغارديان، إن حياته تحسنت تحسناً كبيراً منذ أن تعاطى مشروب آياهواسكا في أمريكا الجنوبية، لكنه يدرك أن تلك التجربة لم تكن حلاً سحرياً لما يعانيه، ويقول إنه "لا يزال لديه مشكلات يجب عليه علاجها". وهو يدرس الآن ويعمل على إرشاد أشخاص آخرين يعانون مشكلات نفسية في تجاوز التجارب الصعبة التي عاشوها في أثناء حياتهم العسكرية.