صعود صيني وتراجع أمريكي.. كيف تتسبب معركة القوى الكبرى بالضغط على دول الخليج؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/09/23 الساعة 12:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/09/23 الساعة 13:03 بتوقيت غرينتش
الرئيس الصيني وولي العهد السعودي محمد بن سلمان أرشيفية/ رويترز

تُعَد دولة الإمارات العربية المتحدة منذ أمد طويل واحدةً من أقرب شركاء أمريكا في الشرق الأوسط، فهي تستثمر بقوة في الأصول الأمريكية، وتشتري ما قيمته عشرات المليارات من الأسلحة الأمريكية، وتدعم القوة العظمى في العمليات العسكرية، من الصومال حتى أفغانستان، وحتى ضد مسلحي القاعدة في اليمن.

لكنَّ علاقاتها الآخذة في التعمّق مع الصين تضيف طبقةً من التوتر إلى التحالف في ظلّ اتخاذ واشنطن موقفاً أكثر صرامة تجاه بكين، وإثارتها المخاوف بشأن التداعيات الأمنية المحتملة لشركائها الذين يستخدمون تكنولوجيا صينية، مثل شبكة اتصالات الجيل الخامس لشركة هواوي. 

دول الخليج بين مطرقة أمريكا وسندان الصين

حول ذلك، يقول تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية، إنه من المنتظر أن يصبح الأمر أكثر حساسية للإمارات، في ظل استعدادها لتولّي مقعد مؤقت في مجلس الأمن الدولي، في يناير/كانون الثاني المقبل، وهي واعية تماماً بمخاطر انضغاطها بين المصالح المتنافسة للقوتين العظميين، أمريكا والصين.

بسبب ذلك، حين حطَّ أول مسؤول إماراتي كبير في واشنطن لمقابلة إدارة جو بايدن، كانت الرسالة التي سعت الدولة الخليجية للترويج لها هي "قوة واستمرارية" الشراكة بين البلدين، لكن حين جلس أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، مع نظرائه الأمريكيين، في يوليو/تموز الماضي، كانت علاقة أبوظبي مع الصين هي محط تركيز معظم النقاشات، كما تقول الصحيفة البريطانية.

ويقول مصدر مطلع على نقاشات قرقاش في واشنطن لفايننشيال تايمز: "كان بإمكان ما تُسمَّى بالدول المتوسطة أن تتجنَّب في الماضي القيام بخيارات، لكن ستخضع الإمارات لتمحيص متزايد من كلا الجانبين، وفق الكيفية التي ستصوت بها، والإشارات التي تقدمها حين تكون في المجلس. وقد أرادت الولايات المتحدة خوض نقاش بشأن هذا وبشأن الحساسيات المتعلقة بالصين عموماً".

إنَّها عملية موازنة تعاني معها الإمارات ودول الخليج الأخرى منذ بدأت الصين توسيع بصمتها الاقتصادية والسياسية في أرجاء الشرق الأوسط قبل عقدين، وباتت بكين الآن أكبر مشترٍ للنفط الخام من منطقة الخليج. وهو اتجاه تصادف مع تصورات لدى حكام الخليج بأنَّ المؤسسة السياسية الأمريكية عازمة على الانسحاب من المنطقة، وهو الشعور الذي فاقمه انسحابها الفوضوي من أفغانستان، في أغسطس/آب الماضي.

صعود صيني وتراجع أمريكي في الخليج العربي

يقول عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية الإماراتي، المقرب من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، للصحيفة البريطانية: "هناك نقص في الثقة مع أمريكا يتنامى يوماً بعد يوم، والاتجاه يشير إلى صعود الصين وتراجع الولايات المتحدة على كل الأصعدة، ليس فقط اقتصادياً، بل أيضاً سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً في السنوات المقبلة، ولا يوجد ما يمكن لأمريكا عمله حيال ذلك".

نظر قادة الخليج إلى واشنطن طوال عقود باعتبارها ضامنة أمنهم، في حين نظرت إليهم الولايات المتحدة باعتبارهم موردين موثوقين للطاقة العالمية، لكنَّ واردات النفط الأمريكية من المنطقة تراجعت على نحو ملحوظ على مدى السنوات العشر الأخيرة، نتيجة طفرة الغاز الصخري في أمريكا الشمالية، على النقيض من ذلك تزايد الطلب على النفط في آسيا بقوة، وازدهرت العلاقة الصينية الخليجية في ظل تعمق العلاقات الاقتصادية لتصبح اليوم علاقة أوسع بكثير من مجرد النفط.

وفي ظل وجود جيل أكثر شباباً وطَموح من قادة الخليج على رأس السلطة يسعون لتحديث بلدانهم، فإنَّهم يتطلعون على نحو متزايد إلى الاستفادة من التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي الصينيَّيْن من أجل المدن الذكية، وكذلك الطائرات المسلحة بدون طيار والرعاية الصحية والطاقة المتجددة.

يقول دبلوماسي أمريكي مخضرم للصحيفة البريطانية، إنَّ عامل الصين أصبح بالفعل "نقطة خلاف حقيقية" في العلاقات مع الإمارات.

في المقابل، يُصِرُّ المسؤولون الخليجيون على أنَّ واشنطن تظل حليفتهم رقم واحد، مستشهدين بالعلاقة الأمنية التاريخية والاستثمارات الهائلة في الولايات المتحدة، وكذلك العلاقات الثقافية التي تطورت في ظل دراسة الشباب العرب في مدارس وجامعات أمريكا، والتمتع بأفلامها ومسلسلاتها وموسيقاها. ويضيفون أنَّه لا يوجد احتمال بأنَّ تستبدل الصين الولايات المتحدة لتكون القوة العسكرية الخارجية المهيمنة في المنطقة، أو المُصدِّر الرئيس للأسلحة إلى القوى الخليجية.

لكن في ظل سعي القادة الأكثر حزماً في السعودية والإمارات- أكبر اقتصادين في الشرق الأوسط وشريكين تقليديين للولايات المتحدة- لتنويع علاقاتهم وإبراز قوتهم من خلال تحالفات أوسع يزداد تطلُّعهم شرقاً.

لماذا أصبحت الصين الوجهة الأكثر تفضيلاً لدول الخليج عن واشنطن؟

يبدو ذلك خياراً براغماتياً، إذ توفر الصين تكنولوجيا أرخص وأكثر توافراً بسهولة من الخيارات الغربية، وتكنولوجيا الجيل الخامس لشركة هواوي مثال ممتاز على ذلك، وبكين أيضاً مستعدة لبيع معدات لدول الخليج لا تبيعها واشنطن، وبدون شروط سياسية.

يقول علي الشهابي، المحلل السعودي للصحيفة البريطانية: "سيتم إنجاز المزيد والمزيد مع الصين لأسباب واضحة، أولاً فالصينيون مستعدون لنقل التكنولوجيا وليس لديهم كونغرس لمضايقتك، وثانياً فالصين هي أكبر أسواقنا، وثالثاً للصين نفوذ على إيران (منافسة السعودية). وهي تقريباً حليف إيران القيِّم الوحيد، وهي مهمة جداً للسعودية".

ويستشهد الشهابي بقرار استخدام شبكة الجيل الخامس لهواوي في مدينة نيوم، وهو مشروع التنمية الرئيسي لولي العهد محمد بن سلمان، الذي تبلغ قيمته 500 مليار دولار، ويتضمن إنشاء مدينة مستقبلية، باعتباره مثالاً على العلاقة المزدهرة، في حين "كان الأمريكيون ضده (المشروع) تماماً".

وتبني شركة التكنولوجيا بالفعل أكبر منافذ التجزئة لديها بالخارج في المملكة، في ظل تعزيز الصين موقعها باعتبارها أكبر شريك تجاري للسعودية. وتزايدت التجارة على مدار العقدين الماضيين بين الجانبين، من أقل من 4 مليارات دولار عام 2001 إلى 60 مليار دولار عام 2020، نصفها تقريباً كانت واردات صينية.

يقول مسؤول سعودي كبير: "إنَّنا لا نتحول حقاً نحو الصين، لكن علينا أن نكون على توافق مع الصين، وفيما يتعلق بشبكة الجيل الخامس، لم يكن الأمر عبارة عن مسألة (سنختار شبكتهم بدل شبكتكم)، بل كان يتعلق باختيار أفضل المتاح. افعلوا المثل وسنشتري منكم، لكن علينا حماية مصالحنا، وبالتالي طوِّروا تكنولوجيتكم أو سنطوِّر نحن تكنولوجيتنا".

معركة النفوذ الإقليمي في الخليج العربي

كانت المملكة، التي كانت في السابق خصماً قوياً للشيوعية وداعمة لتايوان- التي تُصنِّفها الصين مقاطعة منشقة- متأخرة عن العالم العربي حين أقامت علاقات رسمية مع الصين عام 1990. كانت جذور هذه الخطوة تكمن جزئياً في الإحباط الذي شعر به حكام السعودية تجاه واشنطن.

ففي منتصف الثمانينات، كانت المملكة ترغب بشدة في الحصول على صواريخ من الولايات المتحدة لردع إيران، وحين رفضت واشنطن الطلب، تواصل الملك فهد سراً مع بكين ورتَّب شراء صواريخ باليستية صينية. ويقول المسؤول السعودي: "كانت هذه رسالة بصورة ما من الملك فهد، مفادها أنَّه (يمكننا فعل ذلك)، وسنشتريها".

وفي الآونة الأخيرة، كان رفض الولايات المتحدة بيع طائرات مسلحة دون طيار لدول الخليج هو ما دفع كلاً من الرياض وأبوظبي لشراء أسلحة من الصين بدلاً منها.

وفي عام 2020، حين ضرب فيروس كورونا المنطقة، لجأت الإمارات إلى الصين بعدما جابت العالم بحثاً عن موارد للتعامل مع المرض. فسرعان ما أقامت "المجموعة 42″، وهي شركة تابعة للدولة يترأسها الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني الاتحادي، مع شركة BGI الصينية لافتتاح مختبر لفيروس كورونا في أبوظبي، وإجراء تجارب من أجل التوصل إلى لقاح.

على النقيض من ذلك، حين تواصل خلدون المبارك، وهو واحد من أكثر مساعدي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، القائد الفعلي للإمارات، موثوقية، مع شركة Honeywell لتوفير معدات الحماية الشخصية التي كانت توجد حاجة ماسة لها، لم تتمكن الشركة من إمداد الإمارات بها بسبب حظر أمريكي على تصدير معدات الحماية الشخصية. وورَّدت شركة Honeymoon في النهاية الإمدادات من فرعها في الصين، إذ سمحت بكين بشحن المعدات للإمارات، قبل أن تنشئ مشروعاً مشتركاً مع صندوق "مبادلة"، وهو صندوق استثماري تابع للدولة، لتصنيع المعدات في الدولة الخليجية.

وصرَّح المبارك، مدير صندوق مبادلة والممثل الإماراتي الخاص للعلاقات مع الصين، لصحيفة The Financial Times البريطانية، هذا العام، بأنَّه تم استثمار أكثر من 100 مليار دولار من أصول الصندوق التابع للدولة البالغة 232 مليار دولار في الولايات المتحدة، قبل أن يضيف أنَّ الصندوق يتطلَّع لزيادة استثماراته في القوى الآسيوية. وقال المبارك: "كل المجالات التي نودها تتمتع بمسار نمو كبير في الصين".

وقال مسؤول إماراتي كبير آخر إنَّه لا يعتقد أنَّ علاقات بلاده مع الصين ستعرِّض علاقات أبوظبي مع الولايات المتحدة للخطر.

مع ذلك، تتعرَّض فكرة أنَّ العلاقات لن يكون لها تأثير على العلاقات مع واشنطن للاختبار باستمرار، وآخر مثال على ذلك هي المخاوف الأمريكية من أنَّ بيع مقاتلات F-35 للإمارات يهدد بوصول الصين إلى بعضٍ من أحدث التقنيات العسكرية الأمريكية.

فقال الجنرال كينيث ماكينزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية، في ندوة عبر الإنترنت هذا العام: "أشعر بالقلق حيال ذلك، لكن أعتقد أنَّنا نعمل بجد داخل الولايات المتحدة ومع شركائنا الإماراتيين لضمان حل المسألة بصورة مُرضية".

تعميق العلاقات الخليجية مع الصين بشكل أكبر

اتخذت السعودية والإمارات خطوات رسمية لتعميق علاقتيهما مع الصين في السنوات الأخيرة. وأصدرت بكين في يناير/كانون الثاني 2016، أول "ورقة سياسات عربية" لها، والتي تناولت كل شيء، بدءاً من الأمن إلى التجارة ومكافحة الإرهاب. واتفقت السعودية والصين في الشهر نفسه على تأسيس "شراكة استراتيجية شاملة" لتعزيز العلاقات السياسية والثقافية والأمنية والعسكرية خلال زيارة من الرئيس الصيني شي إلى المملكة. 

وتسعى دول الخليج للاستفادة من "مبادرة الحزام والطريق" لبكين، وقد ربطها الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للسعودية في الشؤون اليومية، المبادرة بخطته المعروفة باسم "رؤية 2030".

واتفقت الإمارات والصين على تأسيس "شراكتهما الاستراتيجية الشاملة" مع التركيز على العلاقات الاقتصادية ونقل التكنولوجيا وتكنولوجيا المعلومات والطاقة، حين زار الرئيس الصيني أبوظبي عام 2018، لكن هناك أيضاً جوانب سياسية وعسكرية لهذه الاتفاقيات.

فأدرج تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) حول القوة العسكرية للصين، صدر العام الماضي 2020، الإمارات ضمن الدول التي يُعتَقَد أنَّ بكين "على الأرجح فكَّرت فيها" لتكون مواقع لـ"منشآتها اللوجستية العسكرية". ومن منظور خليجي، توفر الصين شيئاً لا تستطيع الولايات المتحدة والغرب توفيره، وهو نموذج تنمية تقوده الدولة يتردد صداه لدى حكام الخليج السلاليين.

تُقدِّر دول الخليج والصين أيضاً التعهدات بعدم التدخل في الشؤون الداخلية. فحين كان معظم العالم الغربي يوبخ الأمير محمد بن سلمان في الأشهر التي تلت اغتيال جمال خاشقجي على يد عملاء سعوديين في 2018، استُقبِل ولي العهد بحرارة في بكين. ولم يصدر الأمير بن سلمان، الذي يُعَد والده خادم الحرمين الشريفين، أي تعليقات علنية عن الاحتجاز الجماعي الصيني لأقلية الإيغور ذات الغالبية المسلمة، بل قال وفقاً لرواية وزارة الخارجية الصينية عن اجتماعه مع الرئيس شي، إنَّ لبكين "الحق في اتخاذ إجراءات مكافحة الإرهاب والتطرف لحماية الأمن القومي".

ونقلت وكالة Associated Press الأمريكية، في أغسطس/آب الماضي، عن سيدة صينية قولها إنَّها كانت مُحتَجَزة في مركز احتجاز سري في دبي مع اثنين على الأقل من الإيغور. نفت شرطة دبي ادعاءات المرأة بأنَّها "كاذبة"، وأصرَّت على أنَّها لم تُحتَجَز.

يعتقد جوناثان فولتون، الخبير في علاقات الصين والشرق الأوسط بجامعة زايد في أبوظبي، أنَّه لا يزال لدى الولايات المتحدة القدرة على التأثير على اتجاه العلاقات بين الصين والخليج، لكنَّه يضيف "أنَّه من المستحيل أن تتمكن من وقفها".

ويتبنّى آخرون وجهات نظر أكثر حدة، لاسيما إذا سعت واشنطن للضغط على قادة الخليج، مثل ولي العهد السعودي، فيما يتعلق بحقوق الإنسان والقضايا الأخرى.

فيقول الشهابي: "أعتقد أنَّ الصين ستتسلل وتحصل على المزيد من حصة أمريكا في السعودية، لأنَّ كل مشاحنة يفتعلها الأمريكيون مع المملكة تشجعهم (الصينيين) أكثر وحسب"، حسب تعبيره.

تحميل المزيد